دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 121 )
"قهوة سادة" للروائى السيد حافظ
أ.د. كمال الدين عيد
دراسة من كتاب
التشظى وتداخل الأجناس الأدبية
فى الرواية العربية
" الجزء الثانى "
إعداد وتقديم
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
"قهوة سادة" للروائى السيد حافظ
أ.د. كمال الدين عيد
الجزء الأول: حكاية سهر والعشق والقمر
(قرار امتلاك الذات والحرية)
الجزء الثانى: حكاية نفر وأخناتون والنيل
(خلْفاً دُور. الى مصر الفرعونية).
الجزء الأول: حكاية سهر والعشق والقمر
· من بداية البداية ...
تخرج سهر بطلة الرواية الى الحياة يوم 12 رجب 1377ه الموافق الأول من فبراير 1958م يوم الاتفاق على الوحدة (وحدة ما يغلبها غلاب) بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة). بداية تربط الميلاد بالسياسة.. ميلاد سحر ذات السبعة عشر ربيعاً المفعمة بتخييل الروائى السيد حافظ الجمالى " العشق يا سهر سِرُ الحياة، العشق راحة الروح .... إن عطرك سيصيب الرجال عبر الهواء بدوار، وهواء بحر عشقك نار فى روح الرجال. أنت بحر يهدهد القلوب قبل العيون، وصوتك به نبرة خفية، تتحرك فتُحرك ظُلمة الروح للنور. قبلاتك سكر، ولؤلؤ خفى لا يتذوقه إلا رجل يعبر بحرك بالطيران، ويدق قلبك بجناحه المكسور، وبدقة قلبك له تصبحين وطناً للعشق".
الوطن الوطن .. والسياسية سياسة .
يضع السيد حافظ هذه اللفظة الغالية فى صدر روايته، ليدخل عبر سردياته الى تفسير معنى المواطنة. "هل هى فطرية أم مكتسبة؟
مكتسبة فمن أين نرضعها.. من الدساتير أم من القانون.. أم من النظام .. أم من الدولة...؟
يحلم بطل الرواية (كاظم) بأن يكون سياسياً ، لكنه ومعه قدره يصبح معلماً. لكن المعلم (الذى كاد أن يكون رسولاً) يصبح أشقى الأشقياء فى الوطن العربى. جعلته الحكومات العربية " يكره وطنه وأرضه ويبحث عن وطن آخر له. أو كما قال الإمام على رضى الله عنه: الفقر فى الوطن غربة، والغنى فى الغربة وطن. يؤمن بقول أفلاطون من يعزف عن المشاركة فى الحياة السياسية يستحق العقاب بأن يحكمه جاهل أو لا يرعى شؤونه ويتجاهله ديكتاتور.. ونحن العرب هكذا.
يعترف كاظم بحلمه بالسياسة اعترافاً ويقينا، فيصل الى معارضة نظامه السياسى يقيناً وحُججاً. فهو مطبق الفكين إلا عند طبيب الأسنان. والدليل.. لماذا قتل على ابن ابى طالب؟ ولماذا قُتل الخلفاء الراشدون؟" ويُذيل السيد حافظ فقرته السابقة بشعر " جبران خليل جبران :
ليت لى ألف عين
ترى كل ما يُعرض على الوجود.
من عجائب وطرائف....
الرواية سرداً وتخييلاً.
جاء منذ القديم، جاء السرد قبل التخيل.. أى أن الروايات قد استعملت الواقعية .. الحقيقة، حتى دخل (العقل) فى عالم الرواية ووجدان الروائيين النفسى، فزامل الخيال الواقع الظاهر والمعتمد قبلاً لإضافة شكلاً ونوعاً من أشكال الإبداع العصرى المُشبّع السيد حافظ الواقع بالخيال اللامع الذى يكمل صوراً سياسية واجتماعية وبيئية داخل لوحات روايته (حكاية سهر والعشق والقمر)، ولا ينسى أن يجعل نكسة 1967 حجراً أساسياً كفعل استثنائى غير عادى مثل تغيرات وتحولات كبرى فى السياسة العربية بأكملها، وعلى خريطة الوطن العربى بأطرافه البعيدة والقريبة (ذكريات وطن!).
يسرد السيد حافظ تاريخ الوطن المصرى ضمن ذكريات بلده ووطن (استشهاد البطل المصرى أحمد عبد العزيز قائد القوات المصرية فى حرب 1948)، خطاب الزعيم جمال عبد الناصر 8 يونيو معلناً التنحى!، مظاهرات وطنية فى الاسكندرية). سمع فتحى رضوان – أحد أبطال الرواية يبكى " لأنى سمعت دقات قلب الوطن تلازم دقات قلبى، وجدتنى مواطناً بلا وطن! وجدتنى مشروع كاتب فى وطن أُمى، ومثقف وسط أدعياء، وطيباً وسط أشرار، وجدتنى حُلماً يمسح مؤخرة الوطن الذى يضاجعه الأثرياء من عسكر يوليو..." الآن يعلم قراء الرواية كلمات السيد حافظ وكيف أوضعها فى ذكاء وحكمة على لسان بطله فتحى رضوان.
يستغل السيد حافظ عامل الحرية فى روايته استغلالاً جيداً، حين يكتب عن الحرب الخاسرة لنا وللأمة العربية جمعاء. فالحرية تُحزّم الفكرة السياسية، وتكشف أخطاء السياسيين ، وهى لفظة واسعة المعنى عريضته، تصل الى إعلان الحب والعشق وحتى التمرد والثورة. "هُزمت سوريا معنا، واحتل الإسرائيليون الجولان والضفة الغربية من الأردن.
قال الاستاذ هيكل إن الملك حسين خان عبد الناصر والأسد، وأبلغ إسرائيل بموعد الحرب وساعة الصفر. وكتبت جولدامائير رئيسة وزراء إسرائيل فى مذكراتها نفس الكلام... هل الجيش العربى جيش من صلصال وورق مُقوى؟
أمجاد يا عرب أمجاد.. كلام قوادين. الجيش الإسرائيلى خلع سراويه أمام هتلر ، والجيش الألمانى خلع سراويله أمام الجيش الأمريكى والانجليزى فى الحرب العالمية الثانية، والجيش الأمريكى خلع سراويله أمام الجيش الفيتنامى، والجيش الفيتنامى خلع سراويله بعد الحرب، وقرر التمتع بالقمار والملابس والاستيراد والتصدير وممارسة البغاء. إنها حرب السراويل"... " كيف سنطهر وننظف اسرائيل من القُدس ونحن غير قادرين على تنظيف شوارع القاهرة من الزبالة والقذارة ؟" لاحظ ذكاء الروائى السيد حافظ فى الإسقاط والمفارقة التاريخية anachronism فى غير الزمان الصحيح، هل أصبحت الحياة مظاهر؟ الملابس والأناقة هما عنوان الإنسان. أناقة لا ثقافة؟ لا شئ يهم بعد ذلك!.
