دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 67)
قــــراءة فى مسـرحية حـــــلاوة زمـــــان
أو
عـاشــق القاهــرة الحـاكـم بأمـر الله
بقلم : محمــد المحــراوى
دراسة من كتاب
المسرح التجريبى بين المراوغة واضطراب المعرفة
قــــراءة فى مسـرحية حـــــلاوة زمـــــان
أو
عـاشــق القاهــرة الحـاكـم بأمـر الله
بقلم : محمــد المحــراوى
مـقدمــة :
رافق نشأة* المسرح العربي الجنوح إلى استلهام التراث بتوظيف مواده وقصصه، لدى المسرحيين العرب في أعمالهم الإبداعية، وازدادت هذه الظاهرة حدة في العقود الأخيرة، خصوصا بعد أن أصبحت خاضعة لضوابط ومناهج سطرها المسرحيون العرب الذين فتحوا باب التنظيرات في المسرح العربي، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
والخاصية التي يتميز بها المسرحيون العرب في توظيفهم للتراث في إبداعاتهم هي التعامل الانتقائي مع التراث، بالتركيز على الأحداث الجليلة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية لإحياء مفاخرها وأمجادها. في هذا العصر الذي أصبح فيه العرب والمسلمون أمة مهزومة ومهلهلة، فيتم استحضار التراث لإثبات أن العرب كانوا في زمن مضى أسيادا ولم يكونوا عبيدا، لتكون الاستعادة للماضي المجيد بمثابة عقد مقارنة " بين الحاضر المتقدم للأخر وماضيه المتخلف من جهة، وبين الماضي المتقدم بالنسبة للذات العربية وحاضرها المتخلف من جهة أخرى([1])".
هذا، كما يتميز التعامل مع التراث من قبل المسرحيين العرب بالاهتمام بالتاريخ غير الرسمي الذي مسته يد التشويه، كالثورات التي تقاد ضد الظلم والقمع، والموصوفة في كتب التاريخ بالفتن، كالثورة المعروفة بثورة الزنج على سبيل المثال. وأيضا يتم التركيز على ظاهرة الإعدامات التي كانت تنفذ في حق بعض الشخصيات المعارضة، بتهمة الإلحاد والردة. لهذا يلجأ المسرحيون إلى صياغة هذه الأحداث صياغة جديدة تحاول فضح الخفي، وإبراز الدوافع التي يرونها حقيقية وراء هذه الثورات والإعدامات، والتي تكون دائما هي الانتفاض ضد الظلم والقمع الممارسين على أصحاب هذه الثورات المجوعين، أو تلك الإعدامات التي تمرر تحت يافطة الإلحاد والمساس بالمقدسات الدينية، والتي يكون الدافع الحقيقي إليها – حسب ما تبرزه الأعمال المسرحية – هي حب الحكام للسلطة، وخوفهم من أن تنفلت من بين أيديهم بسبب ما تقوم به تلك الشخصيات من فضح لهم، وتحريض للشعب ضدهم فيكون الحل هو إسكاتهم إلى الأبد.
ولا يحق للمتلقي أن يحاكم المسرحي بالصدق أو الكذب، لأنه ليس مؤرخا " فالعمل المسرحي يستقل عن المادة التاريخية، ويكون الحكم عليه بمدى توفيقه في إقناع المشاهدين أو القراء بأن الأحداث التي يعرضها أمامهم قد حدثت أو كان يمكن أن تحدث، فالإقناع هو الفيصل في هذا الموضوع([2])".
والمسرحية التي نحن بصدد تحليلها تاريخية بامتياز. لذلك فإننا في تحليلنا هذا ركزنا على هذا العنصر. أي العودة إلى التاريخ لصياغة عمل إبداعي. وتوقفنا كذلك عند طبيعة اللغة الموظفة في هذه المسرحية. وخصصنا أيضا لما يسمى بالإرشادات المسرحية حيزا من هذا التحليل حتى لا يكون تحليلنا أدبيا صرفا.
