دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(1)
حول مسرح السيد حافظ
بقلم : ســــعد أردش
دراسة من كتاب
إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى
الســيد حــافظ
)نموذجاً(
حول مسرح السيد حافظ
بقلم : ســــعد أردش
السيد حافظ من مواليد الاسكندرية فى 1948 ولكل منا تاريخ ميلاده ومكانه دلالة استدل عليها من قراءتى لكل تجاربه المسرحية، وبوجه خاص المسرحيتين موضوع هذا الكتاب.. فأما عن التاريخ فأنت محفور بالدم والدموع فى السجل المعاصر للأمة العربية بحروف من ذل وعار وضياع فلسطين، وقيام اسرائيل تحقيقاً لوعد بلفور ولأحلام التلمود على أرضها.. وفى بياراتها، وعلى دماء شهدائها، وكانت جيوش العرب فى قلب المعركة..
وعندما أتم السيد حافظ عامه التاسع عشر أصابت الأمت العربية هزيمة أخرى مدوية، على يد الجيش الاسرائيلى، كخطوة على طريق الحلم الكبير.. من النيل إلى الفرات.. وكانت جيوش العرب فى قلب المعركة...
كاتبنا إذن من جيل عاش صباه ويعيش شبابه ملتاعاً يكتوى بسلسلة من الهزائم الوطنية القومية.. وكان من الممكن أن يعيش عصر التحرر، والاشتراكية، والعدالة، والعتق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة وما حارب من أجل الخلاص منذ أجيال 1919، 1946، وما قامت من أجله ثورة يوليو 1952 وما تلاها من ثورات فى الوطن العربى.
هو جيل لمعت فى عيونه ابتسامة الأمل فى حياة أفضل، ولكن أمله سرعان ما أصيب، لا أقول بخيبة أمل، ولكن باليأس الكامل من كل ما كان من أجداده وأبائه، وأخوته الكبار، بل وفى امكانية إصلاح ما افسده التاريخ..
وتبدو لنا مسرحيتا الكاتب محاكمة قاسية لمؤسسات مصر المحروسة: فمسرحية (6 رجال فى معتقل500 شمال حيفا) تحاكم المؤسسة العسكرية.
(مدينة الزعفران) تحاكم المؤسسة المدنية على أن المحاكمة لا تعكس اليأس كل اليأس.. وإنما تحمل خيطاً دقيقاً من الأمل يمكن – لو تحقق – أن يحمل إلى الأبناء والأحفاد بشرى التحرير، والعتق والعدل الاجتماع. والأمل على اية حال يمكن أن يتحقق إذا عولجت السيئات التى يشير اليها الكاتب فى أحداثه وفى شخصياته المسرحية وفى كلماته وهى أخطاء فى النهاية ثابتة وبارزة، كان من الممكن ألا تقع لو تحققت المبادئ الستة لثورة 1952 بصدق وحماس، من جانب الراعى، ومن جانب الرعية.
ولست أريد أن أفسد على القارئ العزيز متعة التشوق إلى قراءة المسرحيتين فأكشف عن التفاصيل الموضوعية فيهما، لهذا سأكتفى بمحاولة القاء الضوء على أبعاد التجربة الشابة للصيغة المسرحية الجديدة.
مسرح ملتزم....
إن الهدف الأساسى عند الكاتب ليس المسرح فى حد ذاته، ليس الصيغة الفنية على أى شكل من الأشكال، ولكنه الكلمة المضمون. أنه يمتلئ بمضمون ما، ثم يصبه فى قالب فنى.ومضامينه ذات صبغة إنسانسة عامة، فهى لا تثير جانباً واحداً من جوانب البناء الاجتماعى، إنك تلمس فى العمل الواحد كل ركائز التكوين الاجتماعى : الاخلاق، الدين، العمل، الحضارة، التراث، فى إطار من الفكر السياسى والاقتصادى والعسكرى. والسياسة عنده لا تقتصر على الأبعاد الداخلية – كعلاقة الفرد بالمجموع، أو كعلاقة الحاكم بالشعب – ولكنها تتجاوز ذلك إلى العلاقات الخارجية، سواء كانت هذه العلاقة علاقة خنوع وخضوع للغير أو علاقة الند للند، أو فى النهاية طموحاً إلى الندية من العالم عضوية ثابتة بين السياستين، فبقدر وعينا نحن الشعب بالحقائق، وبقدر تطلعنا إلى الحرية والديمقراطية والعدالة، وبقدر تمسكنا بها وتضحياتنا من أجلها فى الداخل بقدر ما نتج لأنفسنا ولوطننا ولأمتنا العزة والمتعة والكرامة والحرية، والعكس صحيح.
