دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 108 )
قهوة سادة
الدكتورة / وفاء كمالو
دراسة من كتاب
((التشظى وتداخل الأجناس الأدبية فى الرواية العربية))
" الجزء الأول "
إعداد وتقديم
نـجـاة صـادق الجشـعمى
قهوة سادة
الدكتورة / وفاء كمالو
كتب المؤلف السيد حافظ بعضاً منه على ضوء القمر..، رسم على النجوم قصائده.. أهدى الوطن أغنية..، فظل ينتظر شروق الشمس..، سأل الأرض عن مبدأ الزلزلة..، واعترف ضمير الشتاء بأنه هو.. غيمة مثقلة، إذا أُجهشت بالبكاء فإن الصواعق فى دمعها مرسلة..
جاءت الدموع إبداعاً ووعياً وجموحاً ومساءلة.. وكان ميلاد قهوة سادة هو وشم نارى على ذاكرة الروح والجسد، فهى ليست رواية عادية.. إنها شرارة ضوء كونى مختصر الزمن العملاق لتبوح وتروى عن العشق والأوطان، والهمس، والليل.. وأساطير التكوين والتوحيد، تلك الحالة الاستثناء التى يفتح بها المؤلف مسارات للدهشة والميلاد، ليواجهنا بملحمة روائية مسكونة بقسوة الأقدار ودعارة السياسة ومراوغات التاريخ، ملحمة تمردت على السائد والكائن وامتلكت وعيها الثائر وقانونها الخاص لتصبح قراراً بامتلاك الذات والحرية.
ترتكز القيمة الأساسية على فكرة ذهبية، رشيقة ثرية.. تسكن أعماق البشر وتروى ظمأ المعرفة للمصير عبر حركو الروح واندفاعات الجسد فى كون غامض يلونة الإنسان بالدم والرغبة والأحلام.. ليكتب تاريخ القهر والاستبداد ، والتمرد والعصيان. وفى هذا انسياق يقفز الماضى إلى قلب الحاضر وتتجاوز الأزمنة حدودها.. فنعلم أن المؤلف يصدق الروح قبل الجسد..، يصدق الله والمعرى والمتنبى وجمال عبد الناصر. والحلاج..، ولا يصدق القمر ولا النساء فى المساء، وغبر الاشتباكات الثائرة تكشف الصياغات الشاعرية الدافئة عن أن هناك أوطان مومس وشعوب مومس.. وعن عذابات الوعى بأن الوطن لا يحب الفقراء ، نذل مع الشهداء والشرفاء ، وأن الغرباء من الحكام طلوا يضاجعوه سبعة آلاف عام.
تتكون رواية قهوة سادة من جزأين منفصلين متصلين.. الاتصال يبدو وهماً وحقيقة وألواناً وظلال، الدهشة تسرى فى شرايين المعنى، والزمن يراقص الإنسان، لنضيع أمام أحد أهم تقنيات الكتابة الحديثة التى تطرح مفهوماً جمالياً مغايراً للوجود والإنسان عبر الماضى والحاضر والمستقبل..، مفهوماً يبدو شاعرياً روحياً، لكنه يشتبك بقوة مع إيقاعات العلم الحديث حيث الفمتوثانية والكلونتج والضوء وطاقة الحياة، وتطل بشاعرية كاشفة عن تجربة متفردة تبعث حضوراً طاغياً يشاغب المشاعر والعقل والأعماق.
قد تكون القهوة السادة هى طقس وعزف وبهجة..، أو استعداد لامتلاك السر والسحر والرغبة..، وربما تكون تحققاً وعناءً ورفضاً.. أو اندفاع إلى الضوء والبوح والمعنى. فى هذا السياق يأتى الجزء الأول من الرواية بعنوان "حكاية سهر والعشق والقمر، حيث البدء والمسارات والمنتهى والعشق والليإلى والهوى..، وايقاعات البحث عن حقيقة عابثة تسكن أعماق وطن أدمن القسوة، واشتهى الفرار المجهول.