1- توظيف التراث في مسرحية " حلاوة زمان" للسيد حافظ
لا يصعب على المتصفح "للريبرتوار" المسرحي العربي أن يقف عند حقيقة مهمة، تنطبق على المسرح العربي عموما، وفي جميع فتراته، منذ العروض الأولى التي كان يقدمها مارون النقاش وصولا إلى عروض المسرحيين المعاصرين.
وتتمثل هذه الحقيقة في الرغبة الجامحة للمسرحيين العرب في الامتاح من التراث من خلال استلهام مواده وقصه، سواء كان هذا التراث شعبيا أم رسميا.
ولم تكن العودة إلى التراث تتم من زاوية واحدة، كما لم تكن مواقف المسرحيين العرب من التراث واحدة. ولم تكن أيضا الأهداف والدوافع من وراء الارتماء في حضن التراث العربي واحدة. لكن بغض النظر عن ذلك، لن نكون مجانبين للصواب إذا قلنا إن العودة إلى التراث، كانت ولا تزال تمثل أسهل السبل وأيسرها- في نظر المسرحيين العرب، الأوائل منهم والمتأخرون، للبحث عن الهوية للمسرح العربي، وذلك في اعتبارهم أن هوية المسرح العربي تكمن في تميزه عن المسرح الغربي الذي يعتبر المعلم والأستاذ المتوفر على الأدوات والتقنيات والأفكار، التي تشكل أكسجين ومقويات المسرح العربي، إن لم نقل الغذاء الذي تتوقف عليه حياة أوموت هذا المسرح. وفي الوقت نفسه يعتبر الغول المخيف الذي يهدد هوية المسرح العربي بالإقبار لوقت طويل.
وفي خضم هذه التساءلات والإشكالات سنسلك سبيلا في هذه القراءة، نعتقد أنه سيجعلنا نتمكن من تقديم بعض الافتراضات – إن لم نكن من الجرأة في المستوى الذي يجعلنا نقول الأجوبة- بخصوص هذه التساؤلات بالنسبة للسيد حافظ، لا في مسرحياته كلها وإنما في المسرحية المستهدفة بالتحليل " حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله".
لقد عاد السيد حافظ في هذه المسرحية إلى حقبة تاريخية ضاربة في القدم. وهو ما يشي به عنوان المسرحية، حيث إن أحداث المسرحية لا تكاد تتجاوز الحقبة الزمنية التي استغرقها حكم الخليفة الثالث للدولة الفاطمية، منذ أن وسعت من رقعتها بضم مصر وبناء عاصمتها القاهرة، اللهم إلا بعض الإشارات في بداية المسرحية للتعريف بمدينة القاهرة. وهو ما استدعى الوقوف عند بعض الأحداث البارزة في تاريخ الدولة الفاطمية كذلك، والمرتبطة بتأسيس القاهرة، أو الإشارة التي تنتهي بها المسرحية عند إعلان " الظاهر بالله" الخليفة الجديد بعد وفاة " الحاكم بأمر الله" عن بعض قراراته، وذلك في النهاية الثانية المقترحة. ولكن هذه الإشارات مقتضبة وموجزة، كان إيرادها لغاية واضحة، سنقف عندها أثناء التوسع في التحليل. لذلك فلا مانع من القول إن الفترة التي قضاها "الحاكم بأمر الله" في الحكم، تشكل مسرح الأحداث من البداية إلى النهاية في هذه المسرحية.
ولتجنب السقوط في الأحكام المتسرعة والنتائج غير المنطقية، ارتأينا في هذا الجانب من القراءة اتباع خطة منهجية محكمة تقوم على محطتين:
أ - قراءة في مضامين" حلاوة زمان":
تتسيج أحداث مسرحية "حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله" ووقائعها بسياج زمني محدد، ويحتضنها مكان محدد. وشخصياتها أغلبها واقعي كما توحي بذلك أسماءها ووظائفها. وأغلبها أيضا قد أسهبت الكتب التاريخية في وصفها والتعريف بسيرها، الشيء الذي يجعل أي تأويل للمسرحية لمحاولة إسقاطها على الحاضر نوعا من المجازفة التي لن تتحقق دون لي عنق الزجاجة كما يقال.
