دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 137)
كل من عليها خان
بقلم دكتور حسام عقل
دراسة من كتاب
التشظى وتداخل الأجناس الأدبية
فى الرواية العربية
" الجزء الثانى "
إعداد وتقديم
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
كل من عليها خان
بقلم دكتور حسام عقل
منذ رحل عن الحياة العظيمان : (توفيق الحكيم) (1898/1987) صاحب المسرواية المتميزة : (بنك القلق) , و(يوسف إدريس) (1927 _ 1991) صاحب المسرواية اللاحقة : (نيويورك 80) , أوشك المشهد الإبداعي أن ينسى هذا النوع الأدبي الإشكالي , المازج بين تقنيات المسرح والرواية _ والموسوم ب (المسرواية) _ فقد مضى حراك الأنواع الادبية ينسخ مزيداً من الأنواع بالمحو التام , ويستحدث _ استنباتاً مزيداً من الأنواع بالتخليق المتأني أو السريع بحسب مجريات التطور الفكري وسياقات الزمان والمكان وملابساتهما , بيد أن ظهور المسرواية الجديدة :
(كل من عليها خان) (2016) للقاص والمسرحي المخضرم (السيد حافظ), من شأنه أن يستدعي مجدداً إلى بؤرة الذاكرة سجال الأنواع الادبية وتفاعلها السديمي الضخم وما طرأ عليها من الحراك والتداخل البنيوي, بمثل ما يستدعي إلى بقعة الضوء هذا النوع الأدبي الهجين, الذي بقي ثاوياً في مساحة الظل منذ ودعه صاحباه : (الحكيم) و(إدريس) !
وبوضوح فإن مقاربة هذه المسرواية الجديدة , تشي بأن المبدعين العرب , ما عادوا يجدون في نظرية الأنواع الأدبية وخارطتها الكلاسيكية , مقنعاً للعبتهم التجريبية الجديدة ومغامرتهم النزقة الطموح المشتعلة بالجنون ! وبيقين فإن المقدسين لنظرية الأنواع الأدبية, والمحنطين لها بالتقسيم والتمايز الصناعي القسري , لن يقبلوا مثل هذا الحراك التطوري , واستمرار عمليات التخلاق والمزج الكيميائي بين الأنواع , وهم أنفسهم الذين رفضوا بإباء عنيف : (الرواية الرقمية) و(رواية النقال) و(قصة الومضة) و(القصة / القصيدة) و(القصة / الشاعرة) و(نص المدونات) ..و غيرها من الأنواع الأدبية الجديدة ! ولم يكن رفضهم _ على أية حال _ مانعاً لهذه الأنواع من الاستمرار والتطور والتجذر في المشاهد الإبداعية العربية بقوة , وحيازة حق المواطنة (النوعية) الكاملة !
وقع نص (السيد حافظ) الجديد في نحو من ثلاثمائة واثنتين وأربعين صفحة من القطع الكبير , متحدياً بالحجم الملحمي الكبير نسبياً , تياراً صاعداً في الكتابة الطليعية الجديدة , لا يكف عن الاختزال الأسلوبي وقص الزوائد . وكانت استراتيجية الصدمة الصاعقة للمتلقي , هي المنحى المهيمن طول الوقت على تدفقات السرد المدهشة وتعاريجه التي تنثني نحو الماضي والحاضر بحركات سريعة, ممعنة في المراوغة.
وقد استهل المبدع رقعة المناورة بطرح ستة عناوين أخرى للنص _ بخلاف العنوان المتصدر للغلاف !
هي على الترتيب : (فنجان شاي العصر) / (الرائي) / (العصفور والبنفسج) / (كل من عليها جبان) / (كل من عليها هان) / (كل من عليها بان) , داعياً المتلقي إلى أن يختار من بين العنوانات المرشحة , المطروحة للاختيار ما يراه ملائماً للحالة السردية الماثلة بكل تداخلها وجنونها المهاتر ! وقد أمعن الراوي في لعبته (المسامرة) مع المتلقي بالقول : (..صديقي القاريء : يمكنك الآن أن تختار عنواناً من السبعة , وتبدأ في قراءة الرواية بالعنوان الذي اخترته أنت . دعك من اختياري فأنت الآن شريكي ! ..) (ص 9) وكان هذا المقطع الاستهلالي , حافزاً لتفعيل آليات التلقي الإيجابي _ لا السلبي _ إلى أعلى سقوفها .