سهر.. أنثى الليل والبحر والسجر.. ابنة السابعة عشر الساكنة فى أحلام المراهقين والرجال ، على أبواب الدكاكين فى الجبل.. فى بلاد الشام كان ميلادها عام 1958 زمن الوحدة بين مصر وسورية..، وفى يونيو 1967 زمن سقوط الحلم العربى ، كان صعودها إلى مدارات النضج والاكتمال واندفاعات الوهج.، فقد أدركت أن الله جميل.. وأحياناً يمنح أنثى.. من روحه ومن وجهه ألقاً..
فى تلك الليلة تحرك نهدها فى الفراش بقلق.. قامت إلى النافذة.. فتحتها، وجدت عصفواً يرتعش.. أمسكته.. احتضنته، انتفض نهدها الأيمن..، أدخلت العصفور فى صدرها.. فتدفأ.. انتعش نهدها الأيسر.. وطرب أخذت العصفور فى حضنها ونام بين نهديها.. يحلم ويسأل الله أن يتجول إنسياً ولو ليلة واحدة..، طاف نحيا له ألف حلم..، لو كان بشراً لطاف بها فى الفراش حول الكرة الأرضية..
تمددت سهر ونزل شعرها على كتفيها فظللت العصفور.. شعرها غابة من الحرير، يموج بعطر لم يشمه من قبل، لا على الزهور ولا البخور ولا الغابات ولا أى بشر.
كان الرجال مأخوذين بجمال يسهر، وكان أبوها مسكوناً بالرغبة فى الخلاص من هذا القلق.. لكن العرافة " شهر زاد" أخبرته أن الصغيرة ستسافر إلى بلاد الذهب لتتزوج ثريا يفتح لها أبواب المدن ونوافذ النور..، لذلك ظل الأب ينتظر..، بشهر زاد ليست إفراه عادية، هى قديسة ولعوب، مفارقات نبوءات، تراث وميراث وأساطير، هى الحقيقة والخيال، وهمس الليل وجموح الرغبة.
قالوا إن شهر زاد تعرف قصة امرأة جامعها ألف رجل..، فحكت عن كل منهم أشكالاً وأوضاعاً، تعرف مدينة العلو والإيضاح فى أسرار الليل.. بعض النساء قلن أنها هى التى عرفت ألف رجل، وجلسن أمامها فى ذهول..، وظلت هى تخفى سر علمها بالعشق والغرام، وتقرأ أكف النساء، وتثير الأقوايل بجمالها الأخاذ.. فهى بيضاء عنياها زرقاوان.. تحب سهر، تعلم سرها وتعرف أن عرقها عطر لا يوجد فى أى أنثى الا ما ندر..
تنتمى شهر زاد دلالياً إلى عالم ألف ليلة وليلة وتتجه الرواية بشكل عام إلى منطقة الكشف والبوح والاحتفال بالجسد وبهجة الحياة، حيث يرتبط الحسى بالروح فى نسيج حريرى ناعم يستعصى على القولبة والتصنيف، وتظل حدائق السرد والوصف تبعث طاقات اختراق الزمان والمكان لتصبح ملامح الإنسان وأسرار التكوين وجدل الموت والحياة، أما شخصيات حكاية سهر والعشق والقمر فقد جاءت واضحة المعالم، كاملة الاستدارة، تمتلك الهوية والإطار التاريخى وتشتبك مع الوعى الاجتماعى والثقافى والتراث والأساطير، ويذكر أن البناء النفسى للشخصيات قد كشف عن مستوى أعمق للقراءة يتشكل فيه نص موازى يبعث تياراً من الصراع العنيد بين الإنسان والسلطة والتاريخ ومسارات تكوين اللاشعور الجمعى المسكون بالردة والجهل والسقوط.
كان كاظم مدرس اللغة العربية يحب كل الصباحات كى يرى سهر.. يريد أن يتنفس وجودها فى الفصل.. فى المدرسة فى الحى.. فى القرية فى الكون.. كان يشم عطرها عن بعد فيقترب ويبتعد، وحين وصلته خطابات أبية بدعوة أن ياتى إلى دمشق العاصمة، أخبره أن حياة الجبل أجمل.. ففى فؤاده وردة من سهر توشوش له بحكايا الليل والفجر والصبح.