بيان 30 مارس 1968 يقدم الإصلاح السياسى لعبد الناصر ، (لا صوت أعلى من صوت المعركة)، (لا نداء أقدر من ندائها)، (تعبئة كل جماهيرنا بما لها من طاقات وإمكانيات من أجل واجبات التحرير والنصر)، (تحقيق السيطرة الديمقراطية على العمل الوطنى فى كافة مجالات) ، تدعيم القيم الروحية والخلقية، والاهتمام بالشباب وإتاحة الفرصة أمامه للتجربة)، إطلاق القُوى الخلاقة للحركة النقابية سواء فى نقابات العمال أو نقابات المهنيين)، (تعميق التلاحم بين جماهير الشعب وبين القوات المسلحة)، (ضمان حماية الثورة فى ظل سيادة القانون).
"كلمات كلمات! لم ينفذ شئ من بيان 30 مارس 1968"!.
أقوى من رابطة الدم والابن والأب والزوجة والأهل والبلد والبشر!". "شعبنا تحوّل الى ذئاب... قلبى مع الوطن.. لست حُراً... الوطن مهزوم. الأحرار فى شعبنا نسبة 20% وأنا منهم، يبدو أن نعمة الفهم والثقافة نقمة وعذاب!" "الشعب متمرد كسول لا يحب العمل، ويحب الشر والكذب، والفهلوى والنصب، والتحايل على القانون"! أظن ذلك صحيحاً وإن أغضب الكثيرين.
"قال نزار قبانى لعبد الناصر بعد النكسة:
أرغمنى جُندوك أن آكل من حذائى
يا سيدى..
يا سيدى السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين.
لأن نصف شعبنا ليس له لسان
ما قيمة الشعب الذى ليس له لسان
لأن نصف شعبنا
محاصر كالنمل والجرزان
لو أحد يمنحنى الأمان
من عسكر السلطان ..
قلت له : لقد خسرت الحرب مرتين
لأنك انفصلت عن قضية الإنسان".
"العاصمة أم عاهرة للقرى فى كل بلاد الدنيا... كل التجار خونة يشربون دماء الفقراء ويأكلون لحمهم نيئاً، التاجر لا ينال رضى الله – أو قد يناله بصعوبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. خير الأماكن المساجد وشر الأماكن الأسواق، والسوق يحكمه التجار الفُجاّر. القادة العرب تجار في الخفاء يتقاسمون المال مع الأغنياء، من التجار أمراء لأنهم يحكمون دون ما حاجة إلى الظهور" وكل تاجر شاطر في هذه الأيام الملعونة).
لكن أين مصر وسط هذه الحياة الخرفة ؟
يعود بطل آخر من أبطال رواية السيد حافظ ليقول : "مصر التي في خاطرى ليست هي هذه المأزومة المصدومة المهووسة ، لأن.. مصر المنحوسة بالهزائم ، مصر المحروسة بأهل البيت، مصر المحظوظة لكل من حكمها وسرق مالها، يومئذ تحدّث أخبارها. وأنا عشقت مصر تلك السافلة العمياء، الجاهلة القذرة الوسخة، الرائعة أحياناً وجميلة القلب، معشوقتى في الصباح والمساء. هل خدعت الشاب بحبها؟ وأنها أم الدنيا وأنا لست أولهم؟ هل علّمت الشباب عشقها الذى كان خطاً؟ وجدت جيشاً من عبيد ورعاع، أو شعباً من العبيد يحب الانحناء والتملق، وعرفت بعد النكسة كم نحن سيئون كشعب، سيئون كقادة، سيئون كسياسيين، سيئون نحن كمدرسين ، سيئون نحن كبشر.
" وطن فاسد ، شعب 88% منه فاسد، ماذا جرى للوطن ؟"
بعد هذه المعاناة من الهزيمة والأسى والعذاب، يقف السيد حافظ في محطة عنوانها (العشق والحب) وضمن عالم الحرية وأزماتها وانفراجاتها مُلقياً بروحه وشفافيته الناعمة، ووفق هذا العالم الذى يحتل أولويات مهمة في صدر الروايات، واقصد به التجربة الإنسانية في المفاهيم السردية بكل علاقاتها المتعددة المنفتحة على أغلب مستويات الوعى الساخنة والدافئة وغير الساخنة ، بغية اكتشاف حقيقة الإنسان البيولوجية والاجتماعية، والكشف عن المشاهر الحسية التي وهبها الله للإنسان في الطبيعة ، بلا خجل أو مداورة، وعلى نسق الانفتاح المعرفى الحقيقى والطبيعى.
لا حياء في الدين ، ولا العاطفة، أو العشق الدنيوى.
كاظم يخاطب الحبيبة سهر : "حتى أتمكن من شفتيك علىّ أن أعبر بحوراً، حتى أتمكن من أن أرسم على نهديك، سأصعد جبالاً وأعبر جسوراً، حتى يتمكن من قلبك احتاج سيف روميو ورمح رون جوان. أحتاج ليلة القدر وصوم الليالى العشر، حتى أتمكن من جسدك ألف ليلة وليلة أحتاج مأذوناً وشهوداً ومهراً ألف أغنية وألف كتاب عشق، حتى أتمكن وأنا الممكن وغيرك لا يوجد بالإمكان. حتى أتمكن منك لن أكون، وبك أكون أو لا أكون" عشق متتبل يخاف الله، ويعشق حب الله وعشق حبيبته سهر. أليس عشق الجيد هو الرمز الحى والآبد الذى يعبر عن مكنواناتنا الحسية والثقافية والحضارية؟
ثم يعود الروائى النابه إلى الوطن، وحرياتها ومساراتها. يعود ليكمل شعلة الحرية في روايته.. إلى مصر، والى الأمة العربية التى باتت مكلومة جريحة.