فى "مدينة الزعفران " يبسط لنا صورة واضحة عن العلاقة بين الحاكم والشعب : الحاكم بتسلطه وبكل ما يحيط به نفسه من أدوات القسوة والارهاب توصلاً إلى ابتلاع أرزاق الشعب ومصالحه فى بطنه هو وأعداء الشهب المحيطين به، والى التشبث بالسلطة ضد كل القوانين والتشريعات والأعراف، ورغم كل النكسات والهزائم ومظاهر التخلف والفساد والخراب، والشعب الذى قد يكون واعيا، وفهما، وقد لا تنقصها الإرادة والتغيير إلى ما هو أفضل، ولكن شعب أعزل مسكين، لا يملك من أمر نفسه شيئاً. لذلك فإن الشعب يلتف دائماً حول زعيم هو فى (مدينة الزعفران) خادم العامة، غير أن زعيم غالباً ما يخون ثقة الجماهير به، أراد ذلك أم لم يرده فالعبرة هنا ليست بالنيات، وإنما بالأفعال والمواجهات.
ولقد عالج الأدب طويلاً قضية العلاقة بين الحاكم والشعب وهو يعكس فى النهاية تطوراً متقدماً لمنطق هذه العلاقة عبر سلسلة من الثورات السياسية تسليم فى النهاية إلى أشكال متباينة من الدساتير التى كثيراً من الضمانات للإبقاء على خيط العدل والتوازن فى هذه العلاقة ابتداءً من الديمقراطية اليونانية وحتى التنظيمين اللذين يسودان العالم.
فى زماننا : الرأسمالية والشيوعية وبين القديم والحديث، المبادئ التى تمليها الشرائع السماوية، ولكن الكاتب يريد لنفسه أن يلتزم جانب التصوير للواقع، دون أن يتخطى ذلك إلى البحث عن الحلول.. إنه يكتفى بالإشارة إلى فشل هذا النوع من العلاقة الدستورية التى سادت وتسود التجربة المصرية منذ أن انطلقت جماهير الشعب المصرى تزأر فى وجه المستعمر الانجليزى فى 1919 تحت راية زعيمنا سعد زغلول، وحتى اسلمت قيادتها إلى زعيمها جمال عبد الناصر تحت راية ثورة يوليو 1052 ولكنه لا يشغل نفسه بالبحث عن البدائل أو باقتراح الحلول. ولقد يشير الزعيم عنده مقبول عبد الشافى – إلى بعض ايجابيات أو سلبيات التجربة أحياناً :
- يا حبيبى يا رسول الله.. ما معنى الانساسن إذا صار عبداً وصارت الأمة نعاجاً.. الحق مات فى الإنسان.. فمن ينقذ الإنسان من الضلال غير الحرية.. طوبى للأطفال الذين لا يرون رجال الشرطة وهم يضربون المتظاهرين.. كل مواطن خائن حتى تثبت براءته.. خدعتنا التصريحات.. الكلمات البراقة الخداعة.. خدعنا التجار فى الأسواق.. كل شئ يخدعنا ونحن لا ندرى.. صفقنا لكل خطاب رائع، لكن لا جدوى من الخطب، صفقنا للمقاتلين المخدوعين فى الحرب، وقلنا مرحى بالأبطال، علقنا كلمات النصر ونحن نساوم العدو..
ولكنه يعمل بالقاعدة التقليدية فيترك للجمهور أن يكتشف الحلول وأن يسعى اليها " إنه بالرغم من نزعته التجريبية لا يذهب مذهب أصحاب المسرح السياسى الذين اتخذوا من المسرح وسيلة للتعليم والتنوير والاستفزاز والتحريض على الثورة ضد ما هو معوج وظالم، توصلاً إلى عالم اكثر عدلاً وأقرب إلى المجتمع الفاضل.