ويحدونا الإنصاف والتجرد النقدي إلى الإقرار بأن النص الضخم _ كمياً ونوعياً _ ربما سمح مع المعمارية العملاقة وغزارة المكونات المتداخلة , بقدر من التخمة أو زحف الشوائب والزوائد , إلى قسم من مقاطع السردية / المسرحية المتنامية . ولم تكن هذه السمة السلبية _ في تقديري _ عائقاً أمام حالة النماء الدرامي لتتصاعد خيوطها وتنعقد في جديلة دالة , ترقص بعربدة بين (الماضي) التاريخي الضارب بأطنابه في القدم , وبين (الحاضر) العصري العربي , المفعم بالسيولة السياسية والانتكاسات !
ويستهل (حافظ) مسروايته بباب , عنونه : (حكاية الروح الرابعة : البنت (وجد) والولد (نيروزي) وثورة النساء) , حيث تتواصل حواريات (شهر زاد) و(سهر) حول الإنسان الغامض : (فتحي المصري) وحكاياه الشائكة ورحلاته الموغلة في الغموض . ولم تحل موضوعية الرصد ودراميته , دون بروز مقاطع شفيفة , ذات كثافة غنائية مجنحة : (..تشاكسني الألفاظ والمعاني , فأعاني يا غربتي في المشاعر وتنهيدة القلوب ..) (ص 16) ومن الظاهر بوضوح أن استدعاءات الراوي المتلاحقة للحوارات , كانت درعاً واقية ضمنت ديناميكية الحركة السردية بقوة ناشطة ونماء ملحوظ , برغم زحمة الفواصل المتناثرة عبر جسم السرد .
واستهلالاً من حكايا (فتحي رضوان) , يتم توظيف مقاطع الوصف والحوار والسرد الخالص والمذكرات والمقتبسات التاريخية اللاذعة , بشكل متناوب , يخلق حالة التنوع ولكنه لا يتخلى _ بأية حال _ عن خيط السرد الرئيس ولحمته الجذرية , المجمعة في كل مرة لشتات الخيوط . وبرغم جنوح كثير من المقاطع إلى الحالة التاريخية _ الفاطمية أساساً _ فإن وثبات الراوي برصد مشاهد الحاضر تبقي متألقة , رابطة لوجهة السرد باللحظة العربية الحاضرة , المتعثرة في إخفاقاتها المريرة , وتظهر بوضوح - في هذا المنعطف - شخصية رجل الأعمال (حامد الصقر) وهو يكب على مشروعاته الاقتصادية الرأسمالية العملاقة في (دبي) , في تناقض صارخ مع المضمون (الرومانتيكي) المجنح الذي تطرحه مشاهد (سهر) و(شهر زاد).
وتتناوب حركة السرد الرشيقة بين تاريخ (الإسكندرية) الذي يقصه (فتحي رضوان) , وتاريخ (قابيل وهابيل) وصدمة الجريمة الأولى , وهو التاريخ الذي يقصه الراوي نفسه , متقمصاً روح (جبرتي) حديث مجنون , يطل على مشاهد الماضي ويعاود فتل جديلتها الوثيقة مع لقطات الحاضر راصداً (القاسم المشترك) من المحنة المتكررة والمعاناة المتجددة .
ونجحت كاميرا الراوي _ بتبلور متنام _ في أن تقيم في المقاطع السردية الاستهلالية , مجريين كبيرين , أحدهما لمدينة (الإسكندرية) ذات التكوين التاريخي الرومانتيكي الرهيف , والآخر لمدينة (دبي) ذات التكوين الرأسمالي المخملي الضخم , فبدا بين المجريين المرصودين, ما يشبه التعارض للوهلة الأولى.
ومن داخل التجاور الدال للمشاهد (الماضوية) ونظيرتها المعاصرة الحاضرة , ينجح الراوي من خلال قوس الحركة الكبير بين نصوص (المسعودي) ولقطات المشير (عبد الحكيم عامر) في تكريس القواسم المشتركة والداءات المتماثلة ل (الحالة المصرية) في عبورها التاريخي من الماضي الفاطمي إلى الحاضر الستيني فصاعداً , مروراً بكل حلقات التطور السياسي والاجتماعي , بأبعاده السوسيولوجية الحريفة !