تبدأ المسرحية بظهور مجموعة من المؤرخين العرب القدماء على الركح، وقد شرعوا في مستهل المسرحية بتقديم نبذة عن حيثيات تأسيس مدينة القاهرة، والإشارة بشكل موجز إلى الخليفتين" المعز لدين الله" و" العزيز بالله" جد وأب " الحاكم بأمر الله". وقد اعتمد المؤلف تقنية المسرح داخل المسرح التي يقوم بها في النص المؤرخان المشهوران ابن
سعيد الأندلسي والناصري. فعندما يعمد هذان المؤرخان إلى ذكر بعض خصال وأفعال أحد الخلفاء الفاطميين الذين قد مر على وفاتهم فترة زمنية غير يسيرة،على زمن الحكي، كثيرا ما يتوقف الحكي ويقوم أولئك الخلفاء المحكي عنهم بتقديم أنفسهم من خلال بعض الممثلين. وبوصول ابن سعيد والناصري إلى عهد الخليفة " الحاكم بأمر الله" الذي يشكل موضوع المسرحية، يتركان العنان لشخصياتهم المتعددة لتقديم عهد الخليفة" الحاكم بأمر الله" بمختلف تناقضاته وصراعاته.
وتأكيدا لحضور تقنيتي الحكي والمسرح داخل المسرح في بداية هذه المسرحية التي بين أيدينا نقتبس النصين الآتيين:
– مؤرخ 4 : قال المعز لدين الله الفاطمي لجوهر الصقلي:
( ضوء على المعز لدين الله الفاطمي )
- المعز: يا جوهر لتدخل مصر من غير حرب.. وتبني مدينة تسمى القاهرة لتقهر الدنيا.
- جوهر : يا سيدي إني أفكر في تسميتها المنصورية"([3])
- الناصري: وعندما انتهى تكوين وإنشاء العاصمة القاهرة وانتهى بناء قصورها ومسجدها الجامع الأزهر ودخل المعز القاهرة عاصمته الجديدة في أوائل رمضان قال للناس :
- جوهر الصقلي: ( يرتدي العمامة ويصبح المعز لدين الله الفاطمي ) أنا المعز لدين الله الفاطمي جئت لمصر لا زيادة في الملك أو المال وإنما رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين، وإقامة الحق والسنة"([4])
قلنا في البداية إن أحداث المسرحية ووقائعها- زمنيا- مسيجة بسياج محدد، لأن الفترة الممتدة من 486هـ إلى 511هـ وهي فترة حكم الخليفة " الحاكم بأمر الله"، إلى تشكل الوعاء الزمني لأحداث المسرحية. أما فيما يخص المكان المحتضن لأحداث المسرحية، فهو موزع بين فضاءين اثنين : قصر الخلافة، وحي امبابة ولاسيما دكان فتحي محل الشواء.
وتجدر الإشارة إلى أن المسرحية تقوم على فصلين، يعمدان إلى تتبع الشخصية المحورية " الحاكم بأمر الله" مذ اليوم الأول من حكمه إلى أن تلفظ أنفاسه الأخيرة، لأن " الحاكم بأمر الله" يشكل بؤرة الأحداث الدرامية في هذه المسرحية. فهو يمثل المحور الذي تتلاقى عنده وتفترق جميع الشخوص. فهي جميعها تمتلك موقفا من شخص " الحاكم بأمر الله"، تسعى بحسب قدراتها إلى تجسيده، إما من خلال الدعاء بأن يديم الله في حياته والتوق إلى الجلوس بين يديه، وإما من خلال عقد المؤامرات والدسائس في الخفاء من أجل الإطاحة بحكمه.
وتركز المسرحية بشكل أكثر على علاقات " الحاكم بأمر الله" برجال الدولة وبرعيته وبأهله، فتصور بشكل دقيق صرامته وقساوته على كل معتد سولت له نفسه مخالفة الأوامر، أو سولت له استغلال منصبه للسطو على أموال الشعب. كما تصور زهده وتقشفه، وإيمانه القوي، وكذلك اختلاطه بالرعية والاستماع إلى شكاواهم، وغير ذلك من الأمور التي تظهر الخليفة بمظهر الحاكم العادل والمؤمن القوي، ولم يكلف السيد حافظ نفسه عناء تطعيم مسرحيته بأحداث سياسية كانت تحدث في الدولة الفاطمية المترامية الأطراف، كالفتن التي كانت تشتعل في الشام و طرابلس، لاسيما ثورة أبي ركوة التي كادت أن تطيح بالدولة الفاطمية كما تذكر الكتب التاريخية.
فالمسرحية لا تتحدث عن عهد خلافة " الحاكم بأمر الله" برمته، بل تتحدث – وإن قلنا إن هذا العهد يشكل الوعاء الزمني لأحداث المسرحية- عن أحوال القاهرة وحاكمها وأهلها زمن الخليفة " الحاكم بأمر الله".
ب- الكيفية التي تعامل بها السيد حافظ مع التراث فى"حلاوة زمان":
إذا كان التراث أهم مصدر يستهوي المبدعين المسرحيين، فإن الكيفية التي يتم بها توظيف التراث في الأعمال المسرحية تختلف من مسرحي إلى آخر، بل حتى من عمل مسرحي إلى آخر للمبدع الواحد، وذلك بسبب اختلاف الرؤية التي ينظر بها إلى التراث، وبسبب اختلاف الخلفية الأيديولوجية والفكرية لأي مبدع، و بسبب اختلاف الأهداف أيضا من وراء استحضار التراث من عمل مسرحي إلى آخر.
لكن هذا الاختلاف والتعدد لا يمنعنا من تحديد ثلاثة مواقف من التراث لدى المسرحيين العرب وهي :
*- اللجوء إلى التراث ( خصوصا التاريخ) بقصد التفاخر بالأمجاد، أمام ما أصبح يعيشه المجتمع العربي من فساد في جميع القطاعات. فكانت العودة إلى التاريخ السلاح الوحيد في أيدي المسرحيين العرب لإبراز كيف أن التخلف صفة طارئة على المجتمع العربي، ولم تكن ملازمة له.
* إعادة تفسير بعض الأحداث التاريخية من منطلقات جديدة، وفق خلفيات أيديولوجية معينة ينطلق منها الكتاب، وإعادة كتابة التاريخ بسبب شعور رجال المسرح " بأن المؤرخين لم يكونوا أمناء في (كتابتهم التاريخية لأسباب سياسية ودينية ومذهبية، وأغراض خفية"([5]).
* التعامل مع التراث باعتباره مادة خصبة لاستقاء مواقف وأبعاد يتم إسقاطها على الحاضر. وهنا يصبح التراث مجرد رموز لتناول قضايا معاصرة.
وفيما يخص "حلاوة زمان"، فيمكن أن نقول إنها تندرج ضمن المستوى الثاني في التعامل مع التراث. فالسيد حافظ عاد إلى العهد الفاطمي، وخاصة المرحلة التي حكم فيها " الحاكم بأمر الله"، ليرفع الضيم عن هذه الشخصية التي طالما تصدت لها أقلام المؤرخين والمبدعين بالسب والتجريح، وليعيد الاعتبار إليها من خلال التركيز على الجانب الخيّر فيها، كما يقول في أحد النصوص التي صدر بها مسرحيته.
ولم يكن السيد حافظ هو أول من جعل "الحاكم بأمر الله" موضوعا لعمل مسرحي، بل سبقه في ذلك مسرحيون عرب آخرون وعلى رأسهم علي أحمد باكثير، وإبراهيم رمزي. إلا أن جل المبدعين في مختلف مجالات الإبداع نظروا إلى " الحاكم بأمر الله" باعتباره خليفة شاذا ومجنونا، وصاحب القرارات الطريفة و المثيرة للدهشة والضحك. وجاء السيد حافظ ليكسر هذا التقليد، ويقدم هذا الخليفة في صورة مختلفة تماما.
" الحاكم بأمر الله" من أغمض الشخصيات التاريخية التي تتضارب حولها الأخبار، إلى درجة يمكن معها الوقوف عند صورتين متناقضتين له، إحداهما يظهر فيها قاتلا، وسفاكا للدماء، ومجنونا وملحدا...، والأخرى يظهر فيها حاكما عادلا محبا لشعبه، مؤمنا صادق الإيمان، وزاهدا عن ملذات الدنيا...، يتناوله بعض المؤرخين بالمدح والثناء، ويرفعوه " إلى ذروة المجد، بينما يتناوله الآخرون بالنقد والتجريح والطعن في نسبه وشخصيته بما يتنافى والآداب والأخلاق."([6])
وهذه المسرحية التي بين أيدينا تظهر "الحاكم بأمر الله" في الصورة الثانية. فمنذ صغره وعلامات الفطانة والذكاء والعدل تظهر عليه من خلال أفعاله، إذ وهو لم يتعد الخامسة عشر من عمره والسنة الرابعة في حكمه، أقدم على فعل خطير ومهم، يتمثل في إعدام أحد أبرز رجال الدولة وأكثرهم نفوذا هو برجوان. فبعد انتشار خبر الإعدام بين الناس، سمعت زغاريد وشوهدت جموع تجري في الشوارع فرحة ومرددة الخبر، ونسمع الحوار الآتي :
" فتحي : الله أكبر.. الله أكبر.. الحاكم ظهرت علاماته وكراماته وقتل الوصي الظالم. الحاكم ظهر رقصني يا جدع.. أرقص يا قسام يا ملك الشام.(...)
فتحي : الحاكم مش عبيط ولا مجنون الحاكم عدل.
قسام : مع أنه صغير السن فهم أن الوصي ظالم دا سبق آوانه. عبقري من وادي عبقر"([7]).
وتمضي المسرحية على هذا النهج في سبيل إبراز عظمة هذه الشخصية، إذ في جميع سلوكها، تمثل المثل والقدوة لكل الحكام الذين تتمناهم الشعوب المستضعفة، باستثناء بعض مواقفه التي يبدو فيها صارما، وقاسيا أكثر من اللازم، وكذا انسياقه وراء إغراءات المغنية اللعوب الفائقة الجمال " عزيزة"، ليكفر بعد ذلك عن ذنبه بإعدامها، وإعدام آلاف من الراقصات اللائي اعتبرهن سبب البلاء وانتشار الفساد.
هكذا إذن، حاول السيد حافظ أن يعيد الاعتبار " للحاكم بأمر الله" الذي شغل الدنيا على مر العصور، إلى أن نسجت حوله الحكايات والأساطير والمستملحات والنوادرو فقد حرص السيد حافظ على جعل أحداث المسرحية ووقائعها متصلة بالمرحلة التاريخية لحكم " الحاكم بأمر الله"،إذ تبدأ ببعض الإشارات التاريخية إلى " المعز لدين الله" و" العزيز بالله"، لأن الأول هو مؤسس القاهرة، والثاني هو المساهم في توسيع بنيانها. وهذه المسرحية تشكل القاهرة بالنسبة إليها الفضاء المحتضن لأحداثها. لذلك كانت الإشارة إلى تاريخ القاهرة أمرا مهما رغم الإشارة الأخيرة في المسرحية إلى " الظاهر بالله" الذي تولى الخلافة بعد " الحاكم بأمر الله"، وأصدر مجموعة من القرارات التي تحيل إلى أن ما بناه " الحاكم بأمر الله" في خمس وعشرين سنة، قد هدمه ابنه في ظرف وجيز، ولم يكن فيه الشعب قد صدق بعد نبأ اغتيال خليفتهم. ونقرأ في المسرحية:
" الظاهر: أمرنا بفتح الخمارات وشرب الخمر.. وعودة بيع العبيد. (فى بقعة ضوء مع المنادي)
فتحى : ما تقولش مات
قسام : ما تقولش الحاكم مات.
فتحى : الحاكم متخفي وحيرجع تاني."([8])
ونقرأ فى المسرحية أيضا بعض المقاطع التي تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى الهدف من الكتابة عن "الحاكم بأمر الله" : الهدف الذي أشرنا إليه سابقا، وهو رفع الضيم عن هذه الشخصية، ومحاولة إعادة الاعتبار إليها. ونفهم من تلك المقاطع أن تطبيقه العدل بالكيفية التي دفعته إلى تطهير الدولة الفاطمية من آلاف المفسدين والظالمين بقطع رؤوسهم ومصادرة أموالهم ووضعها في بيت المال ليستفيد منها الفقراء، هو ما جعل المؤرخين – الذين هم في أغلبهم يمثلون أقلاما مأجورة- يشوهون حقيقة " الحاكم:
" شهبندار التجار: ( يضحك) الحقائق لا يكتبها التاريخ والحقيقة دائما مجهولة، أموالنا التي أخذتها منا هي التي ستحرقك أموالنا تكتب التاريخ كما نهواه نحن وكما نراك نحن... سنجعل الكتاب ينكلون بك تنكيلا ( يضحك الجميع) "([9]).
أخيرا أشير إلى أن السيد حافظ إذا كان قد انبرى للدفاع عن " الحاكم بأمر الله"، فإنه أساء بالمقابل إلى ابنه " الظاهر بالله" الذي قدمه في آخر المسرحية على أنه بمجرد وفاة أبيه سارع إلى فتح الخمارات، وإلى الأمر بشرب الخمر والعودة إلى المتاجرة بالعبيد. فربما سيأتي مسرحيون آخرون مستقبلا ينبرون للدفاع عن " الظاهر بالله" من خلال ما لحقه من إساءة من لدن السيد حافظ، وإن كان هو لم يقصد الإساءة إليه بقدرما أراد إبراز" الحاكم بأمر الله" رجلا شاذا في مجتمعه، فيما يخص تطبيق العدل والقضاء على الفساد. فقد انقلب الأمر. فالشاذ هو الذي يصر على تطبيق العدل والقضاء على الفساد في زمن كان آخر ما يفكر فيه الحكام هي هذه الأمور.
د– اللـــغة:
أثارت طبيعة اللغة في مختلف المجالات الإبداعية - وبشكل أكثر حدة في المسرح- في الوطن العربي زوبعة من ردود الأفعال. خصوصا بعد أن ظهرت ثلة من المثقفين والمسرحيين، يدعون إلى استعمال العامية من أجل تحقيق تجاوب أكثر مع الجمهور، والتمكن من الالتحام بقضايا الطبقات الشعبية وهمومها. وهذا ما أثار حفيظة كثير من المثقفين والمبدعين الذين يزعمون أنهم يتحركون من منطلق الدفاع عن لغة الضاد: لغة القرآن، وأن اللغة الإبداعية يجب أن تحافظ على صفائها وجمالها من خلال المحافظة على فصاحتها.
أما السيد حافظ في هذه المسرحية، فقد وظف اللغة بشكل زاوج فيه بين العامية والفصحى، وذلك بحسب ما يستدعيه المقام. فثقافة الشخصية وموقعها الطبقي هو ما يحدد اللغة التي تتواصل بها الشخصية. كما تساهم الفضاءات والأمكنة هي الأخرى في تحديد طبيعة اللغة التواصلية. فالحي الشعبي امبابة ليس هو قصر الخلافة. وهكذا نجد " الحاكم بأمر الله" عندما يكون في دكان فتحي بأحد الأحياء الشعبية في القاهرة، يتخلى عن الفصحى ويشارك جلساءه الحديث بالعامية. وفي هذا دلالة على حب الخليفة لشعبه، فينزل إلى مستواهم، ومن ثم يزول بينه وبين رعيته حاجز الرهبة والخوف، فيتجرأ الجميع على الإفصاح عن مواقفهم أمامه.
جــ - الإرشادات المسرحية:
إن النصوص المسرحية الحديثة تلجأ إلى ما يسمى بالإرشادات المسرحية، أو المعينات الركحية بشكل لافت. وهذه المعينات تقوم بوظائف متعددة. وقبل الوقوف عند أهم تلك الوظائف من خلال مسرحية "حلاوة زمان"، أشير إلى أن أهم دور تقوم به هذه المعينات هو جعل المتلقي يستحضر في ذهنه - وهو يقرأ النص المسرحي- كيفية اشتغال الحكاية على الخشبة المسرحية أثناء العرض، خاصة إذا كان المؤلف يجمع بين التأليف والإخراج.
والمتصفح للمسرحية التي نحن بصدد تحليلها، سيجد عددا هائلا من المعينات الركحية التي تعج بها المسرحية. وبالوقوف عندها وقفة تفحصية تحليلية، يمكن تحديد أهم وظائفها فى سبع :
تأثيث الركح : أي تحديد مواصفات الديكور والسينوغرافيا فوق الخشبة المسرحية. ومن بين الإشارات التي تقوم بهذه الوظيفة- وهي كثيرة جدا- نجد ما يلي :
- " في مكان مرتفع على المسرح وأمامه مجموعة من العمائم"([10])
- " يتغير الديكور إلى حي امبابة.. دكان كتب عليه محل الشواء لصاحبه فتحي صاحب الآداب.. يجلس بجوار المحل قسام التراب يشرب الشيشة.. بعض الناس تشتري وتمشي.. مصباح كبير معلق أمام الدكان" ([11])
- " تخرج الناس تحمل رقعة جلد مكتوب عليها الشكاوى وتلتف حول الخليفة"([12])
1- تقديم تصور حول حركة الممثلين فوق الخشبة المسرحية، والإشارات التي تقوم بهذه الوظيفة كثيرة، نذكر:
- " ناس تجري يمينا ويسارا"([13])
- " يجري خارج المسرح"([14])
ابن عمار يدخل في صراع بالسيف مع برجوان..حتى يهرب ابن عمار من أمامه"([15])
2- تحديد الإنارة: يركز السيد حافظ على الإنارة بشكل كبير نظرا لما تقوم به من تحديد للأزمنة، لأن أحداث المسرحية تقع في الليل والنهار والفجر والظهر...
وهو الأمر الذي يتطلب تغيير مستويات الضوء. ونذكر أيضا ثلاثة أمثلة من المعينات الركحية الواردة في المسرحية التي تقوم بهذه الوظيفة:
- " الاثنان في بقعة ضوء"([16])
- " شوارع القاهرة عند دكان شواء الأزرق ليلا..الأضواء خافتة.. صوت الكلاب" " ضوء الفجر"([17])
- "على المسرح ظلام شديد بقعة ضوء على شهبندار التجار وابن دواس وابن حسيب شاب صغير"([18])
3- تقديم تصور حول لباس الشخصيات:
- " يدخل رجل يخلع ملابسه في الطريق متجها للحمام" ([19])
- " الحاكم لا يرتدي ملابس تنكرية"([20])
- "يدخل الحاكم بفوطة على رأسه وملابس متواضعة على جسده"([21])
تحديد طبيعة الكلام: أي هل هو صراخ أو همس أو خطاب إلى غير ذلك، ونمثل لذلك بما يلي:
-" في تابلوه استعراضي غنائي ينادي أهل حي امبابة يا ناس..."([22])
-" فتحي وقسام يتقدمان ويهمسان"([23])
-" تتحدث بالفصحى.. تتوحد الأرواح"([24])
تحديد تموضع الممثلين فوق الخشبة المسرحية:
-" يظهر غين على المسرح وهو رئيس الشرطة وخلفه جرجاني مساعده"([25])
-" يخرج إلى المستوى الثاني يصعد إلى سور القلعة"([26])
- " يتجه للنافذة" " أو إلى صالة الجمهور"([27])
توزيع الأدوار على الممثلين: يلجأ السيد حافظ أحيانا عندما يريد إبراز شخصية جديدة في الأحداث، إلى تحديد الممثل الذي سيؤدي دور هذه الشخصية، والذي يكون بطبيعة الحال قد مثل دورا آخر، أو لا يزال يمثل دورا ما، فيقوم بدورين وربما أكثر، و مثال ذلك:
- "يدخل أربعة من العبيد ويحملون العزيز مصابا والذي يمثل دوره - جوهر الصقلي"([28])
-" ابن سعيد والناصري يمثلان مع الشخصيات"([29])
-" يمثله الشاب الذي مثل دور الحاكم صغيرا"([30])
الخـــاتمــة :
يغلب على " حلاوة زمان" للسيد حافظ الطابع الكلاسيكي، خصوصا فيما يتعلق بوحدة كل من الحدث والزمن والمكان. كما نلمس فيها تلك الخاصية المعهودة في المسرحيات الكلاسيكية المتمثلة في نمو الأحداث في اتجاه واحد، بموازاة مع التسلسل الزمني المتصاعد، إذ تبدأ بحدث يتمثل في تقليد " الحاكم بأمر الله" منصب الخلافة بعد وفاة أبيه " العزيز بالله"، فيمضي في النمو إلى أن يبلغ الذروة، ثم ينتهي إلى حل يكشف عن عظمة الشخصية التاريخية موضوع المسرحية.
لكن بجانب ذلك تحضر بعض تقنيات الاتجاهات المسرحية الحديثة، من قبيل تقنية السرد، وكذا تقنية أداء الممثل الواحد لأكثر من دور، وتقنية المسرح داخل المسرح...،وهي كما هو معروف، قد وظفتها بعض الاتجاهات المسرحية الغربية الحديثة، وإن كان التراث العربي الشعبي يزخر بالكثير منها، وهو الأمر الذي جعل المسرحيين العرب لا يرون حرجا في الاستفادة منها، بموازاة مع دعوتهم إلى البحث عن صيغة مسرحية عربية الهوية.
لائحة المصادر والمراجع
- الكتب :
1- د. سامح مهران، المسرح بين العرب وإسرائيل، ط1، 1992.
2- لسيد حافظ، حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله، مركز الدلتا للطباعة، د.ت.ط
3 - عارف تامر، الحاكم بأمر الله: خليفة- إمام- مصلح، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ط1، 1982.
المجلات :
1- العربي، العدد 477، فبراير 1996:
2- حوار بين أحمد عنتر مصطفى وسعد الدين وهبة.
3- الوحدة، العدد 94/95، يوليو/ أغسطس 1992:
4- مقال لمحمد عزام: توظيف التراث في المسرح العربي الحديث والمعاصر.
5- مقال لمحمد مسكين: المسرح العربي الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية التاريخية.
([1]) محمد مسكين، المسرح العربي الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية التاريخية، مجلة الوحدة، العدد 94/95، يوليو/ أغسطس 1992، ص: 9
([3]) - السيد حافظ، حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله، مركز الدلتا للطباعة، د.ت الطبع، ص: 6
0 التعليقات:
إرسال تعليق