دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 101)
سحر المكان عطر الزمان.. وروح الإنسان
كابتشينو رشفة على شفاه الأنا
قراءة بقلم د. ليلى بن عائشة
دراسة من كتاب
((التشظى وتداخل الأجناس الأدبية فى الرواية العربية))
" الجزء الأول "
إعداد وتقديم
نـجـاة صـادق الجشـعمى
سحر المكان عطر الزمان.. وروح الإنسان
كابتشينو رشفة على شفاه الأنا
قراءة بقلم د. ليلى بن عائشة
نرجسية الكتابة وحمى التجريب
كان التجريب ولا يزال ضالة المبدع المبتكر الذي يسعى سعيا حثيثا إلى تجديد دماء إبداعه بطفرة إبداعية أو تجريبية تغير معالم الجاهز والمعهود إلى اللامألوف المبهر الصادم والمختلف ، ولعل السيد حافظ أسير التجريب منذ عهده الأول بالكتابة .
إن المتأمل لكتابات السيد حافظ سيجد لا محالة ذاته مبثوثة في ثنايا الكلمات وروح إبداعاته التي تحيلنا على انه يعشق الكتابة حد الجنون إنه يعشقها في ذاتها ولذاته لا لذاتها ، قد يكتب للمتلقي في دعوة مفتوحة له ليشاركه أحاسيسه ومشاعره وأفكاره ، ويبثه شكواه ، ولكن الخفي واللامعلن في الأمر أنه لا يكتب سوى لذاته وإرضاء لها، قد ينظر البعض إلى الأمر من زاوية الأنانية والنرجسية المفرطة من قبل الكاتب،الذي يرى في ذاته حكيما باختياراته التي اقتنع بها رغم ما تجره معها ،والأديب الحق ينبغي أن يكون كذلك "طوال عمري كنت أفسد حياتي باختياري للحكمة والحب والمعرفة والكتابة" ص.114.ولكنها من زاوية نظر أخرى قمة التواصل والتلاحم مع الآخر ؛إذ لمن يبث الإنسان شكواه ويروي عذاباته وأناته ولواعج نفسه، ومر وحلو أحاسيسه إلا لمن يحب وبمن يثق، فقد صفا ود الكتابة لديه حتى أضحى شفافا يرُى منه كل شيء لذا اختار أن يكون كذلك أمام القارئ الذي يتلقى روحه عبر كلمات تنبض نورانية وروحانية وحسية أيضا، ليكون ملكا مشاعا للجميع، وعلى الرغم من تصريحه بعدم الاعتداد بالنفس إلا أنه يؤمن أنه متفرد يقول ذلك على لسان شخصياته التي تحمل فكره وروحه ،"قلت دون ادعاء: أنا من تخلع النساء أحذيتهن عند عتبات داري ومن يتعطرن له حين يقرأن كلامي ومن يتوضأن ويصلين شكرا لله ركعتين عند عتبات داري.. "ص.115، لذا وأنت تقرأ له فأنت تقرأه من الألف إلى الياء ، وأنت تقرأه فأنت تطلع على سرائره ، والسرائر هنا جمع لذاته المتقلبة بين الحزن والفرح بين الأمل واليأس بين الاعتزاز والاعتداد بالنفس والانكسار والقهر ،بين الاعتراف والجحود والنكران..فبين التقلبات المزاجية العديدة لا يملك هذا الكاتب إلا مساحة الكتابة فقد بات الصوت مبحوحا ولا يكاد يصل، وأي المنابر ستسمع أناته وزفراته، كل المنابر عاجزة أو جاحدة..لكن وحدها الكلمة التي يسجلها التاريخ تبقى أزلية وصوتها المهموس والمجهور مسموع وإن سدت الآذان فهو يخترقه ليرتسم نقشا على العقول والقلوب . يدرك الكاتب أنه ذاته /وليس الآخر ، فالاعتداد الواضح بالنفس يعكس هذه الذات التائهة ربما والتي تبحث عن نفسها ،أو تبحث لنفسها عن مكان لا يستقيم مع ماهو موجود ولا يمكن أن تتموقع في حيز محدد، وهذا منتهى الاعتداد بالذات ولكنه في لحظات ما يستدرك ويدرك أنه ليس هذا أو ذاك بل إنه يحمل من صفات الهذا أو الذاك، ما يزكيه ويزيده رفعة "أنا لا أستطيع أن أكون أبا حنيفة ، ولكنني قد أشبهه في بعض الأشياء في قولة الحق ولقد خسرت كل شيء في حياتي بسبب هذا "ص.113 .
كابتشينو أنوية وتناسل الحكايا
لا روح للسرد مالم يكن أفق الروائي واسعا وخياله متقدا ، يخلق الحكايا من رحم اللاشيء ليبهر ويأسر القارئ ، وليعلن عن ميلاد عوالم موازية ولكنها مختلفة في الوقت نفسه عما نعيشه، وكابوتشينو هي ثلاث حكايات تخترقها مئات الحكايا، شخصيات متباينة، في أزمنة مختلفة ومتباعدة ولكنها متشابهة أو بالأحرى ثمة ما يصل بينها:
حكاية سهر وكاظم..
حكاية فتحي رضوان وتهاني /فاتن.. .
حكاية نور ومحب/موسى وفرعون..
لكنها حكايا عن الذات وتقلباتها ،عن بناء الإنسان /بناء الحضارة ،عن الماضي/ والحاضر ،عن المستقبل الذي يستشرفه الكاتب/يحلم به،هي سيرة ذاتية /غيرية ،هي تاريخ/ وفلسفة ، هي نبوءة/ واستشراف حياة،هي أنا /وأنت ،هي الأنا /والآخر، هي الهو /والهو،.. باختصار هي تشكيلة من الثنائيات المتلازمة ،المتضادة المتلاحمة ، هي مشروع يتعدى مجرد سرد حكايا لقارئ يتسلى.. هي ماذكر آنفا وأكثر..
ليس من السهل الكتابة على الأنا والوقوف أمام القارئ عاريا؛ حيث خبايا الروح وحناياها تشف من بين الضلوع لتعلن عن إنسانية الإنسان في أدق تفاصيلها ،وأحلى معانيها ،إنسانية يتجرد فيها الإنسان من الحقد الأزلي والضغينة التي تعتم على كل ماهو جميل ،إنسانية يترفع فيها عن العنصرية ،والفرقة الدينية والفكرية والطائفية، ليرسم دروبا للمحبة والنقاء المفتقدين في عالم تغيرت فيه ملامح الإنسانية وأضحى التطرف ينخر كل شيء حتى المشاعر.أبى السيد حافظ عبر شخصيات روايته هاته بل رواياته أن ينشر ذاته بين ثنايا كل منها ،لتتوزع هذه الذات المتفردة عبر مئات الشخصيات ليقرأها ويستقرئ مكامن الضعف والجمال والعنفوان في كل منها ،وكأنه روح عاشت بألف روح،أو روح حلت في ألف روح وروح وتناسخت وحلت هنا وهناك ،لتتجلى تجربته في معرفة تفكيرها وعلمه بحالها وأحوالها والغوص في أعماقها ،ولكنه في كل هذا وذاك يقدس ذاته بنرجسية عبر الكشف عن ما تنطوي عليه هذه الشخصيات على اختلافها وتنوعها ،ويبث روحه المشرئبة إلى عودة الإنسان إلى منابعه الأولى والفطرة التي جبل عليها،رغبة منه في أن تكشف هذه الشخصيات عن ضعفها الذي هو أمر طبيعي وإنساني ، وليحملها على تقبل ذاتها،كما يتقبلها هو ، فذاته رغم تعاليها وإحساسها بالتفرد والتميز تهفو إلى جوهر الإنسان وروحه التي خلقها الله وأبدع في خلقها ،لا ينشد في ذلك المثالية بقدر ما ينشد الإنسانية الحقة على فطرتها بعلاتها وضعفها ولحظات قوتها ،لأنه ببساطة إنسان..
أنسنة[1] المكان وروحانيته:
لعل سيطرة البحث عن إنسانية الإنسان، الإنسان /الذات/الآخر هيمنت على فكرة السرد في هذه الرواية حتى أسبغ الكاتب صفاتها على كل شيء، فـ" إذا كان المكان الواقعي يتحدد بعلاقاته المكانية فإن المكان الروائي (.. ) يتميز بأنه فضاء لفظي (وهو لا يتشكل إلا من خلال اللغة)، وفضاء ثقافي (وهو ماتعبر عنه اللغة من التصورات والقيم والمشاعر،.. )، وفضاء متخيل (وهو الجانب الحكائي المتخيل من يا الروائي)[2]. ولكن هل يخضع المكان في المتن الروائي "لكابوتشينو" لهذه التحديدات والأطر ؟.
ولئن كان غاستون باشلار قد تحدث عن الأطر التي تحدد المكان وتعطيه أبعاده الجمالية والفنية، والتي تتسع وتضيق بحسب طبيعته وشكله ونوعية الفضاء والحيز الذي ينطوي عليه، فإن المكان في رواية كابوتشينو يتخذ أبعاد وأطرا تتجاوز حدود ما أطر ،وتتحدى نواميس المنطق المعهود لترسم لنفسها معالم من أخاديد الروح وعذابات النفس، وسمو المشاعر وقدسية الحب، وحرية الاعتقاد " والله أخوي كاظم ما عدنا نعرف مسلم من مسيحي من درزي لسني لعلوي لشيعي..
-أحسن هيك..إنك تسيب الموضوع ده لله في السماء..أحسن هيك "ص.15 . لتكون هذه الرواية مفتوحة على التأويل لكن الثابت أحد أهم أسبابها هو التسامح والحرية في المعتقد وفي أشياء كثيرة من مناحي الحياة وحب الإنسان للإنسان ، وهي التي تشكل جوهر الحياة.
أنسنة القمر:
لقد غدا المكان في هذه الرواية أيقونة تحيلنا على قراءة جديدة ومختلفة للمكان الذي أُنسن فأضحى شخصا من دم ولحم وروح،لذا ونحن نسترق السمع، نجد القمر قد نزل من عليائه فنسمع صوته وهو يئن ويشكو، وشهرزاد القديمة المتجددة تأبى أن تستقبله .
"لن أفتح الباب..ربما هو صوت القمر نزل ليطمئن علي ويشكو لي من النساء " ص.46
بل يخلع الكاتب على القمر الصفات الإنسية ليغدو عذراء يحمر وجهها خجلا..
"ماذا بي؟.. عندما سأقول أحبك يحمر خد القمر لا أعرف لماذا؟ " ص.68.
قد يصبح المكان كلمة لا فضاء أو حيزا تشغله مادة فيزيائية، بل المكان كلمة مصيرية للذات التي تنشدها،كما نشدها محب كلمة العفو من قلب نور "كان يشم هواء البيوت ليهدأ قلبه ويستطيع النوم أبحث عن فردوس كلمة العفو التي أود أن أنطق بها لها" الكلام على لسان محب ص.186.
جمالية المفارقات في الأنسنة:
ونحن نغوص في سحر الكلمات وعبقها نكتشف أن كابوتشينو رواية حبلى بالمفارقات الصارخة التي تعمق الصورة وتجعلها أكثر شفافية ووضوحا، لترسم صورة بالكاد نتلمسها ونستشعر غرابتها وجمالها في الوقت ذاته ،وهنا
يؤنسن الصمت ويصرخ بملء فيه:
"متى يكف صمتك عن الصراخ في دمي" ص.68
بل يغدو الصمت إنسانا يرقص في لحظات الحب "الصمت يرقص معنا "ص.85
ولعل من المفارقات الملفتة استشعار الجمال والأمان في مفارقة تجمع بين (الحمّام) والرقص مثلا ،ليغدو الحمّام فضاء حميميا دافئا،يحتضن الجسد ليرقص ويتردد في فضائه الصوت هروبا من الواقع الأليم وتحديا له ،فالحمّام في عرف كابوتشينو قد يكون أنسب مكان للرقص وانطلاق المشاعر "أجمل الاشياء أن ترقص بمفردك..وأنت في الحمام وأن ترقص وتغني..وأن تسمع صوتك وأنت تشدو لتقاوم الحزن والوحدة والاكتئاب.."ص.89.
الحشيش وطن وسكن للروح المتعبة
حتى الحشيش في عرف المتن السردي لكابوتشينو سكن بل وطن للمهمشين، فعبره تتحقق المساواة والعدالة الإنسانية بين بني البشر ليتساوى الجميع في عالم النشوة وتعديل المزاج توسلا للنسيان ، وبحثا عن لحظات السعادة الهاربة ،ففي عالم المحششين تغيب الفوارق الاجتماعية وتذوب الطبقية ،
" الحشيش يجمع الأمير مع الخفير..الثري مع الفقير.." ص.49
بل يصبح الحشيش وطنا وسكنا ،وطمأنينة لفئة معينة ممن لا وطن لهم ولا سكن ، ثم إن ضيق واتساع المكان/الحشيش يرتبط بالكلمة في حد ذاتها ،حسب ما قد تحدثه من تأثير على الشخص " الحشيش الوطن السفلي للضائعين..عالم الحرافيش والمهمشين والسفلة..متسع وضيق لا يعرف اتساعه إلا من ملك كلمة السر.. حشيش.."ص.49.
أنسنة الجبل:
كان الجبل ولا يزال مكانا يلجأ إليه المتمردون والثوار ،بحثا عن سبل تكفل لهم انتزاع الحرية ،وعادة ما يرتبط بالسلاح والطريق اللامسالم في تحصيلها ،وقد لا يكون تمرد الفرد إلا على نفسه ومن هم حوله كما هو حال كاظم " خرج من الدار..صعد الجبل..لتصعد الروح للحرية للنور للسماء"ص.14 وقد يكون الجبل رجلا يطمئن على النساء في وحدتهن، " ربما هو الجبل جاء على هيئة رجل ليزورها [ ليزور شهرزاد]" ص.4
وقد يشكل الجبل مكانا للحرية والتحرر ،ولكن عبر ممارسة طقوس الرقص
"قالوا الرقص هو الخلاص أرقص فوق الجبل ليتحرر الجسد والروح من الوجع والسهد"ص.85 مثلما رقص العاشقان نور ومحب في غمرة الحب ونشوته " رقصت نور ومحب فوق الجبل..وقف الحصان برق يراقبهما بعيد"ص.88 وهنا يصبح الرقص الذي يسمو بمشاعر المحبين حياة أو "روح الحياة بل صلاة قبل ظهور الأنبياء" ص.89
إن المكان في هذه الرواية يشكل بؤرة السرد وجوهر الرواية بلا منازع،ولعل أنسنته أسهمت في جعله عنصرا فاعلا في تأكيد شعرية اللغة السردية وحسن توظيفها،وجمالية الصورة المشهدية الناطقة والنابضة بالحياة عبرها.
أنسنة المشاعر:
أنسنة الحب/الروح تسكن الحب
الحب إنسان وسكن وسكينة وطمأنينة، هو الفضاء الذي يحتوي الروح أو بالأحرى الذي تسكنه الروح بدل أن يسكنها، بل للحب روح تسكنها روح المحب، هي صورة في منتهى العمق والجمالية تلك التي وصف بها الحب في كابوتشينو ، "الحب روح لا تسكننا بل نحن نسكن روح الحب..حتى نغسل نفوسنا من الحزن والشر" ص.71.أكثر من ذلك فالحب فضاء هلامي وحيز لا يرى لكن يمكن تحسسه والإحساس به ، والسكن في رحابه
"الحب قصر نسكنه ولا نراه"" ص.84.
الحب سر من أسرار الخالق المبدع المحبوب من العبد المؤمن به المقر بعظمته ،والمدرك لرأفته وحنانه ،فحبه سر الكون الذي انعكس على العباد فتحابوا.. "الحب.. سر الكون سر الله فينا..سر الروح، ومن شعر بأن الحب فات ومات وذبل هو لم يذق طعم الحب الحقيقي"ص.384.بل إن الحب مرتبط بالإيمان وكلاهما قوة لا تضاهى" يا خالتي..الإيمان والحب قوتان "ص.371 .
ولا شك أن الحب الذي يملأ على الإنسان كيانه قد يزلزل وجدانه ويهد أركان السكينة في ذاته ،ويهدهد الروح أحيانا ويخلخلها أحايين أخرى "أنا أعلم يا صغيرتي الحب زلزال"ص.389.فقد يكون الحب نقمة على صاحبه ويموت حين لا يحظى بالقبول فتكون حياته وروحه في أفول ،ومآله إلى التلاشي والانسحاق ،" الحب يسهرنا..يعذبنا يفرحنا ويؤلمنا..الحب يعذبنا بقوة ، ويفرحنا بجنون.."ص.52. والمؤكد أن الحب علاوة على كل هذا وذاك بوتقة تنصهر فيها جملة من المشاعر المتناقضة والمتضاربة، والمتعارضة لتضطرم "الحب غالبا يعشق الصمت وأحيانا يحب الكلام وربما الغناء..الحب حيرة، وبحيرة فرح وأحزان مختلفة لا تعرف كيف تفصل الحزن من الفرح ومتى يكون الربيع ربيعا والشتاء شتاء" ص 222/223.
ويرتبط الموت بغياب الحب أيما ارتباط ليصبح وجوده حياة وغيابه موتا وفناء لا محالة "الإنسان الذي يشبع من الحب هو إنسان ميت حي" ص.383.
حضن الأم وطن/ والوطن غربة وألم:
الأم أيقونة الحب اللامتناهي ونبع الحنان الذي لا ينضب ،في صورة جميلة تنضح إنسانية ودفء يصف الكاتب موسى عليه السلام وهو في أحضان أمه يوكابيد ليكون هذا المشهد أبلغ صورة عن دحض التراكمات السلبية التي عششت في الأذهان (الرجال لا يبكون مثلا – الأنبياء مقدسون أي نعم مقدسون لكنهم بشر) - ،لتؤكد على إنسانية الإنسان أيا من كان ،فيكون حضن الأم بذلك وطنا لكل إنسان أينما كان "وارتمى في أحضانها وبكى ،بكى موسى وهو في الأربعين.. أليست أحضان الأمهات لنا أوطانا مهما كبرنا "ص.148.وقد يصبح الوطن الحضن الدافئ مكان يضيق بأبنائه تماما كما حدث مع موسى الذي يتحدث الكاتب بوجعه على لسانه فكلاهما عاشا تجربة قاسية ،فالألم واحد لا يفرق بين إنسان عادي ونبي ،بل إن الإنسان المبدع هو نبي أيضا نبيالكلمة، نبي دون وحي ..
"آه يا مصر الوجع.. على الرغم من أني أنجو بنفسي من مصر فإني أنتحر يا مصر الوطن..الرحيل كفن والهجرة والسفر عذاب وقتل بطيء وخطر.. آه يا مصر الذكريات والحب والوطن.. لماذا تفعلين بي هذا؟ "ص.151 فيؤنسن المكان ويعاتب كما عاتب موسى / السيد حافظ الوطن .
أنسنة الزمان:
من أجمل صور أنسنة الزمان في رواية كابوتشينو ما ورد على لسان فتحي رضوان وهو يشخص الزمن ويوصي بسؤاله "إذا مر الزمان ببابكم سلوه أين حقائب أحلامي التي أخذها ؟ وأن يشتري حذاء لكل الحفاة في مصر والبلاد العربية"ص.29 .
وفي صورة أخرى لا تقل جمالية وحياة وألقا يقول السيد حافظ على لسان كاظم العاشق مؤنسنا ومتحدثا عن مجيء الليل وخجل القمر ، واستيقاظ الفجر وهمسه، وبكاء النجوم والكتابة على خدودها ، بتصوير نابض يجعلنا نستحضر شعرية الموقف، وجمالية المشهد وبانورامية الأنسنة بصفات تتوزع على مخلوقات الله من غير الإنس:"يجيء الليل عند قدميك يا سهر وينام القمر مغشيا عليه ،أو في حالة خجل ، ويصحو الفجر مستترا ،وينسحب بصوت الهمس حتى لا يوقظ قلبك أو يقلقك، وأنت في أحضانك حلم بي ،يهون علي بكاء النجوم وهي تعطرك، وأكتب على خد كل نجمة أحبك.. "ص.13. ويؤنسن الليل مرة أخرى من خلال غيرته -بوصفه رجلا- التي تظهر بالعقاب الذي سلطه على سهر عبر هوائه الذي تسبب في مرضها "أصابها هواء الليل البارد الذي غار من عشق سهر للعصفور "ص.224.
تشخيص القبح/القداسة عبر أنسنة المكان
القرية التي تخنق كاظم وتكتم أنفاسه وترمقه بنظرات الريبة والتتبع والشك في سلوكه ودينه ومعتقده ، هي سجن ومكان مقفر ، وهي قرية تستحق الغياب فاختيار اللفظة يحيلنا على القرى وما أصابها في غابر الأزمان ،لتشير هذه اللفظة على كل سلوك مستمج يقوم على الجحود والنكران والإمعان في إيذاء الآخرين " جحيم القرية"ص.14.
"قريتنا مكان أم حزن أم سر الأنبياء"ص.48.
ويستحضر الكاتب في موضع آخر من الرواية وصف الوهراني لمصر مشخصا ومؤنسنا إياها، جامعا في توصيفه جملة من المتناقضات والمتضادات التي لا تستقيم، ولكنها استقامت وانسجمت عبر جمالية الوصف وإبداع الكلمة، وحسن صناعة الصورة بقوله: "هي عجوز محتالة وطفلة مختالة ، وروضة زاهرة، وامرأة عاهرة ،ولدت في السعود ونشأت بين الطبل والعود، حتى إذا هرمت سعودها، وذوى في الترب عودها، رميت بالرواعد، فأتى الله بنيانهم من القواعد "ًص.31. كما يصبح الحب بعيد المنال طوقا يلف رقبة صاحبه ، والكره سجن يأسره ويكبله "..وجلس فوق الجبل سائلا الله أن يخرجه من أسر طوق سهر، وسجن وردة "ص.14.
تشييئ الإنسان:
إذا كانت الأماكن تؤنسن وتشخص لتمتلك روحا فإن الإنسان المنبوذ وغير المرغوب فيه، في كابوتشينو يشيّء ويحمّل عاطفيا بسمات سلبية ،وبكل ملامح القسوة والوحدة ،وغيرهما تماما كما هو الحال بالنسبة لشخصية وردة زوجة كاظم فهي سجن لزوجها؛بحيث أضحت مكانا مقفرا تغيب فيه ملامح الحياة والدفء ، مكان تضيق فيه الأنفاس " وأظل أنا وحيدا سجينا مع وردة "ص48. و"سجينا مع وردة" هنا لا تعني بمعيتها بقدر ما تعني أنها السجن في حد ذاته .
تشيء وردة في أحاسيسها ومشاعرها والتعامل معها ،فغياب الحب معناه تشييء الإنسان " بدي اياك تتكلم معي ما تتركني هيك مثل الكرسي والكنبة والتلفزيون " ص.14.ولكن بالمقابل وجود الحب يعني أنسنة الجماد وتشخيص الموجودات..
ومن نافلة القول أن رواية كابوتشينو حملتنا عبر تقنية الأنسنة والتشييء وتشخيص عناصر الطبيعة والكون، وأنسنة المشاعر وما حملته من مشاهد جمالية، عمقت السرد على مستوى تواتره ،وشعرية بنائه مما جعل الرواية تنوء بسر من أسرارها ألا و وهو الأنسنة والتشخيص اللذان أسهما في عمق بناء الصور الجمالية ،و أضفيا على عناصر السرد مهابة لغوية وفكرية متميزة تجعل من الرواية تطلق دعوة للقارئ ليحتضن جملة هذه الصور التي أبدعها الخيال وصدقتها اللغة وترجمتها عبر السرد /والأحداث/ وتفاعل الشخصيات لتكون هذه الآلية واحدة من الميكانيزمات التي أعطت دفعا للرواية لتكون ماهي عليه رواية الإنسان / وأنسنة المكان والزمان ،فينعكس سحر المكان ليعبق الزمان بعطر الروح،وسمو المشاعر.. فتولد كابوتشينو قطعة من روح الكاتب.. وتستمر الحكايا بعطرها الأخاذ..
السيرة الذاتية
د. ليلى بن عائشة
Leila Benaicha (m) Gouali
أستاذة محاضرة بجامعة سطيف ومذيعة سابقة بالإذاعة الجزائرية
· حاصلة على شهادة الدكتوراه في الفنون الدرامية.
· حاصلة على شهادة الليسانس في اللغة الإنجليزية 2011.
· تشغل حاليا منصب أستاذة محاضرة (أ) بقسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب واللغات بجامعة محمد لمين دباغين سطيف.
· حاصلة على أربع شهادات خبرة في مجال الإعلام والاتصال بالتنسيق بين الإذاعة الجزائرية ومنظمة اليونسكو 2002/2001/2000/1997.
· عضو مخبر أرشفة المسرح الجزائري بجامعة السانية وهران.
· عضو هيئة تحرير مجلة فضاءات المسرح الصادرة عن نفس المخبر.
· رئيسة فرقة بمخبر اتجاهات النقد المعاصر بكلية الآداب واللغات جامعة سطيف.
· عضو لجنة القراءة بتظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015.
· رئيسة الملتقى العلمي للمسرح الأمازيغي بباتنة دورات 2015/2014 /2013/2012.
· رئيسة ورشة تقنيات الكتابة الدرامية وأصولها بأكثر من مهرجان..
· عضو لجان تحكيم بأكثر من مهرجان مسرحي وطني.
· عضو لجنة جائزة فخامة رئيس الجمهورية علي معاشي للمبدعين الشباب دورتي 2016/2017.
· صدر لها أول كتاب عن التجريب في المسرح بعنوان التجريب في مسرح السيد حافظ سنة 2005م بالقاهرة.
· وكتاب مخطوط عن نقد النقد المسرحي قراءة في تجارب بعض النقاد المسرحيين العرب .
· ومخطوط بعنوان: البحث عن المسرح الحلم مقاربة تأويلية.. .لها عدد من المسرحيات قيد الطبع..محاكمة نسوية ، أنوثة مصادرة ،سوق النساء،السوق نتسذنان، أمغار تامنوكالت باللغتين الأمازيغية والعربية..
· أعدت واقتبست عددا من النصوص العربية والعالمية من بينها لعبة السلطان والوزير لعبد الله البوصيري والتي أسمتها زيدني نزيدلك المشاركة في مهرجان المسرح العربي بالكويت2016..
· ومسرحية التقرير: إكرفالن عن ذكرى سنوية لتشيكوف ، ومسرحية بوسعدية عن نص بابا مرزوق ليحي موسى..
· نالت مسرحيتها ورنيد أكيدرنيغ جائزة أحسن عرض متكامل في مهرجان المسرح الأمازيغي بباتنة الجزائر دورة 2014.
· نالت جائزة أحسن نص عن مسرحية "ورنيد أكيدرنيغ" في نفس الدورة .
· شاركت في عدد من الفعاليات الثقافية وفي عدد من الملتقيات الدولية والعربية منذ 2005 حتى الآن.
· مشرفة ومعدة لبرنامج منمنمات ثقافية بالتنسيق مع المسرح الجهوي بالعلمة 2017
· للباحثة عدد من المقالات في النقد المسرحي والدرامي التلفزيوني..على صفحات المجلات الفنية العربية والمجلات الأكاديمية المحكمة
· شاركت الباحثة في إعداد دراسات متنوعة في عدد من المشاريع البحثية المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالجزائر وجلها عن المسرح وقضاياه في الجزائر والوطن العربي .
رقم الهاتف:0021392392448 / 00213796147746
Email:leila_benaicha@yahoo.fr
[1] -Good writers use figurative language like personification to give their writing life and to connect with their audiences. By giving inanimate objects human qualities, personification helps to relate ideas and objects to people, allowing an author to convey his meaning more effectively.
http://figurativelanguage.net/Personification.html
0 التعليقات:
إرسال تعليق