ومن ( 6 فى معتقل ) يضع مجموعة من المؤسسة العسكرية المصرية فى السجن الاسرائيلى فى الأرض المغصوبة، وتحت رحمة المؤسسة العسكرية الاسرائليلة، على أثر هزيمة الأيام الستة فى 1967، والعسكريون الستة الأسرى ينتمون إلى طبقتين فى سلم العسكرية (ثلاثة من الضباط) و(ثلاثة من الجنود) ولكنهم ينتمون اجتماعياً إلى اكثر من طبقة، فالجنود من الكادحين، عمالاً كانوا أو فلاحين، أما الضابط فلقد يكون بينهم واحد من نفس الطبقة (حسين) إلا أنه قد أنطر طبقته وتنكر طبقته وتنكر لها بمجرد حمله رتبة الملازم الثانى، ولكن منهم واحداً (رأفت) هو سليل الارستقراطية المصرية : بالعجمى.. احلام مينا هاوس.. بابا، انا رجعت، إنما عايز اروح الفيلا بتاعت المعمورة، عايز أرقص واغنى واستحمى فى البحر واتمدد تحت الشمسية.. ولعله لهذا السبب بالذات قد وجد مكاناً مناسباًعند المحققين الاسرائليين ووجدوا فيه الشخص المناس أيضاً حضرة ملازم أول بيطلع كل يوم ياكل فرخة فى أوضة التحقيقات، واحنا هنا بناكل عند وتحدى.
أما الضابط الثالث (ضياء) فهو : أحسن دفعته فى الطيران.. فايتر مقاتل.. التقارير اللى مكتوبة عنه بتقول إنه احسن دفعته اخلاقاً.. ولكنه الوحيد من المجموعة الذى فقد توازنه، وبدأ يعيش حالة تصوف وينطق بالحكمة – حتى وهو تحت سياط التعذيب – ولكنها ليست حكمة المجانين أو المهابيل، إنها حكمة محارب أصيب بشئ أكثر كثيراً من خيبة الأمل فيما كان من هزيمنة ماحقة، ولكنه مع ذلك يرفض الهزيمة، وينتظر يوم النصر، وعندما يسأله المحقق الاسرائيلى يوم 5 يونيو كنت فين ؟ يجيب : كان باتريس لولومبا مدبوح، ثورته مجروحة جوه غابات الكنغو بتغنى للعالم، بتنزف الف صرخة، الف آه، ألف واد، ألف ثورة، كانت الفتنة تعابين تتلوى فى بحر موجه لون الندى، يا حبيبتى صديقنى الفتنة دبحت كل السود، السود لحن ثائر، حروفه تايهه فى الغابات، لو تتلم الحروف راح ينفجر اللحن. وأيضاً...
كان صلاح الدين حزين، دمعته قصيدة تواسى المهزومين، صرخة تنادى المستحيل لاجل يهون.. كان سعد زغلول منفى والثورة قايده فى البلد براكين، فيضانات...
والمسرحية تعرض علينا تفاصيل العلاقات بين هؤلاء الستة فى ظروف الأسر وما يلاقون فيه من تعذيب حينا، ومراوده وملاطف حيناً آخر بقصد استيعابهم من جانب العدو، ولكن الجديد فى الأمر أنها تعرض علينا أيضاً تفاصيل العلاقات بين مجموعة الاسرائيليين العسكريين – ومن بينهم راشيل (أو ساره) التى تقوم بنوبات عمل تتراوح بين الخدمة والترفيه(؟؟) ثم تعرض علينا بطبيعة الحال العلاقات بين مجموعة المنتصرين ومجموعة المهزومين، بينما تصل إلينا رصاصاتهم وهى تحمل معها صوت الإصرار على مواصلة المعركة، ولعلنا قراء ومشاهدين – أن ندرك من خلال هذه العلاقات تقديماً اجمالياً لظروف هزيمة 1967 وأسبابها ومبرراتها، ليس فقط داخل المؤسسة العسكرية للعدو الإسرائيلى، أقول تقديماً إجمالياً، لأنه فى النهاية تعتبر فنان يستوحى القوى العلمى الذى بدأ بالفعل يضع يدنا على كثير من الحقائق المذهلة التى كانت تخفيها المظاهر الكاذبة، والدعايات الخادعة.
على أنه إذا كانت المسرحية تقدم لنا هذا التصوير من خلال مجموعة من الشخصيات العسكرية إلى تظهر أمامنا على خشبة المسرح، فإننا نرى من خلال المرأة الغبية من كل منهم فى أزمته مثل أم العسكرى محمد، التى يحاول أن يكتب لها خطاباً يحمل إلى نفسها الصبر، ولكنه فى النهاية يضع فى الظرف ورقة بيضاء – أولاً لأنه أمى لا يعرف القراءة والكتابة، وثانياً لأن أمه تراه بعين الأمومة المحبة وتعرف تماماً ما يريد أن يقول لها.والأم بوجه خاص – حاضرة كانت أم غائبة – تكتسب عند السيد حافظ بعداً رمزياً يشير فى نفحة شعرية إلى مصر.. بكل ما فى مصر من أوجاع وآلام وصبرا وإصراراً..
