دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(143 )
حتى يطمئن قلبى
بقلم : د. محمد نوالى
دراسة من كتاب
التشظى وتداخل الأجناس الأدبية
فى الرواية العربية
" الجزء الثانى "
إعداد وتقديم
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
حتى يطمئن قلبى
بقلم : د. محمد نوالى
جامعة محمد الأول - المغرب
وصلتنى من الكاتب المسرحي والروائي المصري الكبير السيد حافظ روايته الأخيرة على شكل pdf بعدما أمدني بأعماله الأخرى ورقياً.
وقد اختار لها عنوانين: "حتى يطمئن قلبي" عنوانا أول." ولكن ليطمئن قلبي " عنوانا ثانيا. وقد صدرت مطبوعة عن مركز الوطن العربي رؤيا. وهي في 557 صفحة وأهداها للروائي الكبير صنع الله إبراهيم. وسبق أن سلمني أعماله السابقة التي سأعكف على دراستها جميعها كما وعدته. وهو كاتب يستحق القراءة. تحية له. وتحية لكل من لم يخن نفسه وظل طليقا حرا يغرد كما يشاء كما قال.و تحية لأبناء مصر الأحرار.
يقوم السيد حافظ في رواياته بحفر أركيولوجي في تربة مصر وتاريخها. والأركيولوجيا هي فن وعلم الإبراز. يطمح إلى أن يبرز الوجه الحقيقي لمصر الذي غطتها رمال فقدت بريقها الذهبي، وحولت أفضيتها إلى لوحات قاتمة، وناسها إلى دمى كسيحة. تتحرك في مشاهد مكررة لا جديد تحت شمسها التي تخلت عن عنفوانها. تاركة مساحات الصمت يغلفها غبار تبلد عليها مثل أرشيفات الكتبة من أولئك المتحذلقين الذين يصنعون أمجادا وهمية في تاريخ أضحى حكايات خرافية مضللة تحتاج إلى من يعري طبقاتها. يقول السيد حافظ: "أنا لا أحكي التاريخ ولا أروي لكم بل أصححه."
الكتابة الروائية عند السيد حافظ كتابة مضادة للكتابة التاريخية. والكتابة هي مجرد تمثيل. ويكمن خطر التمثيل على الشيء المُمثل. لأنه مسح له، وإزاحة واحتلال له.
يحضر التمثيل عاريا مدبجا بإنشاءاته الأربيسكية في منحنيات عرجاء تجر أزمنة جوفاء تحت شعارات فقدت حياءها تتهادى بدون استحياء.
تتوارى الحقائق خلفه. كما الطبقات الجيولوجية التي يغلفها غبار العبارات المسكوكة الرائجة التي تدون وتحفظ بدون كلل كأناشيد تملأ سماء لا هي بالسماء. فخطر التمثيل يقع على الشيء المُمَثل. ذلك أن الحضور والإقصاء يتوحدان فيه، إذ يصبح التمثيل بديلاً عن المُمثل، يمحوه بصفته وجودا، ويحضره بصفته نسخة مُمثلة ومعدّلة. وقد مارس عليه التشويه والتغيير.
وبه يغرقنا التمثيل في مشاهد مسرحية حُبكت بدقة متناهية، تجتهد في محاولة إخفاء تمثيليتها ضمن تقنيات الإيهام، ومشابهة الحقيقة la vraisemblance. تفعل فعلها في سلسلة كاملة من النصوص من المدونة، لا تمثل غير حقيقتها هي، وإذا كان جاك دريدا يدعو إلى إعادة قراءة الفلسفة من افلاطون إلى هيدغر ، وإعادة كتابتها لكي نتبين أنها ليست تمثيلا لشيء ما فقط وكما هو في التمثل الشائع بل باعتبارها نصوصاً تمثل نسها. فإن ياسين الحافظ يريد أن يبرز استعاراته في أقنعة التاريخ ، وفي سحنات الناس ويومياتهم. إذ الكل أصبح مغلفا باستعاراته المملة التي أضحت عناوين بائسة لعالم يتهادى في انهيارته كل يوم. وكأن روح العصر التي تكتنف الأجساد والأشياء. أضحت توقع تجدد الانهيارات تحت مساحيق الألوان الساطعة والدمى المتحركة.
وفي ملحمة الإنسان التي قادته إلى ابتداع أساليب التمثيل تغرَّب عن ذاته، وحقيقته بالمفهوم الماركسي. لأنه ـ وكما قرّر دريدا في "أطياف ماركس" ـ بتمثيله هذا سينيب غيره عنه في حضور الوجود. وهكذا ظل غائبا عن نفسه/ فهو لم يكثفها مفهوما، وهو لم يقبض عليها طيفاً، واكتفى بالقناع يخفي فيه خفاءه واختفاءه بوصفه مريدا"[1]
لا يأتي السيد حافظ تحت رداء المؤرخ الذي يضاف إلى لائحة الذين كتبوا رؤيتهم ورؤية غيرهم للتاريخ ظانين أنهم يسجلون الحقيقة كما عاشتها الأجيال. وكما عرفها الواقع. لأن الواقع يطبخ كما تطبخ الفطائر والمعجونات. والحقيقة تظل بمنأى خلف شواطئ الأزمنة المضللة. تنتظر من يوقظها. وليس لها غير الروائي أو المسرحي أو الذي جمع بين الحسنيين.
وإذا كان كما يقول محمود درويش "ومن سوء حظ المؤلف. أن الخيال هو الواقعيّ على خشبات المسارح." فإن من سوء حظ الحقيقة أنها تتدثر بالإيهام. ومن سوء الحظ أيضا أن كتابة الحقيقية تغلف بالنسيان، ومن حسن حظ الزبد أنه كثر فلم يعد يبدو كالجفاء.
هذا الأخ الصديق الذي أشترك معه أشياء كثيرة. منها ضياع الاسم في الزحمة. أشترك معه أشياء كثيرة .كثيرة. هو يعرف ذلك فاختارني لكي أقرأ أعماله. وسأقرأها وأكتب عنها لأني مؤمن بها ومؤمن أن الحقيقة تريد أن تتلمس طريقها إلينا من فجواتها.
تحية للمسرحي والروائي العزيز السيد حافظ مرة أخرى
دكتور/ محمد نوالي
جامعة محمد الأول - المغرب
[1] ـ ماركس في جسد المكتوب. منذر العياشي. ضمن: أطياف ماركس. جاك ديريدا. ترجمة منذر عياشي.: . مركز الإنماء الحضاري. ط2/2006. ص7
0 التعليقات:
إرسال تعليق