" كل العروبة جريحة
العروبة وهم أم حقيقة ؟
فلسطين وهم أم حقيقة ؟
إسرائيل وهم أم حقيقة ؟
كل شيء وهم أم حقيقة ؟
البلاد العربية ليست بلاداً حقيقية أمام إسرائيل التي أثبتت أنها حقيقة.. إسرائيل هم أولاد العم، اليهود في الأصل مصريون ونبيهم سيدنا موسى كان مصرياً، والدعوة نزلت في جبل الطور.. هل نحن وهم واحد، لنا اسم واحد في التاريخ اسمه (الكراهية) الكراهية التي تنتشر فتصيب المسيحيين والبشر الآخرين. آه! ما أقسى الإنسان ذا القلب الحجر!".
* الوطن ليس وردة.
ولا هو بحلم أو ظلمة أو ظلام. يقبض على بطل الرواية كاظم – زوراً – بتهمة الشيوعية، هو لم يكن شيوعياً، لكن السلطة انتزعت منه اعترافاً زوراً وبهتاناً" أي وطن هذا الذى عشنا فيه، ونعيش الآن فيه. الزور والتزوير هو مبدأ الدكتاتوريين ويحسبونه العدل!
تحمل الشتائم (اعترف يا بن الكلب...) بعد الضرب والإهانة والتعذيب، أطلقوا سراحه الأغبياء. "الشيوعيون تهمة في الوطن العربى، كرههم عبد الناصر، وكره الشيوعيون القوميين العرب، وكره الإخوان الاثنين، وكره السلفيون الإخوان المسلمين، وكره السلفيون الإخوان المسلمين، وكره الكاثوليك الأرثوذكس، وكره البروتستانت الاثنين، وكره اليهود المسلمين، وكره المسلمون والمسيحيون اليهود. نحن نعوم على بحر من الكراهية. هل يكرمنا الله بنبى جديد؟. لا أظن. هل نحن في نهاية العالم؟ ويوم الحساب ونقابل رب العالمين، ونوزّع بين الجنة والنار؟"
"الوطن ليس وردة، ولا حديقة. الوطن إما مقبرة مظلمة أو جنة رضوان، الوطن إنسان ومشاعر. آه يا قلبى المهاجر مع الأحلام"
السيد حافظ يحلم بوطن آخر، غير وطنه أو وطننا جميعاً. أحلامه في جزيرة زاهرة بالورود والرياحين، وبالمشرف والأمان." كان الوطن بالنسبة لى في الحلم بستاناً وأماناً وشجرة زيتون وشجرة أرز. الوطن حنان".
· الواقع التاريخى :
لا تخلو رواية من السرد الواقعى الذى عادة ما يتناول في أجزاء منه التعامل مع التاريخ الإنسانى، الذى يُقدم أعظم أنواع التاريخ بعيداً عن تواريخ الأحداث أو الفِعال. فالأهم في التاريخ، هو ذلك الذى يكون الإنسان هو الضحية فيه، وهو المُغتال والمظلوم المتظّلم روما، وبلا نتيجة في النهاية.
يصر السيد حافظ على نبش تاريخه وتاريخ موطنه مدينة الإسكندرية، أو هو يحددها بلد بطله فتحى رضوان (والذى من المحتمل أن يكون هو نفسه السيد حافظ. عارضاً ميراث الوطنية المصرية من والده العابق بعمل الخير للأهل ولغير الأهل. متنقلاً بنا بين الأحياء والشوارع والمنازل والأسر، وعدد من الشخصيات السكندرية (السمراء حفيظة زوجة الدوكش، حماصة أخت حفيظة، عبد الاله بائع الخضار ، عزيزة زوجة عبد العال، حندوقة الأكثر إثارة بينهن جميعاً) كل شخصية تحمل عالمها وسلوكها الخاص، ومهنتها وبريقها في الحياة الاجتماعية السكندرية التي تكشف جانباً جميلاً من جمال وتاريخ الثغر.
· الوطن مرة ثانية :
يظل الوطن هو هاجس الروائى الوطنى السيد حافظ. ولِمَا لا وقد شب منذ نعومة أظافره، وفى الجامعة على الثورة، على الظلم والاستبداد مهما كان مصدره وصاحبه.
"آه! الحاضر كسول ومُمل وتعيس. كان الماضى حياً، كفاح ونضالى وتحرر واشتباكات وانتصارات... الآن الأمور ليست هكذا.. أعطوا كلا منا نيشاناً ووساماً وشهادة تقدير.. ولا شيء بعدها.. لا شيء حصل!
الجنرالات حصلت على كل شئ، المناصب وأراضى ومال، وأصبحت المقاومة الشعبية في خبر كان!
تاريخ الوطن في المقاهى لا يجمعه أحد، وتاريخ الجنرالات في المدارس تسعة وتسعين في المائة (99%) منه كذب في كذب، والمدرسون يعلمون تاريخ الوطن الكاذب الذى كتبه الجنرالات!".
- عودة إلى العشق :
الرواية بشتى أشكالها تبدو مرة طليقة في القرن الحادى والعشرون بعد مرورها على أشكال ما بعد البنيوية والحداثة modernness قرن الرواية بامتياز، خاصة اذا كانت أشكالاً سياسية أو دينية أو اجتماعية، تزرع الرواية الأمل في النفوس، والعشق في النفوس، والأمل بل الآمال لتُسعد البشر والبشرية بلحظات الحب والغرام.
ولتكون أكثر جرأة من المجهول والمخفى، في ثوب رومانسية تشفى غليل العشاق والمحبين. "آه يا سهر! عندما تغفو عيناك على وسادة الماء، تتسلل روحى منى وتغادرنى إليك، إلى روحك، إلى قلبك، إلى عقلك، كى تحميك من الأحلام المُزعجة... هل أنت الحضور؟ أم ملكة ملكات التاريخ؟ أم رعشة في الدم؟ واشتعال الروح؟ أم أنت زهور ارتوت بدم الحسين والمتنبى وبلقيس وكليوباترا؟ أنت شرفة للشهوة تطفئ القلب"
تتوافق مع هذه العودة إلى العشق خيالات وتخيلات الروائى الكبير السيد حافظ ليبعث لروايته بصورة جميلة غير مألوفة إلا في الخيال الجميل. يتحدث فيها العصفور الطائر مع الله عز وجل:
"ربى، ورب الناس وكل الناس، ارفع عنى البلاء واجعلنى بشراً، انا لست معترضاً ولكنى أطمع في العفو والرحمة والعتق من مكانة العصفور. أنزل لى أيه واجعلنى بشراً. اللهم ارفع عنى شقاء عقلى وقلبى من جهلاء العصافير. اللهم لا تجعل رزقى بين عبيدك الجهلاء. اللهم أسألك أمن نفسى، وأن ترحمنى من كيد الأعداء من الصقور والصيادين". صورة مبتكرة في الخيال التواق إلى الأمن والقلب الحنون بعيداً عن الجهلة والجهلاء من بنى البشر.
تتميز الرواية – في عدة جوانب منها – بالإيحاء بعشق الوطن الذى يحلم به الشرفاء وكاتبها. الوطن مصر أم الدينا، وعشق الوطن عذاب، ومصر السبعة آلاف عام. مصر التي في ظنى أنها لم تتحرر بعد. وما معنى لفظة وطن؟ ولفظة مواطن؟ غاب عنا الوطن، مصر الوطن، وغابت المواطنة هي الأخرى!.
"عالم كاذب يغزو مصر أم الدنيا، أم السيدة هاجر أم أنبياء الله، وأم سيدنا إسماعيل، وأم العرب – وهو مصرية".
مصر عالم كاذب في سير حُكامه عند مذكرات محمد بتاريخ كاذب وكذوب" تُخرّج المدارس فيه أغبياء تجهل حقيقة تاريخها وحقيقة الأشياء". فالأوطان أحلام وأكفان وأماكن وهمية ت صنع لنا جواز سفر في الروح قبل المدن".
حقاً إن الهوية عار على حاصلها. ألم تقتل مصر سيد درويش بأغانيه وألحانه المستحدثة؟ (زورونى كل سنة مرة حرام تنسونى بالمرة؟).
هذه مصر (وهى هي حقيقة مصر) كما صورها لنا بكل الصدق الروائى السيد حافظ. حفظه الله.
الجزء الثانى: حكاية نفر وأخناتون والنيل
(خلْفاً دُور. الى مصر الفرعونية)
يستهل الروائى السيد حافظ الجزء الثانى من روايته الطويلة (قهوة سادة) بمقولات هي حروف من نور تضئ مدخل وبداية روايته بقول أخناتون:
إلهى .. إنك صانع ومُصور دون أناشيد منقطع
مُصور لأعضائك بنفسك.
ومُصور دون أن نُصّور.
منقطع القرين في صفاته يخترق الأبدية.
مُرشد الآلاف إلى السبيل.
(إخناتون)
ومن الإنجيل اختار الفقيرة الجميلة :
" الحق أقول لكم : إن جميع الخطايا تُغفر لبنى البشر والتجاديف التي يجدّفونها(29) ولكن من جدّف على الروح القُدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية) مرقس 3 : 28.
وينتهى الروائى بمقولة ثالثة – وأخيرة ينطق بها لسان بطله فتحى رضوان خليل تذكر :
" الصراعات والمتناقضات التي يمر بها شعبنا الآن هي القوة المحركة للتاريخ.. ليس عيباً أن أي ثورة بلا مبادئ. معظم الثورات التي كان لها مبادئ سقطت وقتلت.. نحن نحتاج إلى ثورة عقلية... متى ينتهى الصراع المفجع بين العبد والسيد؟ إن معظم المبادئ خادعة وليست حقيقية.
(فتحى رضوان خليل)
· إخناتون ، والنيل، ومصر الفرعونية :
زوايا ثلاثة تتربع وتستند عليها رواية الروائى السيد حافظ ليعدم من خلالها – عبر روايته الطويل– أفكاراً قديمة أصيلة، وأخرى حديثة مستقاة من فكر فرعونى، أو لعلها تمثل إسقاطات لها من العصرية والآنية الكثير الكثير الذى يؤكد غيرة السيد حافظ على مصر، وعلى الوطن، إيماناً منه بالخلاص الذى يضع وطنه مصر بإذن الله في أوج التألق والازدهار.
يذهب الروائى – في صدق وواقعية – إلى حقبات التاريخ ليفحصه في دقة وأمانة عجيبين تؤكد شخصيته الرائعة ونظرته الثاقبة المؤكدة حين يفصح في إسهاب دقيق ورقيق عن شخصية الملك إخناتون، امنحتب الرابع، متعمقاً في سلفه (النمرود) أمنحتب الثالث الذى علّم شعب مصر الفرعونى أن يعبدوه ويصلوا له وحده، باعتباره الله والآلهّ، حتى أن المصريين كانوا ينحنون لقصره الأبيض من أبعد المسافات وحتى ولو ت جاوزت خمسة كيلومترات بُعداً! استغلالٌ لمستبد حاكم يُدخل من شارك في البناء له الجنة يوم الحساب! ويُقيد بالحديد وسلاسله الرافضين لأوامره وجبروته، وبالكرباج الفرعونى الغليظ.
ينتقل السيد حافظ بين الفرعونين الثالث والرابع، منتقلاً في ذكاء إلى فكرة الحرية عند الشعب القديم، شعب ما ظّل يبحث عن العدل في الخفاء في موقف تضاد وعناد ومقاومة للفرعون امنحتب الثالث اللعين.
حرّرت كتب عديدة تاريخ إخناتون (امنحتب الرابع) لكننى مع ذلك لم أشهد تقريراً وافياً، وتشريحاً درامياً أصيلاً يكشف عن خبايا تلك الشخصية في التاريخ الفرعونى، كما أوردها لنا في روايته السيد حافظ، كاشفاً عن خصائص الشخصية، وإيماناً بالله عزّ وجل. هو لا يعبد التماثيل (كما عصر والده امنحتب الثالث)، ولا يدّعى الألوهية، ويعرف لغة كائنات حية كالطيور والحشرات، ويُحس بالشفقة الأبوية لكل مواطن على أرضه.
- إخناتون المؤمن بالآله الواحد، وبشعبه من بعده، يُجسد درجة عالية شاهقة من درجات الإيمان القوى المتعافى. "هو يصلى للآله رمز القوة آتون" ، ويعتبر الشمس رمزاً للآله الموحد الذى لا شيد له، ونور آتون يفيد جميع الأجناس (بعيداً عن العنصرية والتمييز)، وآتون ليس رب شعب ما أو مدينة معينة، بل كان رب الناس التي تشرق عليهم الشمس فهو رب المصريين، رب شعوب آسيا، شعوب النوبة، وهو راعٍ لا يفرّق بين أحد من رعيته".
وليؤكد السيد حافظ الشخصية الكبيرة المؤمنة بالله وحده إخناتون، يسجل ديالوجاً درامياً بين الملك والملكة (إخناتون، نفرتيتى) على النحو التالى :
" إخناتون : مصر الآن تعبد أكثر من راعٍ إلهاً. مصر لا تحتمل كل هذا. النيل هو الحضارة، والحياة .. المصريون يبتعدون عن حقيقة الله... الحضارة لا تقوم على التفتت. أي طريق يسير فيه الوطن؟ أشعر إنى حاكم لشعب ضائع!.
نفرتيتى : كُن مثل أبيك امنحتب الثالث، أنت الآله وأنت الله، الذى يعبده الناس.
إخناتون : ... إن أبى قد جُنْ .. لقد مات أبى، الله لا يموت. إذن هو ليس إله. إن شعبى مُمزق قلبه بين أيدى الكهنة. إن الفرعون وسيط بين الشعب والرب.
نفرتيتى : شعب؟ أي شعب؟ من هو الشعب؟ مزارعون حقراء يزرعون القمح والشعير ليس لهم أية قوة.. القوة في الدين وكهنة المعبد يسيطرون على المحاربين وجيشك.... الله هذا في خيالك أنت الذى تراه.
إخناتون : سيراه شعبى معه.. أنا لن أتعامل مع الكهنة، لست بوقاً للكهنة، ولا نفيراً للجند... لقد ألغيت كل الآلهة".
الشعب في عين إخناتون هو الحرفيون، والرعاة، والفلاحون، وهم في القانون ممنوعون من العمل السياسى!
- إخناتون والإيمان :
في رأى السيد حافظ تمتع إخناتون بإيمان قوى وعزم من حديد. " يعلم أن الطريق إلى الله به أشواك، وبه عناء، وبه شقاء وألم، الطريق إلى النور يفنى الجسد فيه، ولكن الروح تظل تُفنى بالإيمان والاشتعال والوهج". إخناتون يُصلى في شروق وغروب كل شمس.
جعل الله الإنسان خليفته، وهو يعلم أنه يُفسدها ويفسد فيها، كما يقتل ويذبح فيها. وقف إخناتون حقاً ضد الرأي العام".
- يا الهى ، كل شئ قبيح هو منى، عندما يغيب نورك عنى، وأعرفك حين أصلى، إلهى .. ماذا، وكيف، وأين الخلاص منك، وأنت حولى وفىّ تسكن، وفوقى وتحتى في السماء والأرض، الهى .. إنى في غاية العشق لك، والجهالة نار تحاصرنى، أنا أدرى ولست أدرى. الهى.. طهّرنى من الكآبة والغربة، وليس لى سفينة أبحر بها إلى قلبك إلا الدمع.. آه آه".
يعترف إخناتون لملكته نفرتيتى بحظه العاثر في حياته الملكية، وبالوطن أي العقل الضيق، وبتدنى أناشيد دينية هابطة، وبسلوك المصريين شعبه في الوطن. لقد ضاق بالنفاق وبالشر وبغياب الخير والفطنة وبكل ضجيج فكرى تافه (ضجيج في غير طائل) على خط مسرحية شكسبير التي جاءت بعد عصره Much ado about nothing . يستطرد إخناتون فيقول : " أخاف على مصر من المؤامرات التي تحاك ضدها من كل صوب (وكان الفرعونى الملك إخناتون – امنحتب الرابع يتحدث إلينا اليوم في مصر مرة ثانية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير الخالدة) استشعر شيء قادماً سيطيح بى!! الكهنة، أم نفرتيتى، أم الجيش.. الجميع يا أخرى!.
كما يتجلى إيمان إخناتون بالله في حواره التالى :
" أيها الواحد العظيم
اهتم بأمرى
واجعلنى أتحدث عن أعمالك العظيمة في أي أرض أحل بها
تعالى إلىّ ونجنى أنا الرجل الصامت.
إلى الله الواحد
أنت تشرف بجمالك يا آتون الحى يا رب الأبدية
ساطع، وقوى، وجميل...
إيه أيها الإله الذى سوى نفسه بنفسه
وخالق كل أرض وكل من عليها
والناس، وكل قطعان الماشية والغزلان
وكل الأشجار التي تنمو فوق التربة
تحيا عندما تشرق عليهم
وأنت الأب والأم لكل من خلقته
وعندما تشرق ترى عيوبهم
بوساطتك
وتضئ أشمعك كل العالم، وينشرح بسبب رؤيتك كل قلب... عندما تشرق بصفتك سيدهم".
هذا الإيمان الإخناتونى لا يفارق روح وعقل وجسد إخناتون حتى وهو بين أحضان زوجته كيا. إنه يفكر في عالم جديد، متخيلاً نفسه وقد انتقل ما عدا فوق جبال النور، مصطدماً بتاريخ فرعونى كتب ووثق حال العبيد وحال العبادة القاتل الذى حوّل الناس كلها إلى عبيد أذلاء. إنه يستشعر وحشة هذا العالم، حتى وجد نفسه يثور عليه ويتمرد لنمطه ونظامه وشكله ومضمونه، حين أحس بوهج الإيمان في قلبه، والنفاق في ذلك العهد الماضى هو الفجر الحر بعينه!.
يعود إخناتون – بكل إيمانه وأمانيه – إلى الصلاة في أكثر من مكان في الرواية الرائعة.
- أنت في السماء (يا الله) ولكن أشعتك فوق الأرض
أشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم.
.... اشعتك تحمل ألف ألف من الأفراح الملكية وحينما ترسل أشعتك تشمل الأرضين، وحتى كل ما صعنت وسواء أكان في السماء أم في الأرض، فإن كل الأعين تشاهده دائماً".
يظل إخناتون – بفضل من الله – واعياً لأمور مُلكه ودنياه. عارفاً بالكهنة ومُدعيين الدين وحُزمة آلهة العبادة التي كرسّها أبوه امنحتب الثالث الدكتاتور الفرعونى السابق على ملكه. يشكر إخناتون ربه على منحه الوعى واليقظة، وانكشاف هوية الجهل والجهلاء أمام ناظرية، وعلاقته بسريره نفسه الشفافة الخلاّقة "لقد سئمت من المراوغة بينى وبين كهنة آمون ومعبد آمون.. لا مراوغة في الإيمان!. فالدين لا يقبل كذباً، ولا يطيق الكذابين"!.
- النيل.. نهر النيل الفرعونى – المصرى :
طيبة ، عاصة مصر القديمة ، مدينة المعابد والآلهة، طيبة أسطورة العشق المختومة بالمِسك والعنبر، زكية الرائحة. والنيل الذى يستحم فيه الرجال والنساء.
يصف السيد حافظ مدينة طيبة المحظوظة بالنيل فيقول عنها "محظية الكهنة، الكهنة من كل لون وكل صنف، واتجاه.. آلهة كثيرة. آلهة في كل شبر من أرض طيبة.. كم تدفع لكبير الكهنة لتحصل على وظيفة كاهن! (أي نوع من الرشى جرى على أرض طيبة قديماً!؟).
الكهنة والكهنوت، السر والأسرار، قُدس الأقداس، والتحنيط وغسْل الموتى والبركات. المهنة للكاهن لا تتطلب منه سوى الجلوس في المعبد طوال اليوم للصلاة، والأكل، وجمْع الهدايا! (مهنة مريحة!).
النيل هو الزراعة، و الانتظار والصبر.
"المصريون هم الصبر...
هم الانتظار..
انتظار الزرع لينضج..
انتظار الفيضان أن يأتي..
انتظار فرعون أن يرضى..
انتظار المطر..
انتظار الانتظار"
قال هيرودت "مصر هبة النيل" يعطى النيل ويمنح سره وعطاياه للبشر القدامى – الفراعنة بعضاً من ماء مقدس مسحور ليْجمّل النساء بعد استحمامهن به، والى الأبد. (أية أساطير قديمة هذه!)
يحمل النيل عطايا الحب والعشق يهبهما للعشاق والفلاحين ليُقدم لكل منهم أملاً في الحياة، ونوراً يضئ طريقهم. شخصية (نفر) عندما تغيب عن ضفاف النيل تشعر بالوحدة، " فالمساءات رتيبة، وقابلة النجوم – الليلية على سجادة حزينة، والحب بين الماء والنار جليد وجمر". وسرعان ما يفقد صوتها البريق، والشبك، والصيد "فلا ترى شيئاً أمام بصرها.
تعود الرواية (قهوة سادة) بالنيل إلى عصرين مُهيمن. العصر القديم الفرعونى، والعصر الحديث المعاصر الذى تجرى أحداثه بطريق المزج Mixture أو بين اختلاق الأحداث Invention بشريطة إيجاد وحدة unit بين العصرين والزمنين. ويستند الراوى الذكى في روايته إلى وحدة تنتج عن عامل الارتجاع الفني الروائى Flash-back فيلجأ إلى قطع – مرات ومرات – للتسلسل الزمنى في الأثر الروائى الأدبى بإيراده أحداثاً أو وقائع أو مشاهد وقعت في زمن سابق. يؤيد السيد حافظ رفض إخناتون لعروس النيل ضحية الغباء وأسطورة ملكة النيل التي ترمى له في كل عام. لكن ذلك يغضب الكهنة ورجال الدين. يا لهم من قلوب قاسية متحجرة! لا تفهم كثيراً.
ثم تجار طيبة على جانبي نهر النيل! الذين لا يقلون قسوة وفجراً عن كهنتهم. إنهم صناع التماثيل والحاصلون على المال والهدايا من الطيبيين الغلابة فلاحى الأرض، وهم الذين يخدعهم أصحاب المال والمنافقون للسلطة، والطامعون في قتل إخناتون.
" يذكر إخناتون لزوجته نفرتيتى : يا أجمل ملكات مر بلا استثناء.. أنا إخناتون زوجك وحبيبك، أرفض الخضوع إلى الكهنة، والانحناء للتجار أعداء الله، يسرقون أموال العامة، ويخفون السلع والبضائع القادمة من بلاد بونت وغيرها. هؤلاء يريدون أموالاً في جيوبهم، لا يريدون مصر أم الدنيا".
يختار إخناتون على ضفاف النيل فلسفة الحرية في التفكير، والحرية طريقها السلام لا الحرب. فالسلام أمن وأمان، "والحرب لا تنشر أي عدل أو عدالة، لأنها تنشر الويل والدمار والخراب ودموع الأرامل، وجيوشاً من الأيتام التي بلا حُلم".
- مصر الفرعونية ، مصر المعاصرة :
الروائى البارع السيد حافظ يفتتح الجزء الثانى هذا – من روايته (قهوة سادة) بعبارة تكشف عن آلامه وآماله في الوطن المصرى المعاصر، نابذاً الماضى العتيق، وناقداً لكل أوضاع الفكر العفن الذى ساد مصر وطنه بين فترات وفترات" في بلادى يمُر الحلم ويسافر ويعود بلا أجنحة (قطّع الظلم أجنحته) ، في وطنى صُنعت للأحلام أضرحة (يدفنون فيها الوطن)، لمن أكتب؟ لمن؟ (وأنا أقول له : سوف تكتب وتكتب، وحقك في الكتابة هو رواياتك وإبداعاتك).
قدّمت مصر الفرعونية، وطيبة، ونهر النيل العظيم – في السابق- كما أفردت في روايتك (قهوة سادة) المعابد والآلهة القدامى والكهنة الكسالى، وتجار المال والخضروات، والعبيد المساكين. ودكتاتورية الفرعون امنحتب الثالث، ثم أوضحت سُلطة الدين الغاشمة ند الفرعون الجديد اخناتون.
ولجأت بعد ديالوجات درامية رائعة إلى نفسك عبّرت عنه منولوجاتك يا من تلبست روح بطل روايتك (فتحى رضوان خليل) جاهداً في عصرك الآنى خلاص العالم من الفقر والجهل والمرض. "ربما هزنى موت جيفارا÷ ربما قهرنى هذا الإحساس بالثورة والثورة المضادة ، وموت بابلو نيرودا، يحيرنى أبو ذر الغفارى، الثائر حتى الموت، ربما اغتيال شهدى عطية الشافعى وحسن البنا... لا أكاد أعرف نفسى من أنا؟ ضائع أنا بيد الثورى والكاتب".
وقفت سيدى الكاتب إلى جانب صف الفقراء والكُتاب، وعاديت السياسيين الحاصلين على المناصب والشقق الفاخرة والأموال (الحرام). أردت تحرير نفسك الصافية من القلق والحيرة، اعتبرت كتب الأرصفة الغثيان بعينه، ذهبت بك كتاباتك إلى اكتشاف حقيقة العالم، ثم... فهمت أخيراً أن مالك كله يعيش في وطن عبيط. إذن، لقد اكتشفت الحقيقة الخالية من التزويق، المفتقدة للذوق، الحالمة بالثقافة والتنوير.
حّررت مدة حقائق عن مصر القديمة والحديثة : معظم شوارع مصر بأسماء الحزم والخونة (تاريخ مُزيف لمصر). خدم الفاطميين لهم شوارع بأسمائهم تخليداً لذكراهم. بهاء الدين قراقوش، وحارة تُخلد اسمه اللعين والذى أذاق المصريين الأمرّ جلداً وسجناً وسخرية. وهكذا، وعلى نفس منوال الكذب والإدعاء (حارة الدليم، حارة درب الملوخية، قصر الشوك – قصر الشوق، حارة العطوف). هذه هي مصر العبيطة.. تاريخاً ومعاصرة.
نعم، سرق الوطن أمانيك العزيزة الغالية. الشعب المصرى جاهل أمية دروف، وأمية ثقافة. وتعلق فتقول "يالذلّ شعوب فقدت العقل لبؤسها، يا لأمم أمعنت في أذاها وعميت عن منفعتها. تُسلب (أيها الشعب) أحمل مواردكم وأنتم على السلب عيان، تتركون حقولكم تُنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم! تحيون نوعاً من الحياة لا تملكون فيه الفخر يملك ما، حتى لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقى لكم ولو النصف من أملاككم وأُسر له وأعمالكم".
كيف استطاع هذا الروائى الذكى المزج والخلط بيد آلاف السنين والقرون؟ وكيف به. وهو يلحظ داخل (الفلاش باله) هذا التعدد وهذه الثنائية المتطابقة المتماثلة في الحالين، حال الماضى البغيض، وحال الحاضر البغيض هو الآخر؟
وتحاول الملكة نفرتيتى أن تكسب ود زوجها الملك اخناتون، تسعى للاقتراب من زمرة الشعب ، تحاول منع رجال الشرطة من ضرب الفلاحين المصريين بالعصى ليسلموا الحبوب وحصار الزراعة – عنفاً. إلى ما بعد ذلك من وثقهم والقذف بهم في بئر ورأسهم إلى أسفل، وأمام زوجته للأسف أو بغير أسف. (ألم تسمع عن هذه البربرية الآن في زمننا المعاصر، وأشد منه غباءً وبلاده؟) لك الله يا مصر القديمة والحديث العصرية!.
فتحى رضوان بطل الرواية يذكر: "الشاعر نجيب سرور قابلنى في محطة الرمل في مقهى إيليت وقال لى : اليسار أكثر خيانة من اليمين، وأنا لم أصدقه"، مصر خايبة طول عمرها... المصريون يحتاجون غسيل عقولهم حتى ولو مرة في السنة... اقرأ صحف الكويت تُذهل، لدينا الأخبار مثل الأهرام مثل الجمهورية، مسخرة، كله تمام (نفس حال اليوم المعاصر!) مصر مش عاوزانا.. مصر عاوزه الحرامية والكدابين والمنافقين واللصوص واللى بيحلبوها. مصر لا تحب الشرفاء. مُعظم الشعب ملوث بفيروس الفهلوة والنصب والكذب. تعبت، يا بنى إدينى قهوة سادة. نادانى عمرى الضائع بيد (مصر) الوطن والحروف.
عبر حكايات ومشاهد فتحى رضوان بطل الرواية، وبين أحداث ماضٍ يروى الكاتب الروائى حكايات وحكايات عن مصر. فضّلها الله في التاريخ، مشيراً إلى أحاديث نبوية عن الرسول صلى الله عليه وسلم اذا فتح الله عليكم بعدى مصر، فاتخذوا منها جُنداً كثيفاً. فذلك الجند خير أجناد الأرض لأنهم في رباط إلى يوم القيامة".
مصر التي حظيت بميلاد العديد من الأنبياء موسى وهارون، ويعقوب ويوسف والأسباط وأرمياء. ودخل أليها دانيال ولقمان الحكيم، ودفن بها العديد من العلماء. لم يترك السيد حافظ ساعياً إلى مصر إلا وذكره مستعرضاً فعاله وإرادته (أقوال المسعودى، كعب الأحبار القضاعى)ومن الفلاسفة القدامى الذين تحدثوا عن مصر كيتب الروائى المتمكن من تاريخ الحضارات : هرمس، بقراط، جالينيوس، ألينوس، فيثاغورات. كتاب أحمد حسين (تاريخ مصر). هذه مصر التي يتبول مصريون في الشارع، ليس كلهم بالطبع ، لكن الغالبية العظمة مما أفقد الحاكم بأمر الله صوابه، فبنى لهم مراحيض عمومية. الناس تحتاج إلى وعى وثقافة!. والى رفع الروح المعنوية.
يحلم فتحى رضوان بمصر الأمة، وبتحريرها من التخلف، يخاطبها في شخص حبيبته سهر بالعشق البائن الظاهر: اكتب لك قصته (مسافر زاده الخيال) " يا عصفورتى، هذه الدنيا بدونك تعنى الوحشة والقلق والفزع والخوف، عيناك مرافئ الأمان والحنان والآمال. آه. عندما أراك أشعر كأننى غريبة عن الديار، وقمر عاد للكواكب ليدور، اسمحى لى أن أكتب بعض الكلمات، في زمن تفقد الكلمات براءتها ونقاءها وسُموها، ونبض قلبها الدافئ.... أنت من أنت؟ أسمع هفيف أنفساك ليلاً فيطاردنى الحلم إلى ضوء الفجر فأصلى، وأراك أمامى كأنك نجمة في السماء". عشق لمصر، ومن أجل مصر يكتب السيد حافظ ليسجل تاريخاً مصرياً – وطنياً صادقاً وأصيلاً.
مصر القديمة "بردية سليم حسن القديمة، وما كتبه الأدباء في مصر منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد. تقول البردية :
" كل شيء في مصر يقبل رشوة إلا الله، لأنه عادل ونزيه. الرجل يذبح أخاه من أمه فما العمل؟ الرجل ينظر لابنه نظرة عدوه. الرجل يذبح بجوار أخيه فيتركه وحيداً لينجى نفسه! العدو يحرم البلاد من العمل، إن من حصد المحصول لا يعلم عنه شيئاً. قوانين قاعة العدل، والأحكام قد ألقى بها ظهرياً فصارت تدوسها الناس بالأقدام في المحال العامة، والفقراء يقضونها على قارعة الطريق. أوراق العدل على الطريق ملقاة، لا تنفذ أحكام العدل في البلاد، لا قيمة للعدل عند الأغنياء. الناس تسلب السائح ماله في الليل ويجردونه مما معه (البلطجية) ويضربونه بالعصا أو يذبحونه كالشاة... نظام البلاد قد قُلب رأساً على عقب. فمن كان عصا صار رب ثروة، والغنى الأصلى صار إنساناً منهوباً، والمتحلى بالفضائل يسير وهو مخزون (مكتئب) البؤس عم في هذا الزمان والفساد والفوضى... لكننى عندما أقرأ، فإنى أسمع نبض مصر، مصر الناس، وليست مصر الكهنة والحُراس. إنى أدوس على أرض طاهرة تئن بأوجاع الناس ويحتشد فيها همس المظلومين والجياع. الحب بين ضفتى النيل يغيب. إن مصر تنتحر على ضفاف التشتت والصمت والاستسلام.. وأنا لا أريدها كذلك".
يعلن الروائى السيد حافظ عصيانه وتمرده، إنه لا يقبل بمصر الوطن أن يسير بها الحال على ما هي عليه الآن. إنها أفضل من ذلك بكثير بكثير. "يكره الله السياسيين (سبب هذا المصير المظلم والظالم لمصر العصرية اليوم) لقد أنزل الله رسالات الأنبياء من السماء لمقاومة هؤلاء الطغاة. إن الله يحب الفقراء المستنيرين، ويكره الأغبياء الذين لم يفكروا ويتأملوا في خلق السموات والرض والمجتمع والتاريخ. إن الله يحب كل ما هو جميل الروح والقلب، ويكره الأشرار به ثم يردد.." إننى مصري. أكيد أنا مصرايم بن بنصر بن عام بن نوح عليه السلام).
يعود قرب ختام الرواية، فتحى رضوان إلى القاهرة. العاصمة المصرية الآن، يعود إلى الوطن القاتل والمقتول والعاهر والمتدين في وقت واحد. فنجان القهوة أمامى قد برد ، وأيامى تهترئ أمامى في ساحة الغفلة والأمية الثقافية. يا فاجرة أنت أيتها المدينة التي تدعى القاهرة. تعالى من وسخ الشوارع، ولا تستحمى في النيل لأنه مُلوث "تعالى ولو مرة واحدة لتشربى معى القهوة (السادة) وأنت طاهرة".
من مصر الآنية أم الدنيا، إلى مصر أم العروبة "والخونة الفلسطينيون الذين يُعطون إسرائيل رقم البيت والشارع والشقة واسم الناشطين لإسرائيل حتى تضربهم – وتقتلهم بدم بارد. تُرى كم مليون خائن عربى يتعاون مع إسرائيل؟ تُرى كم مصرى خائن؟ الخيانة مهنة، الجاسوسية مهنة هي الأخرى، أكل عيش. كم خائن في تاريخ مصر وتاريخ العرب؟
- الحرية مرة أخرى:
يتعامل السيد حافظ بمفهوم ومضمون الحرية تعاملا يحمل معها الخير للبشرية، يظل يعمل على تأكيدها لإعطائها البعد الإيجابى وأمل الحياة لعيشها واستمرارها داخل حياة معاصرة أليمة. آن الآوان لكى تنهض الحرية متجاوزة آلامها والماضى الرديء الذى حبس وجودها في حياتات عربية متخلفة، خارجة عن حدود المصداقية والموضوية. لقد تحطمت آمال القراء العرب فغفلوا عن القراءة وفترت إرادتهم، وتخلفوا عن البحث عن الجديد في عالمى الآداب والثقافة.
فقد روائيو اليوم – العرب على الأقل – دورهم التنظيرى الذى يعنى التحليل والتشريح والدراسة والنقد كنتاج طبيعى لأحوال المجتمعات حتى تعبر الرواية تعبيراً شاملاً وأمينا عن الواقع الحى أو الخيال الناشط الجميل الذى يضيف إلى الواقع تشويقاً وتطلعاً إلى غد روائى أفضل. لقد جهّزت (قهوة سادة) للسيد حافظ إشراقة فعالة تعيد لنا جميعاً صورة النقد البناء للمجتمع العربى عامة. وحتى تكسب معركة الموقف، فقد زودت القارئ بالتواريخ، والتحليل الفلسفى والأدبى، وبالأمثلة تلو الأمثلة التي لا تنضب، ولا تختفى بين الحين والحين، لتظل الروح الروائية ممسكة ومتعلقة برأس القارئ وعقله وأحاسيسه ونبضات قلبه حتى يقبل ما يرويه الراوى من تاريخ يسير بين القديم والحديث.
(قهوة سادة) عمل أدبى رصين يضيف إلى جانب التاريخية، الحقائق والحقيقة، والعشق الفني، معنى آخر مسار الرواية. يتجول الروائى الكبير السيد حافظ بين القضايا المهمة والمعاصرة، فيتحسس ويتلمس السياسات التي تطيح بالإنسانيات، ويلقى الضوء الأبيض الناصع على مؤامرات التجار آكلى لحوم البشر واستغلالهم للدين بعقد صفقات الحوار مع الساسة والسياسيين الجهلاء، ويفكر في مصر الجديدة آملاً الخير لها ومؤملاً رخاءها وعزّتها على يد ثورة 25 يناير الصاعدة بإذنه تعالى، مبتهلاً إلى الله اكتمالها ونصرها مع الشعب المصرى العظيم. آمين.
أ.د. كمال الدين عيد
0 التعليقات:
إرسال تعليق