انفجرت موجة التجريب في النص كالعصير الأسموزي , الذي يتخلل كل شيء , ويباشر مناورته المتشعبة مع التقاليد والقوالب النمطية الثابتة. بيد أن الفعل التجريبي المجدد , قد بدأ - في منطقة الرصد الأولى - في (اللغة) ذاتها , التي غدت في تماوجات الأداء الأسلوبي الملتحم بفضاء التجريب , وقد استحالت (تكويناً لغوياً شبه فوضوي) يتحدى في كل مرة علاقات الإسناد الطبيعية المعروفة في الجملة العربية ويناجز نمط الاسترسال الطبيعي للعبارة ذاتها , أو حتى يطيح بها , كما يبدو في هذا المقطع : (..و أنا القاص والرائي والبعيد والداني والقريب والغريب والتعيس والسعيد والهادم والباني , فبأي آلاء ربك تكذبين..) (ص 33) فمن الملحوظ أن نمط الأداء الأسلوبي يقيم الدلالة الإيجابية للمفردة ثم ينسخها للتو , بترسيخ معكوسها دلالياً وكأننا نشتم هنا توظيفات (يوجين يونسكو) العبثية المهاترة للغة !
حشد الراوي في نسيجه السردي الكبير (مسرحيات قصيرة) , تتناوب في محطات السرد لتغذية الدلالة الأساسية للمقطع السردي المطروح . كما نأنس ذلك في المسرحية القصيرة : (الرائي والبنفسج) التي جاءت في أعقاب حوارية (سهر) و(شهر وزاد) . ومضت (مذكرات) (فتحي) التي يكتبها , متجولاً في (دبي) , لتستقل بجزء كبير من حركة السرد ومقاطعه المتلاحقة . وبالتأسيس على خلفية المعتقد (الدرزي) , الذاهب إلى أن الأرواح تتناسخ وتتنقل بالحلول في عدة أجساد , تثب روح (سهر) وتنتقل في عدة أجساد , من بينها جسد (وجد) ! وتتشكل أمام أعيننا ملامح القوام الواضح للعملية السردية / المسرحية _ برمتها _ ومدارها شذرات معاصرة متلاحقة , يجري دوماً تلقيحها بارتدادات تاريخية تفضي بنا _ في الأعم الأغلب _ إلى الحقبة الفاطمية عموماً أو (الشدة المستنصرية) خصوصاً , وهوالحدث المعروف تاريخياً , والذي عانى فيه المصريون جوعاً تاريخياً غير مسبوق , قادهم إلى أكل القطط والكلاب , كما يقول المؤرخون للفترة !
وقد مضى الرصد التاريخي للشدة المستنصرية , على مرحلتين : أولاهما تشكلت عام 1065 , التقط من خلالها الراوي لقطات موجعة في بداية (الشدة المستنصرية) , مازجاً بين هذه اللقطات من ناحية , وبين رؤى منامية و(مقتبسات) من مصنفات المفكر الراحل : (جمال حمدان) من ناحية أخرى , في انعطافة الربط بين الماضي والحاضر . فيما قادتنا المرحلة الثانية إلى عام 1066 , في فصل عنونه الراوي : (العام الثاني من المجاعة : القاهرة 1066) , حيث أفرد مساحات معتبرة لتصوير (حي الخبازين) , ونزوات الخديوي (إسماعيل) حين وهب لغانيته المشتهاة , مائة وخمسين ألف فدان نشداناً لرضائها _ وهي لوحة لا تنتمي مطلقاً لفترة الشدة المستنصرية التي أفرد لها الفصل ! _ وغرس الراوي في قلب الفصل (مسرحية قصيرة) (ص 97) , قبل أن يعرج إلى قصة العشق اللاهب الذي جمع بين (نيروزي) و(وجد) . وكانت قفزات التاريخ النزقة بين الماضي والحاضر مبررة في كثير من الأحيان بضمانة السرد الوصائي للراوي ومهارته في جمع الشتات , فيما خذلته مهارته في بعض اللقطات التي أفلت فيها المشهد خارج مدار السرد , كما في لقطة الخديوي (إسماعيل) وغانيته !