لم يلمس الشاب الأشقر الوسيم امرأة فى حياته.. لم يعرف الأنثى ، لكنه قرأ كتب الجنس وعرف أراء كولن ولسون وفرويد والكتاب العرب.. فكان يغلق الكتب وينام يحلم بالخنساء والنساء وسهر.. وفى هذا بسياق يشتبك السرد مع السياسة ومعنى الوطن ويرتفع صوت المؤلف وهو يروى عن كاظم الذى أراد أن يكون سياسياً فأصبح معلماً ، وتتبلور وجهة نظر السيد حافظ فى أن الفلسطينين والاسرائليين يحلمون بالعودة إلى فلسطين الوطن.. فمن المصيب ومن الكاذب؟ التاريخ يقول أن الاثنين على صدق.. عاشا بالفعل على هذه الأرض منذ آلاف السنين، فهل المشكلة صنعها الأنبياء سليمان وداود وموسى أم صنعها الأشقياء من الزعماء؟ أم صنعها وعد بلفور؟؟ وعبر المزج الجميل بين صوت كاظم وصوت المؤلف نلمس عذابات وأغتراب الفتى الذى بعثر أحلامه وشحن روحه بين الفصول وعقول التلاميذ وظل يشعر فقط أنه معارض.. ولم يمتلك أبداً القدرة على الكلام.
وفى اختراق مثير للمكان ننتقل عبر نفس الزمان من سورية إلى مصر، لنتعرف على فتحى رضوان بطل الرواية وأكثر شخصياتها دفئاً وثراء وخصباً وجموحاً وكبرياءً.. فى يونيو 1967 كان الفتى مصرى الملامح فى الثانوية العامة.. يجلس فى البالكون ينظر إلى الشارع المقابل ليرى جارته "رغيدة" وهى ترقص عارية امامه.. يجلس كانت امرأة متفتحة الأنوثة بينها وبينه بحر بعيد من الشبق والرغبة.. وكان يحلم بأن يقفز إلى حجرتها وفى يوم 8 يونيو الساعة 6 مساءً فوجئ بعبد الناصر يعلن نتحيه، خرج إلى الشارع فى محرم بك وظل يبكى..، سمع دقات قلب الوطن تلازم دقات قلبه.. أحس أنه مواطن بلا وطن، مشروع كاتب فى وطن أمى.. ومثقف وسط أدعاء.. جاء النسيج الروائى مدهشاً فى المزج بين الحب والجنس والناس والسيارة والزعماء والوطن.. وأثارت موجات الحقيقة جدلاً عارماً حول مصر وشعبها كما جاءت فى كتب المقريزى وابن حزم وجمال حمدان وغيرهم من علماء الفقه والدين والتاريخ، تلك الحالة التى نزعت أقنعة الزيف وفتحت المسارات أمام قراءة حقيقية للواقع والسياسة وعذابات الإنسان.
أعلن فتحى رضوان خليل.. أنه حتى لو هزمتنا اسرائيل والعالم كله والأمريكان فهو لن يهزم أبداً.. فهو روح هذا الشعب العنيد العبيط الغريب الحبيب. الذى يستضيئ روحه ، ويبعث فى الكلمات وردة الحياة.. وكلما حاصره حب الوطن بنيرانه وأسهم حقده وحاول قلته.. هرب منه تحت جلد النساء..
وحين ذهب إلى محطة الرمل كانت الشمس مزهوة ببريقها ، وكان هو مشدوداً إلى بائع الجرائد.. لمح سارتر يبتسم له.. راحت بدلال تلعب بيديها فى أنفه.. شعر أنه انتهى تماماً.. إيليا أبو ماضى يحاصره بكلماته.. أنفاس جبران خليل جبران يتحرك قلبه، ميخائيل نعيمة يداعب جبينه.. زوجة النبى موسى تدعو له.. العذراء تباركه وعائشة زوجة محمد عليه السلام تستغفر له.. هبطت فتاة الصورة العارية من الصورة.. تحاول أن تخطفه.. لكن تدخل الأنبياء موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم انقذوه بالدعاء إلى الله الذى استجاب لهم.. فعادت إلى الصورة.
يأتى هذا التيار الفانتازى ليواجهنا بحركة لاهثة.. مشاغبة ومدهشة تقبض على جمرات الفن النارية، وتنطلق رشاقة عبر مسارات الوجود الإنسانى، حيث يلتقى فتحى رضوان مع جده قابيل بن آدم.. يراه وهو يداعب فتاة الصورة العارية، والتى تتجسد له فيعتصرها بقبلاته ويغلق الباب ليغتصبها.. ويظل المشهد الروائى مسكوناً بتيارات الحضور المدهش لكيوبيد، السلطان سليم الأول، الأمريكى المعاصر لويس أبولونيا.. عبد الناصر وبيان 30 مارس 1968 للإصلاح السياسى الذى لم ينفذ فيه شيئاً حتى الآن.. تلك الحالة التى تكشف أبعاد شخصية فتحى رضوان، وتنطلق إلى إطار أكبر يصير جدلاً مع الماضى والحاضر والمستقبل.
ففى الجامعة فى كلية الآداب ظل فتحى ثورياً وهارباً تحت جلد النساء.. ضيع عمره بين شقاوة الجميلات ، وضيع قلبه فى وطن هُزم فى ست ساعات، وأصبح يرتبك كلما قرأ تاريخ مصر المزدوج.
أخبرنا المؤلف أن فتحى رضوان سيكون حبيب سهر بعد خمس عشر عام.. ورغم بساطة الفكرة الا أنها تؤكد أن الفن هو لحظة استثنائية ، ووجود افتراضى منظم بعيد عن الخلل والعشوائية.. وحين تعود الأحداث إلى سورية، فدخل عالم سهر حيث أبيها المحارب القديم الذى يمتلك كبرياءً عنيداً، ويؤمن أنه سيدخل الجنة..، أمها الجميلة..، وشداد التاجر الثرى الذى لفحه عطر سهر وأراد أن يتزوجها.. فهو يشترى النساء كما يشترى الفاكهة.. وفى الليل ينخلع قلب العصفور عندما شاهد جسد سهر المنحوت بيد القدر.. فخبأ عينيه بجناحيه خجلاً لكنها ضمته إلى حضنها ونامت. ولم نكن تدرى أن فى عينيها حلم وحكمة لم تولد بعد، ولم تدر أيضاً أن عطرها قد سحر شداد وأنه الليلة لن تنام..،ه وأن كاظم مدرس اللغة العربية يحتاج سيفاً روميو ورمح دوبخوان حتى يتمكن من جسدها ألف ليلة وليلة، فهو يشتاق إلى كتابة الأشعار على نهديها.. يحتاجها كموج بحر وزلزلة ويريد أن ينهى هذه المهزلة.
تميزت تقنيات السيد حافظ بالرشاقة والحرفية المدهشة فى السيطرة على أبعاد الزمان والمكان وجاء استدعاء الماضى إلى قلب الحاضر ليبعث مفارقات الوعى وافدراك وتحول تاريخنا الفعلى الغير رسمى إلى تيار من الوهج الكاشف عن بشاعة الحقيقة ووجهها العنيد فتاريخ الوطن بالفعل.. فى المقاهى لا يجمعه أحد.. ويكذر أن وجهه نظر المؤلف قد تبلورت عبر الرؤى الدالة لمذكرات محمد فريد وسعد زغلول والشيخ محمد عبده ، لتصنع أمام نسيج روائى مركب شديد الدقة والتماسك.
رفض والد سهر أن ابنته للعريس الغنى شداد.. رفع من وجهه البارودة وطرده مؤكداً أن ابنته ستتزوج من رجل يسافر بها إلى بلاد الذهب.. وفى المدرسة جاء العصفور العاشق ووقف على النافذة.. اندفعت سهر بفرح برئ وفتحت، فدخل وقفز على صدرها وتمنى أن نأخذه بين نهديها ، وعاش كاظم المدرس الشاعر لحظة مثيرة حين لمح قلب العصفور يذق مثل قلبه تعشق سهر.
اءت شهر زاد خبيئة الجن الجميل.. جاء إلى بيت سهر.. قررت أن تكشف لها الأسرار.. وقالت لها.. أنت الروح السابعة لنفر.. التناسخ سبعة أرواح وروحك الأولى نفر كانت فى مصر، وكانت روحها تعطر جسدها.. مثلك تماماً وروحك الأولى نفر كانت فى مصر، وكانت روحها تعطر جسدها.. مثلك تماماً فمن هى نفر..؟ هذا ما سوف ترويح شهر زاد فى الجزء الثانى من الرواية..
الجزء الثانى
حكاية أخناتون مع نفر
فى مزج مثير بين شهر زاد الأسطورة وشهر زاد الخيال، فيطلق صوت المؤلف السيد حافظ ليأخذنا إلى الجزء الثانى من رواية قهوة سادة ، الذى جاء بعنوان حكاية أحناتون مع نفر، وفى هذا الإطار يأتى الارتباط بين الجزأين ليخترق منطقة جديدة تموج بالشفافية والخيال والنورانية، وبالبحث العنيد عن الجذور والأسرار حيث الروح والزمن والجمال، وبصمات المعنى ونِفر الروح الأولى لسهر يمتلك هذا الجزء أهمية خاصة على مستوى الرواية المصرية والعربية فهو يأتى كإنجاز إبداعى متميز يضم وثائق فرعون ونفرتيتى وأخناتون، يشتبك بحرارة مع الضمير الجمعى، يطرح علاقة البشر والسلطة ورجال الدين بالأنبياء حين يُلقى بها على قارعة الطريق.. لنصبح أمام كشف متوهج لبذور الفساد العميقة الممتدة عبر التاريخ، وعلى مستوى اخر استطاع السيد حافظ فى روايته الساحرة أن يلملم أبعاد ووقائع حكاية أخناتون بأسلوب جدلى نطرح وجهات النظر المختلفة، لمينحنا إجابات إنسانية لأسرار ما جرى فى مصضر فى زمن أخناتون حين بحث عن آتون باعتباره إله لا شريك له..
قالت شهر زاد.. كان يا ما كان فى سالف العصر والأوان.. فى زمن أخناتون، بنت إسمها نفر.. أحلى بنات طيبة ، طيبة القديمة، مدينة المعابد والآلهة.. أسطورة عشق مختومة بالمسك وأجنحة الأحلام المنكسرة على ضفاف النيل.. طيبة التى توشوش الليل والنيل والبحر.. ، ونفر عشيقة القمر وأحلى بنات هذا الزمن، عندما تسير كل صباح بين الأكواخ الفقيرة، كان جسدها يفوح عطراً.
كان أبوها نجار السفن إلى تسير فى النيل، تسكن معه فى كوخ بسيط، وأخوها الأكبر "كـى" يريد الالتحاق بكهنة المعبد فى طيبة، لأن سلطتهم أقوى من كل السلطات وحينذاك سينام فى بيت كبير على النيل سيهديه له أحد التجار الأثرياء..، وعبر سحر اللغة وبساطة الصياغة يضعنا المؤلف فى قلب أحداث خطيرة، ناعمة يائسة ومثيرة.. لكنها مرسومة بلغة النقد والجروتك وحرفية الدراما التى منحت الشخصيات أطرها الاجتماعية والنفسية، وحتى تكتمل الأبعاد..، يدخل القارئ عالم أخناتون.. نراه جالساً بجوار نفرتيتى يداعب شعرها ، يهمس لها أنه هو نجمها المشع..، زفير العشق وشهيق الشهوة، وكان من الجائز أن يوزع قلبه على الفقراء أو يبعث روحه هدية لها.. فهى أمن بناته الجميلات وقد تأتيه بالصبى..
وكان الفرعون أمنحتب الثالث والد أخناتون.. كان نمروداً جباراً.. على الناس أن يصلوا ويعبدوه لأنه هو الإلة.. هو الله.. وكان يجعل المصريين ينحنون لقصره الأبيض ما داموا قد شاهدوه، علمهم أيضاًَ النحت والزراعة وبناء المعابد.. ليدخلوا الجنة يوم الحساب..، هكذا كل المصريون يبحثون عن العدل فى الخفاء حتى ولو فى عبادة خنفساء، جعران، قطة أو زهرة اللوتس.. كل مصرى إختار لها فى السر..، كموقف مقاومة ضد النمرود الذى حكمهم بالحديد والنار.
ويأتى اشتباك المؤلف السيد حافظ مع تفاصيل المشهد السياسى والاقتصادى والدينى فى زمن النمرود ليواجهنا بمفارقة شديدة التكثيف والدلالة تنطلق إلى قلب الحاضر، الذى لا يزال مقيداً بالجهل والزيف والتسلط والقهر ، تلك الحالة التى جاءت صياغتها بأسلوب ساحر مبهر ومشوق ، وحين نتعرف على أخناتون أمنحتب الرابع.. يجده كياناً مختلفاً فهو لا يدعى أنه آلهاً.. ولا يحب أن يعبد التماثيل، يرى أن الله قوة أكبر من كل شئ، وأن الحرية هى الوجود.. ، كان يحلم بأن يعرف لغة الطير والحشرات وكل الكائنات.. فمستنقعات النشوى تنبع أزهارها بإشعاع أتون الآخاذ الذى تنشر الطيور أجنحتها فيه.
أصبحت نفر حديث رجال ونساء طيبة.. فتاة ينز جسدها عطراً.. أنثى خرافية أسطورية وواقعية.. عندما قابلها المدرس " باكا " على النيل وقع فى غرامها وشعر أنها ومضة تسللت إلى الحشاء، وكما عشق كاظم فتاته سهر كان هناك عشق سائف بين المُعلم "باكا" والجميلة نفر، أما الفتى "كى" فقد باع أخته نفر للنيل.. للكهنة ليدخل المعبد ويعيش السلطة والثراء.. أخبرهم أن أخته هى أجمل فتيات طيبة، عطرها يخلب العقول، وستكون للنيل عروساً منيرة.
نتوقف حكاية شهر زاد وينتقل الحدث برشاقة من طيبة فى زمن الفراعنة إلى القاهرة فى السبعينيات حيث فتحى رضوان الضائع بين الثورى والكاتب هزمه موت "جيفارا" وبابلونيرودا.. يبكى بحرارة على صدر " ناهد" ويتساءل فى ألم يبك الأنبياء كلهم وآخرهم سيدنا محمد.؟؟ ألم يبك الزعماء كلهم وأخرهم عبد الناصر.. وسألته ناهد لماذا يكتب؟ أجابها لكى يحرر ذاته.. فالكتابة عندى خبل وهذيان وحمى الأنبياء، كأنه فى رحلة خارج الزمان والمكان ليكتشف أنه إنسان.. وعبر امتداد الحوار الممتع نتعرف على شئ من تفاصيل تاريخ مصر، وحقيقة أسماء والشوارع التى تسمى أحياناً بأسماء القاتل والمقتول مثل طومان باى البطل، وسليم الأول العثمانى القاتل..
هكذا تنطلق إيقاعات الوعى وتتصاعد حرارة الرقص على هزائم وأسرار الإنسان ونعود إلى قصر أخناتون فى طيبة.. نراه يراقب قرص الشمس فى الغروب ويسجد تراه نفرتيتى فتخرج غاضبة، وتأتى الأم الملكة تى.. ترفع رأسه المقدس وتقبل جبينه.. نسأله ماذا يفعل.. يخبرها أنه يصلى إلى أتون إلة واحد ولا شريك له.. فتؤكد أنه لا يهرج من بطانة عقيدة أبيه، وهذا سيفتح أبواب الشر.. فى هذا السياق يتبلور صراع نارى مخيف بين أخناتون الذى يلعب بنار العقيدة المقدسة وبين كهنة المعبد.. فالدولة مكونة من أربعة ضلوع.. الفرعون والجيش والكهنة والشعب، وإذا فقد ضلع تسقط الدولة من قلب التاريخ إلى هامشه.
أخذ اخناتون يبكى فى سجوده.. أخذته أمه الملكة الجميلة تى إلى صدرها، حذرته من الكهنة.. وحدثها عن نفرتيتى زوجته التى تهاجمه، عن مشاعره بالخوف من الطعنة التى ستأتى من داخل أسرته وليس من الكهنة، ونصحته بأن يتزوج امرأة تؤازره وتدعمه عندما تجد امرأة غيرها معه. ورغم أن نفرتيتى كانت جميلة الجميلات تعشق ذاتها وحياتها.. إلا أن الشعب لم يكن يشعر بها ولا يحبها لزوجها ولا للعرش.. وحين ذهبت تشكو زوجها لأخيه، أخبرها أن البلاد مهددة من الداخل بالتفتت من كثرة الآلهة، ومهددة من الخارج من الحيثيين، لذلك يحاول اخناتون بناء عاصمة جديدة للبلاد هى اختاتون.
فى عناق مدهش لتيارات الوعى قال اخناتون أن الكهنة يفعلون كل شئ باسم الآلهة.. ومصر تعبد أكثر من 47 إلهاً.. النيل هو الحضارة والحياة.. والكهنة يقولون أن النيل ذكر ويجب أن نهديه أجمل الأناث كل عام حتى لا يقطع عنا الماء.. الكهنة يقولون أن الخنفساء والجعران والقطة آلهة.. المصريون يبتعدون عن حقيقة الله.. ويعلن اخناتون أنه يرفض الكهنة ولن يتعامل معهم.. لن يكون بوقاً لاو نفيراً.. هو نبوءة من هذه الشمس الزمز الاله الواحد آتون الذى يمنح الحياة والخبز والحب.
هكذا كانت ثورة اخناتون هى اخناتون هى أخطر ثورات التاريخ، فقد عشق مصر المحاصرة بين الكهنة والجيش وآلهة زائفة، وقرر أن يعلن على الرعية أنه ألغى بحل الآلهة ليصبح آتون هو إله واحد.. وهناك فى المعبد كانت نفرتيتى تسترضى الكهنة بالذهب واللؤلؤ وتدافع عن زوجها.. لكنهم طلبوا منها أن تستعد لتولى الحكم.
وفى تلك اللحظة علمت أن اخناتون سيتزوج الآن من الأميرة كيا.. فسقطت مغشياً عليها.
تمتد الإيقاعات ويتوازى السرد وتشتبك الحكايات والأحداث.. فى سورية كانت سهر تفكر بعمق فى روحها الأولى نفر.. العريس منقذ الذى سيأخذها إلى بلاد الذهب يجلس مع أبيها ليخطبها والزغاريد ترتفع.. فسوف تذهب معه إلى دبى بعد شهور.. هكذا ظل كاظم مدرس اللغة العربية معذباً باندفاعات القدر بينما كانت وردة الأنثى الجميلة زميلة سهر..، مأخذوة بجنون الرغبة فى امتلاك كاظم الذى حرك فى أعماقها نيران الوهج.
لا تزال القهوة السادة هى قبلات للروح كى تنهض.. فتحى رضوان فى الاسكندرية يشربها بجنون، ويسحر ناهد بكلماته عن الوطن والسياسة والزعماء..، الثقافة ونجيب سرور ولطفى الخولى واليسار.
ذهبت نفر إلى المعبد تبحث عن أخيها " كى" رأتها نفرتيتى وشمت عطرها المثير.. توقفت وسألت الجميلة التى تشبهها عن حياتها، وقررت أن تأخذها إلى القصر لتكون وصيفتها.. وذات فجر خرج أخناتون ليرى إشراقة الشمس.. كانت نفر تراقبه.. سارت خلفه.. سجد الفرعون وبكى.. وبكت خلفه نفر.. سمع صوتها وسألها عمن تكون؟؟ حدثها عن الشمس والإله الواحد آتون.. فآمنت به وبكت، وفى هذا السياق تظل الرواية كاشفة عن إيقاعات الوعى والخبرة والجمال، وتتخذ الصراعات مسارات مدهشة تتبلور عبر الحضور الأنثوى المقدس، فقد أشعلت كيا الغيرة فى قلب نفرتيتى ودفعتها إلى الإيمان بالالة آتون.. وصلوا جميعاً له.
حور محب هو قائد المحاربين فى طيبة وثقة الفرعون اخناتون.. صارحه برغبته فى هدم التماثيل ونشر عبادة آتون.. وحين رأى القائد نفر قفز قلبه من الجليد.
وشاغبه الحنين إلى النساء.. وحين اقترب موعد وصول حابى بالفيضان أمر الكهنة بإحضار نفر لتكون عروس هذا العام.. لكنها رفضت الموت.. فقد آمنت مع اخناتون بآتون الذى فى السماء. وفى هذا السياق يتخذ الصراع مساراً جامحاً ليصنع لحظة درامية عالية، تشتبك بقوة مع وقائع ما تشهده مصر بعد الثورة..
أشباح السقوط تتارقص حول أحلام الصعود. وتجار طيبة صناع تماثيل الألهة يجتعون مع الكهنة اللصوص مغتصبى أهإلى طيبة ليعلنوا الحرب والنقمة على آتون الإله الواحد الذى يدعو له الفرعون أمنحتب الرادع، وقرروا ضرورة لتخلص من الفرعون الذى رفض أن يلقى سهماً إلى السماء ليجرح الرب العظيم، ولم يلاكتف الكهنة بذلك وقرروا أن يشوهوا اخناتون، ويجعلوه عبرة فى التاريخ.. وصنعوا له تماثيل فيها ثدى انثى.
استطاع المعُلم باكا ان يلتقى بالفرعون ويطلب الزواج من نفر.. كان حفل الزفاف اسطورياً حضرته الملكة نفرتيتى والملكة تى والملكة كيا واخناتون وكبير الكهنة الملعون.. وفى تلك الليلة لم يتم حور حب قائد الجيش وقرر الانضمام إلى كبير الكهنة ضد اخناتون، فرح الكاهن بجنون، فقد أصبح الجميع يداً واحدة ضد الفرعون.. الذى علم أن نفرتيتى تتآمر ضده فأمر بتحديد إقامتها فى قصر بعيد واكتشف أيضاً أن حور محب يخونه ويفرط فى البلاد.. تلك الحالة التى تنذر بانتهاء العالم وانتصار الشر بالقصر صامت وحزين والملك يصلى ويسأل آتون.
قبل الضربة القاضية كان فتحى رضوان فى القاهرة ، التى يراها مدينة هاهرة تسكن خلف المآذن والكنائس لتدارى إثمها.. يلتقى بأصدقائه فى مقهى إيزائيفتش ومقهى ريش بينما كاظم الذى تزوج وردة يعيش مشاعراً جديدة..، تخلص من سهر وشعر أن وردة أنثاه الجميلة وتذوق شفتيها فى شغف، وأحست لأول مرة بمياه عشق تسرى داخلها.
تأتى الضربة القاضية لتمنحنا إحساساًَ عارماً بالإعجاب بالمؤلف الجميل الثائر الشاعر المتميز.. فقد تحددت ساعة الصفر لقتل أخناتون فى احتفالات عيد الفصح عند شروق الشمس والصلاة.. بعد خمس دقائق خرج "كى" من الصف وتجاوز الكاهن الأعظم.. وبينما يسجد اخناتون طعنه الفتى فى ظهره وقلبه طعنتين.. والتفت إلى الكاهن وهو يمسك بالخنجر من يده بطعنه.. فيسقط جثة هامدة.
هكذا مات الفرعون العظيم اخناتون.. وعاش الفرعون العظيم سمنع كارع.. وبكى كبير الكهنة بحرقه وحرارة لكن قلبه كان يرقص فرحاً.
عند دفن اخناتون أختفت الجثة، لم يهتم الكاهن وقال إن قبراً بلا جثة مثل قبر به جثة، وظل السؤال حول اخناتون حائراً.. فهل صعد إلى السماء أم سرقت جثته.. أما نفر فقد عادت إلى العاصمة القديمة وهى مريضة لا تستطيع الكلام.. زوجها وحبيبها بعيد فى جنوب مصر، وذات صباح جاءت العصافير واندفعت هى إلى النيل استجابة لبحر الحنين.. قفزت فيه ولم تخرج، ومات زوجها حزناً عليها بعد شهور.
تمضى الحياة.. ويتولى الحكم الأمير الصغير توت غنخ آمون.. ابن الملكة كيا.. فحكمت نفرتيتى وتى بالوصاية مع الكاهن الأعظم وحور محب، وقبض على كل من يصلى للأله الواحد، فبلادنا تقتل الأنبياء وتمحو تاريخ النبلاء أخيراً.. مرت شهر زاد على بيت سهر فسألتها فى شغف.. من هى الروح الثانية يا خالتى شهر؟؟ فضحكت وقالت هى بنت جميلة عاشت فى عهد النبى موسى.. اسمها نور.. وغداً نبدأ الحكاية..
د. وفاء كمالو
0 التعليقات:
إرسال تعليق