التجريبية فى مسرح السيد حافظ :
السيد حافظ ينتمى إلى جيل جديد يبنى رفضه للقديم على أسس واقعية، من أهمها أن ذلك الجيل لم يف بالتزاماته - إما لأنها لم تكن واضحة له كل الوضوح، وإما لأنه سارع بالتنازل ظناً منه أن المعركة قد حسمتها الثورة وإما – أخبرا – لأنه كان كاذباً فى التزامه فكان يغطى به تطلعاته البرجوازية، ضارباً عرض الحائط بمصالح طبقة الكادحين وبمصالح مصر. إن هذا الجيل يحمل سلفه مسئولية الهزيمنة المحاقة، والفشل الذريع الذى أصاب ثورة 1952 سلسلة الحركة الشبابية التى سادت مصر فى 1946، وهو لهذا يرفض ويرفض أساليب، ويبحث عن أساليب جديدة من خلال التجريب. والتجريب على أية حال هو السمة الغالبة فى المسرح الحديث، ونحب هنا أن نرصد بعض سمات الترجيب عند الكاتب، من خلال المسرحيتين موضوع هذا الكتاب، ونحن أن نشير اولاً إلى أن التجديد فى المسرح لا يرقى دائماً إلى مستوى الابتكار والابداع على أساس هدم لفن المسرح كما وصل الينا فى صورته : الرسمية (الكاديمية) والشعبية، منذ ما قبل التاريخ، فهو دائماً حوار بين الفنانيين والجماهير من خلال أحداث وشخصيات فنية وتدور كلها داخل بناء اتفق على تسميته (الدراما) لتمييزه عن الابنية المختلفة لغيره من النوعيات الأدبية والفنية.
ومن هنا نستطيع أن نتفق على أن التجديد ليس مطلقاً أبداً، ولا يمكن أن يكون مطلقاً، والا خرج من إطار المسرح إلى نوع أخر من الإبداع. إن المجددين فى المسرح يحتفظون بجانب من التقاليد، على الرغم منهم، ويضيقون أو يحذقون أو يعدلون فى الجوانب الأخرى.
على ضوء هذه الفكرة نستطيع أن نقول أن التحديدات التى أدخلها جيل الستينات على المسرح المصرى قاصرة على استبدال المضامين، وذلك بتناول القضايا الاتية للانسان المصرى بعد أن زالت العوائق أمام معالجة هذه القضايا، ولكن هل نستطيع أن نعتبر نعمان عاشور ومحمود دياب ويوسف إدريس منقطعى الصلح بالمسرح القديم ؟
لا بالتأكيد، بل على العكس من هذا تماما، فمن المؤكد أن الثورة التى أحدثها هؤلاء بالمسرحية المصرية قد لحقت بالمسرح العالمى قبل ذلك بقرن من الزمان (مكسيم جوركى وانطون تشيكوف فى روسيا وهنريك ايسن فى النرويج وبرناردشو فى ايرلندا.. الخ)
ولقد جدد جيل الستينات كثيراً من الشكل أيضاً، بل وحاولوا تغيير نوعيات العلاقة فى الانتاج المسرحيى، وفى طبيعة الاتصال بين العرض والجمهور، وجاءت التجديدات فى الشكل أيضاً متأخرة عما جرى فى المسرح العالمى قرنا أو أكثر من الزمان. تجريبي الكاتب إذن لا تتناوب الأسس الثابتة للمسرح من حيث هو كذلك وإنما تقدم شيئاً يختلف قليلاً أو كثيراً عن المسرح الذى قدمه جيل الستينات، وفى الحدود التى لحقت أيضاً بالنوعيات الأدبية الأخرى كالقصة والرواية والشعر...
البنية الدرامية :
يتردد الكاتب بين التقسيم التقليدى إلى فصول كما فى " مدينة الزعفران " واللحظات المتتابعة فى شكل فواصل أو (جسور) كما فى " 6 رجال فى معتقل " ولكنه لا يحفل كثيراً بالتطور الدرامى أو بالتقسيم التقليدى إلى مقدمة وعقدة وحل. إنه فى كل الحالات يريد أن يعبر عن موقف من المواقف الاجتماعية الحادة التى تتصل بالبنية الاجتماعية (السياسة الاقتصادية) أو بمسيرة المجتمع مع ذاته ومع غيره من المجتمعات المعادية أو الصديقة. وهو لا يحفل كثيراً بالقصه كأساس للعمل الدرامى وإنما يضع البذرة الأولى لموقف درامى يقوم على التناقض الظاهر أو المستتر، ثم يطور هذا الموقف صعوداً حتى يوصلنا من خلال "أدواته الإنسانية " وما تمر به من مواقف وصراعات – إلى ما يريد أن يبسطه من وجهة نظر نقدية، بغير تنبيهنا إلى ما يجب أن ننزع إليه من إصلاح انفسنا.
والكاتب يبسط أفكاره عن طريق " أدوات انسانية " كما قلت فهو لا يحفل كثيراً ببناء الشخصيات الفنية، قد تكون بين هذه الأدوات شخصية ما – كما نلمس فى "مقبول عبد الشافى" محور ( مدينة الزعفران ) ولكن البشر على خشبة المسرح بعد ذلك انماط أو أرقام أو – على الأكثر – أنواع من "السلوك الإنسانى" وهى تذكرنا من ناحية بمسرح الأنماط الأخلاقية فى القرون الوسطى، ومن ناحية بمسرح أخر بمسرح العبث الذى تتحول فيه الكائنات إلى أرقام أو مدلولات أو رموز، وسواء منح الكاتب هذه الانماط والسلوكيات اسماء اشخاص أو لم يمنحها اسماء فإنها تظل مجرد دلالات على لون معين من السلوك فى مواجهة المواقف الاجتماعى المطروح.
لنقارن مثلاً بين مجموعة العسكريين عند الكاتب فى " 6 رجال فى معتقل" ومجموعة العسكريين عند على سالم فى " اغنية على الممر " أن على سالم يقيم مسرحيته على مجموعة من الشخصيات الفنية واضحة المعالم والمعطيات والأخلاقية والاجتماعية، وكل من هذه الشخصيات تنبئ بوضوح تام عن بيئتها وعن طبقتها الاجتماعية وعن آلامها وآمالها، وعن مدى ارتباطها بفكرة الوطن والقومية، والدراما عنده نابعة من الموقف الذى تعرضت له، ومن طريقة مواجهتها لهذا الموقف.
أما عند السيد حافظ فإن مجموعة العسكريين قد اختيرت بشكل هندسى لتعبر عن أفكاره هو : إنه قد رصد المجتمع أولاً وصنفه إلى مجموعة من السلوكيات المتباينة أملاها أملاءاً على الأشخاص الأنماط – التى اختارها ولست أريد بعقد هذه المقارنة أن أفاضل بين مسرحيين أو بين اتجاهين، فالطريقان مشروعات ومتبعان فى المسرح على مدى التاريخ كما أسبقنا – والمهم فى النهاية أن يحقق الكاتب غاية من خلال الوسيلة التى اختارها، ونحن نرى فى مسرح بيراندللو مثلاً طرائق جديدة فى هذا المضمار، تصل إلى حد أن يستدعى الشخصيات الفنية فى " 6 شخصيات تبحث عن مؤلف لتعرض مأساتها بنفسها على المسرح، حيث يقع تناقض دموى بينها وبين مجموعة الممثلين وبيراندللو فى مثل هذه الحالة يضع أمامنا على المسرح مجموعة من الأشخاص (الممثلين) ومجموعة من الشخصيات تؤكد لنا أنه لا قدسية للقواعد فى الفن، شريطة أن نملأ الثغرة بإبداع جديد، وألا يترتب على هجرنا للقاعدة فراغ فى البنية الشاعرية للمسرح، وأن يضع الكاتب فى اعتباره دائماً أن ما يكتب يجب أن يتوفر فيه الحد الأدنى من امكانيات الوضوح والشفافية، ليس فقط للجماهير التى ستؤم العرض المسرحى – بل – ومن باب أولى – لمجموعة الفنانيين المسرحيين التى يتتبنى العرض ويجب أن يكون فى مقدمة هذه الإماكنيات بطبيعة الحال رؤية واضحة للكاتب حول القضايا التى يطرحها فى مسرحه، وبوجه خاص إذا كانت هذه القضايا ذات طبيعة واقعية نابعة من الحركة الدائبة للمجتمع وهذا حال هاتين المسرحيتين.
البنية اللغوية :
ينتمى مسرح السيد حافظ إلى " مسرح الكلمة " وهو يقوم بشكل أساسى على الحوار المنطوق بالتناقض مع نوعية جديدة من المسرح بدأت تغزو خشبات المسارح منذ قديم الزمان فى المسرح الأسيوى ومنذ أوائل القرن فى المسرح الفرنسى (انتونان ارتو) وفى المسرح الروسى (فزيفولود مايرهولد الذى وضع الابجديات الأولى فى تقنيات البيوميكانيك) وأخيراً فى الموجات الحديثة التى تظهر بوضوح فى "المسرح الفقير"عند جروتوفسكى فى بولندا.
وإذا كانت القيادة فى مسرح الحركة للمخرج والممثلين، فإنها فى مسرح الكلمة للكاتب – ومن هنا فمن الأهمية بمكان كبير أن ندرس لغة الكاتب، وأن نبحث فى طبيعتها ومنشئها وبيئتها : هل هى لغة الشعر أم لغة النثر، وهل هى متوائمة مع البيئ الدرامية ومع الموقف الدرامى ومع الشريحة أو الشرائح الاجتماعية التى تنطق بها، حتى نتوصل إلى استنباط منهج الأداء.
لغة السيد حافظ تتردد بين مستوى العامية ومستوى العربية (أو الثالثة جريا على تسمية توفيق الحكيم) ولكنها تنحو منحى الشعر، فهى ليست اللغة الوظيفية التى توجه توجيهاً إلى مجرد الوفاء بالمعنى أو بالهدف المقصود من نطقها كما يقع فى الحياة الواقعية، بل تتجاوز ذلك إلى نسج مناخ يعبر عن المأساة أو المآسى التى يشجبها الكاتب : مأساة انعدام الحرية والديمقراطية فى ممارسة لعبة الحكم فى كل الأنظمة المصرية فى المسرحية الأولى، ومأساة تفسخ القوات المسلحة كسبب أساسى للهزائم المتكررة فى المسرحية الثانية.
والحقيقة أن اللغة عند الكاتب تقوم مقام كثير من ركائز المسرح التقليدى كالبناء الدرامى الممنطق وكالشخصيات الفنية.. الخ. فكأنما المسرحية قصيد درامى يذكرنا على سبيل المثال بقصيدة " يس وبهية " عند نجيب سرور، وعلى المخرج ومجموعة الممثلين أن يتبينوا معالم الشعر فيه وأن ينسجوا من هذه المعالم قيماً درامية تتكامل حتى تجسد لنا تركيبة فكرية فنية توحى إلينا بالمأساة التى يجتازها مجتمعنا، لعلنا أن نهتدى إلى التزاماتنا قبل تفريع هذه المأساة.
والشعر عند الكاتب لا يعترف بعلم العروض وبكل ما يقوم عليه الشعر، قديمه وحديثه، من موازين وقوف وغير ذلك مما يميز نسيج الشعر، ولكنه نوع من الشعر يقوم بالدرجة الأولى على تصور ما يمكن أن ينطق به الإنسان فى حالات اللاوعى واللاوزن. مثلما يقع فى الكوابيس أو فى لحظات المفاجأة بكبريات المصائب، اقرأ معى مثلاً افتتاحية " مدينة الزعفران " على لسان الكورس:
يا شمس يا أزهار.. يا سجن يا سجان.. يا زيد يا عمرو..
يا طير يا أشجار.. يا خبر يا خباز.. يا فاطمة يا بهية..
يا ليل يا دخان.. يا حطب يا حطاب.. يا سهل يا تلال
يا أهل الكفور والنجوع والأزقة والحارات
بعد موت السندباد لم تنته الحكايات.
وبطل كل حكاية كان السندباد أو عنتر أو الزناتى خليفة.. لكن فارس الليلة.. بطل الليلة.. لم يكن ابوه السندباد..
ثم يقول مقبول عبد الشافى فى الفصل الأول :
تعلمت ان الشرف كل الشرف فى حالة تغيب.. وسألت نفسى سؤالاً واحداً : هل توقف الشعب عن الانجاب ؟ ووجدت الجواب : لا ففى كل لحظة يولد طفل، وربما هناك فى أحد الأكواخ طفل قادم.. ليس بنبى، ليس بعنترى، ليس بخارق للعادة، بسيط مثل الهواء والسنابل، والحرية، يحمل الوطن من عصر اللاانسان إلى عصر الإنسان.
وفى ( 6 رجال فى معتقل) تتجلى الطبيعة الشاعرية للغة الكاتب تهويمات ضابط الطيران (ضياء) المسيح راجع فوق الدروب فى القدس، غريب، طفل غريب، قلبه ينزف صديد، المسيح ضحكة طفل رضيع مقتول بالسكوت. السكوت يا حبيبى والقرآن والانجليل ريح ممكن تزيل الزوبعة، القرآن صبح غريب يا حبيبتى ابدرى.. ابدرى جوه النفوس حروف النور، ابدرى الحقيقة لاجل ما تصلح أرض الكدب البور.. يا حبيبتى دوقى عيالك الطين.. شربيهم مية النيل.. رجع المسيح.. رجع غريب.....
والبناء الشعرى لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى، الشعر عنا شعر المضمون لا شعر اللفظ، وهو نوع من اللغة يبعث فى النفس ذلك الحنين وتلك الوحشة إلى المثل العليا فى الوطنية، وفى الأخلاق، وفى الدين، وفى التنظيم الاجتماعى التى تبعثها الصور التراثية الشعبية من ملاحم وحواديت ومواويل وأشعار.
وإنى لأتساءل أمام هذا البناء الشاعرى للغة الكاتب : ماذا لو ملك الكاتب ناصية الصنعة الشعرية وعلومها فصاغ حواره شعراً حقيقياً بكل ما فى الشعر من موسيقى، وايقاع وأوزان؟
البنية الفكرية :
تطرح مسرحية (مدينة الزعفران) قضية العلاقة بين الراعى والرعية أو بين الحاكم والمحكومين وما يتصل بذلك من نظريات حول امكانيات الاختبار، وفلسفة التمثيل (تمثيل الفرد للمجموع) ابتداء من مبادئ الشريعة السماوية، وانتهاءً بما حققتها الشعوب من مكتسبات ديمقراطية من خلال ثوراتها عبر القرون – ويذهب الكاتب من ناحية إلى أن السلطة تفسد الفرد وراجع " الملك هو الملك " لسعد الله ونوس، و(جحا باع حماره) لنبيل بدران، والأصل الذى يمكن أن ترد إليه كل هذه العلاجات الحديثة ( الحياة حلم ) لكالدرون دى لاباركا، ويذهب من ناحية اخرى إلى أن الميزان الحقيقى فى ضبط الأمور هو الشعب، الزعيم، الناس..
مقبول : من يستطيع عزل خادم العامة ؟
الكورس : السلطان، أو الوالى، أو الوزير.
مقبول : لا.. انتم.. انتم عينتموه، وانتم تستطيعون عزله.
ولكنه لا يقول لهم كيف ؟ من خلال أى تنظيم؟ من خلال نظام الشورى النابع من الشريعة الاسلامية؟ أم من خلال ديمقراطية المجتمع الرأسمالى القائم على مشروعية وضرورة نظام الطبقات المستقرة فى مكانها مع تجريم أى اتجاه إلى اذكاء الصراع الطبيعى بينها، ولو من خلال التنظيم اليسارى القائم على إذكاء الصراع بين الطبقات وحسمه لمصلحة البروليتاريا بوجه خاص أو الكدحين المنتجين بوجه عام. إن مقبول عبد الشافى – ومن ورائع الكاتب – يتركنا نتخبط فى مأساتنا، ولا ينير لنا طريق التنظيم ولا يوجهنا إلى سلبيات تنظيمنا الاجتماعى، لا يضرب لنا الأمثال من تنظيمات أفضل، وكإنه يريد لنا فى النهاية أن نواصل لعبة الكفاح دون عقل، ودون تخبط، كما نفعل منذ أن حكم الفراعنة مصر حتى الآن. ولكننا نتنبه عند سقوط مقبول عبد الشافى من كرسى خادم العامة، رغم أنه صعد إليه بناء على اختبار، إن الاختبار فى ذاته غير كاف، وأنه إذا لم تراقب الجماهير سلوط السلطة وأصحابها فالنتيجة دائماً هى ما حدث لمقبول، وما سيحدث لغيره. ذلك أن أصحاب السلطة العليا، ومن وارئهم الأجهزة – محلية كانت أم اجنبية – يمسكون بأيديهم الخيوط كل الخيوط ويلعبون اللعبة بمهارة تعززها خبرة طويلة وعريقة ورثوها من الفراعنة والأباطرة والقياصرة.. انهم يتحكمون فى الأسواق، وفى البطون، وفى العواصف، وفى الأرزاق، بل ويتحكمون أيضاً فى اتجاهات الجماهير. بما يملكون من وسائل الاعلام والردع والقهر والتخويف والارهاب من ناحية والمغازلة والترغيب وتحقيق الأحلام والتطلعات من ناحية اخرى.
وعلى ذلك فإن الكاتب يهدم بسقوط مقبول فكرته المثالية بأن الشعب صاحب الأمر والنهى، وبأنه يقول للحاكم كن فيكون، أو انزل فينزل، كما كان سلطان الاستانة يفعل بولاة الولايات تحت ظل الامبراطورية العثمانية.
ما الحل إذاً، وقد انهزمت أكبر تجارب الزعامة الشعبية فى حياة مصر، وكانت نتائج هزيمتها ما يعلم الكاتب والقارئ مما يجرى ؟...
يبقى السؤال مطروحاً، ويبقى لتجربة الشعب وحدها أن تجيب عليه، بكل ما تتضمنته كلمة ( الشعب ) من معميات من هو ؟ هل هو المنتجون أم المستهلكون؟ المتعلمون والمثقفون ام الأميون ؟ التجار والأغنياء والملاك أم الفقراء والمعوزون والكادحون من أجل رغيف أسود.. مجرد غيف أسود.. وبالكاد يصله؟ أم هو فى النهاية مجموع تحالف فئات الشعب بكل ما بينها من تناقضات كما أرادت له ثورة 1952 أن يكون ؟ على أننا إذا دققنا النظر فى المسرحية الثانية و(6 رجال فى معتقل) حول الانتماء الفكرى الحقيقى له ولكائناته التى تعبر عن فئات الشعب، فإننا نراه شيئاً لا يختلف كثيراً عن منطق المصالحة الذى فرضته الثورة، والذى انتهى بالفشل والهزيمة : الوسط الليبرالى فى إطار من مثاليات الدين، يقول العسكرى الفلاح (محمد) مناجياً أمه :
كان نفسى يا امه اجولك خللى بالك من اخواتى الصغيرين.. وديهم المدرسة، وودى الكبار كمان.. أظنك ما شفتيش.. انتصار.. هى ساكنة فوق الجزيرة الحمرا.. ودايماً بتغلطى وتروحى الجزيرة البيضا.. أوعى حسك تروحى لانتصار تمشى شمال ولا يمين.. امشى فى النص علشان توصلى صح، أصل فى اليمين عربيات كثيرة بتقتل... ولم يقل لنا ما هى أخطار اليسار، وللسكوت معنى )..؟ ثم يقول العسكرى عبد القوى للضابط الاسرائيلى المحقق :
انا ما كسبتش حاجة غير إنى عرفت فين عيوبى.. أنا لا بامشى شمال ولا بامشى يمين ولا حتى مع المذبذبين اللى بتقولى عليهم... وقبل ذلك، وفى أول تحقيق مع الضابط حسين يسأله الضابط..
أنت مين ؟
لا.
انت شمال ؟
لا.
وفى الحقيقة أن تقرير هؤلاء الأشخاص – وهم من فئات وطبقات مختلفة بأنهم ينتمون إلى الوسط أو على الأقل منتمون إذا اتيح لهم، إلى الوسط، قد يحمل لنا إحدى دلالتين : أما أن الكاتب يدعو إلى اختبار هذا المنهج الفكرى – وهو الأقرب بطبيعة الحال إلى دستور الشريعة الإسلامية – وأما أنه يعارض هذا المنهج ويدعوا إلى منهج أكثر حسماً.. ولكن الأرجح من خلال الحوار أنه يحبذ هذا المنهج ولا يرفضه، والا لبادر إلى معارضته على لسان شخص من شخوصه.
والكاتب فى نهاية هذه المسرحية يجد الخلاص على أيدى الفدائيين الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، بل أنه يستدعيهم لإنهاء العرض المسرحى بالبندقية والكلاشنكوف، وهو أول من يعلم أن هذا الحلم يشكل معجزة غير قابلة للتحقيق، لأن المعركة العسكرية ليست حلماً من الأحلام، خاصة والأرض العربية تغلق فى وجوه هؤلاء الفدائيين شبراً شبراً، ابتداء من سبتمبر الحزينم فى الأردن 1970، وصعوداً إلى سيناء بعد ذلك، ثم إلى جنوب لبنان وسعد حداد، وأخيراً بمعاهدات كامب ديفيد ومفاوضات الحكم الذاتى التى يترقب أخبارها العرب.. كل العرب. ويعلم أيضاً القيادة الفلسطينية قد انتهجت مؤخراً منهج الصراع الدبلوماسى، محل الصراع العسكرى...
ويبقى أن أهنئ الكاتب على إصراره، وعلى غزارة انتاجه فى وقت جفت فيه الأقلام، وتطلعت العيون زائغة تترقب المجهول، فى عالم يموج بالفوضى والإضطراب، وتتهدم فيه كل المثل، والعقائد، والايديولوجيات، ويسيطر الرعب من حرب ثالثة ماحقة لا تبقى ولا تذر.. أو لعلها هى الخلاص؟
سعد أردش.. الكويت فى 7/4/1980
0 التعليقات:
إرسال تعليق