وكان النمط الأكثر إدهاشاً من الفعل التجريبي الطليق في المسرواية , توظيف (القصة القصيرة) وتضمينها داخل المجرى السردي الكبير للعمل , كما بوغتنا في قصة : (الوطن الحافي) , وهي قصة قصيرة _ من قصص / الومضة _ غرسها الراوي في قلب اللوحات السردية المتدافعة (ص 239) . قبل أن ينتقل بنا إلى مسرحية قصيرة , ثم واقعة اغتيال (فتح الله) شهبندر التجار , وبيع لحمه للفقراء!
ولم تخل لوحات السرد من تعليقات لاذعة للراوي نفسه _ على طريقة وخز الإبر ! _ كقوله تعليقاً على حوار الخبازين : (..المصريون لا يحملون ذكرى لأحد , ذاكرة الشعب ذاكرة السمك ! ..) (ص 307) , قبل أن ينعطف بنا إلى مشهد دام _ يذكرنا بالمشاهد الدامية في سرد القرية عند (محمد مستجاب) ! - حيث تم إعدام عشرة تجار شنقاً لإجبار جموع التجار على إخراج القمح المخبأ في الصوامع , حيث تعود الحياة لطبيعتها تدريجياً !
وتألقت بلاغة الخواتيم _ بوضوح - في تذييل النص بالزواج التاريخي _ الذي قهر النزعة المذهبية الطائفية - بين (وجد) السنية و(نيروزي) الشيعي! حيث قضت (وجد) جزءاً من حياتها في (القاهرة) وجزءاً آخر في (خراسان). وجاء الختام - في بنيته الإطارية - مجللاً باستيحاءات دالة للقوالب الفلكلورية بعصيرها الشعبي النافذ .
حشد (حافظ) في نصه المكتنز , أمشاجاً متداخلة وخيوطاً متماسة _ كتعاشيق الأرابيسك _ تدلي بصلة إلى الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقتبسات والمذكرات , ليكرس بوضوح لاتجاه , متنام في العقد الأخير من تاريخ الإبداع العربي المعاصر , أعني (محو الفروق) بين الأنواع الادبية , بصورة كاملة , في مسعى التخلاق النوعي لأجناس أدبية جديدة تلائم محن اللحظة العربية الراهنة , وتتماهى مع سيولتها السياسية المتدفقة ! وهو حلم كلاسيكي طمح إليه _ قديماً _ المفكر الجمالي المعروف (كروتشيه) , ولم تمهله الأقدار ليتم حلمه بمزيد من التنظير .
يطمح المبدعون العرب _ إذن _ إلى نصوص مراوغة مفعمة بالشكاس والتحدي , يجمعون من خلالها كل الأنواع الأدبية المعروفة , في نوع جديد يسمونه ب (النوع النووي) Nucleogenre , كأنما يؤكدون _ مجدداً _ مقولة (جيرار جينيت) , التي توطد حقيقة , مؤداها ان نظرية الأجناس الأدبية , قائمة _ في الجوهر _ على (تداخل الأنواع) من وجه , و(الانتقاص التدريجي من قدر النوع الأدبي) _ بتعبيره _ لحساب المزج الكيميائي والتداخل من وجه آخر . وهي القضية التي أفرد لها الناقد د / (علاء عبد الهادي) كتاباً مهماً بعنوان : (مقدمة إلى نموذج النوع النووي _ نحو مدخل توحيدي إلى حقل الشعريات المقارنة) (الحضارة العربية / ط 1 / 2008) , حيث طمح إلى تقديم تنظير واف لفكرة (النوع النووي) الذي يتنادى كثيرون من المبدعين لنصرته _ وفي صدارتهم الروائيون _ ولم تكن مسرواية (كل من عليها خان) , إلا تجلياً دالاً من تجليات هذا السجال النقدي الساخن , الذي يطرح في لحظة عربية مأزومة , (أسئلة المستقبل), التي اكتشفنا أنها (مجدولة) عنقودياً بقوة في طراز مماثل من (أسئلة الماضي) التي لم تحسم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق