دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 142 )
جموح التجريب وأحزان وطن مخدوع
في كل من عليها خان للسيد حافظ
رؤية : أحمد محمد الشريف
دراسة من كتاب
التشظى وتداخل الأجناس الأدبية
فى الرواية العربية
" الجزء الثانى "
إعداد وتقديم
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
جموح التجريب وأحزان وطن مخدوع
في كل من عليها خان للسيد حافظ
رؤية : أحمد محمد الشريف
"كل من عليها خان " رواية جامحة تنطلق بجرأة شكلا ومضمونا نحو عالم من التجريب , كما عودنا الكاتب السيد حافظ خاصة المسرحية في كتاباته المسرحية منذ أوائل السبعينات , وهاهو هنا ينطلق بشكل حديث لسرد الرواية يجمع بين قوالب فنية متعددة : مابين الحكي الروائي والسرد القصصي والمشهد المسرحي والسيناريو , والمونولوج الداخلي والشعر,... حيث يبدأ عنوان الرواية بإشراك المتلقي في اختيار العنوان الذي يراه مناسبا من وجهة نظره , وهذا بالطبع يعمل على تحريك ذهن المتلقي ويجعله متيقظا لاستيعاب ما يقرأه بين وخلف السطور المكتوبة , وبداية في هذا وحده تمرد على سلبية التلقي للقارئ . وربما كان هذا القالب يعتاد انتشاره في المسرح فيما يعرف بالبريختية التي تبحث دائما عن إيجابية التلقي.
تسير الأشكال المختلفة التي طرحها المؤلف في خطوط متوازية . حيث يضع كل منها في مكانه حينما يشعر أن القارئ بحاجة إلى التنوع من التيقظ والتفكير , فيبدأ بسرد حكاية العشق الحرام بين سهر وفتحي المصري , ويتسلل منها الكاتب إلى قصة أول خطيئة على ظهر الأرض في حكاية قابيل وهابيل , ذلك من خلال سرد البطل فتحي المصري لروايته الجديدة التي يكتبها " مذكرات رجل يضاجع الوطن ".
وإذا ما عاد الكاتب لقصة العاشقين في مدينة اللقاء دبي , ما يلبث أن ينطلق بنا نحو أغوار التاريخ على لسان شهر زاد صديقة سهر التي تأتمنها سرها , واختار لها الكاتب اسم شهرزاد التي صارت رمزا للحكي من حكايات ألف ليلة وليلة حيث تحوي في خيالها الأسرار والعجائب , لكنها هنا تنطلق بنا إلى عصر مظلم كئيب ملئ بتاريخ الفقر والمجاعة في مصر في حكم المستنصر حيث يريد الكاتب إسقاط التاريخ على الحاضر إيمانا بنظرية أن التاريخ يعيد نفسه , مغلفا غاياته برواية عشق بين وجد والنيروزي في عصر المستنصر كمعادل موضوعي لعشق سهر وفتحي (مع ملاحظة الفارق بين الحب المشروع عند وجد والعشق غير المشروع لدى سهر) .
ومازلنا في أسلوب السرد الروائي حتى يستدرجنا الكاتب إلى أسلوب الحوار المسرحي في مشهد تولي المستنصر خلافة أبيه وهو ابن السبعة أعوام , ثم يعود مرة أخرى للسرد بسلاسة تحافظ على استغراق المتلقي في متابعة الأحداث مما يحسب لحنكة وخبرة الكاتب ..
ثم يفاجئنا الكاتب بالتجديد في الشكل عند الانتقال بين فصول الرواية بجملة (فاصل ونواصل . لا تذهب بعيدا عن الرواية) وهو أسلوب تليفزيوني بحت يتبع غالبا في البرامج والأفلام والمسلسلات .. وكما ذكرنا من قبل نرجع أصل هذا الأسلوب في المسرح إلى البريختية التي تكسر إيهام المتلقي كي يظل متيقظ الذهن مفكرا متحفزا للتمرد والحراك الإيجابي. وهنا نسجل نقطة جديدة في طريق التجريب والتجديد للمؤلف.
ولم تتوقف مفاجآت السيد حافظ هنا , فإنه يسارعنا بمفاجأة جديدة بفاصل قصير يتكون من مسرحية قصيرة كاملة متكاملة الأركان (وهي في حد ذاتها مسرحية تجريبية) ,, وهذه المسرحية لا تخرج عن السياق العام للرواية بل هي جزء أصيل ومكمل لها بما تحمله من دلالات ورموز تثير مشاعر وأفكار المتلقي , بأسلوب مغاير يكسر رتابة السرد الروائي بشكل عام . فهو هنا بدأ في تحويل أسلوب السرد الروائي إلى أسلوب اللوحات المختلفة في شكلها الفني . ثم يعود إلى الرواية بنفس أسلوب الخروج منها بالفاصل التليفزيوني حيث يقول (عدنا إلى الرواية .. إقرأ الآن) ..
وهكذا يظل السيد حافظ يسافر بنا من شكل إلى شكل آخر بين صفحات الرواية , حتى يتداخل معها الشعر أيضا بأشعار من تأليفه والاستعانة بأشعار لشعراء آخرين ذاكرا أسمائهم .. ولا ينسى أن يطوف بنا أيضا في جزء من مذكرات شخصية له ضمنها في شخصية فتحي المصري التي تعبر عن جزء كبير من شخصية الكاتب في سفره وحريته وآراءه وعشقه للوطن ورفضه للخيانة وبحثه الدائم عن الحق والحقيقة وجهاده نحو تحقيق وطن للشرفاء.
بين كل تلك الأشكال المتعددة استطاع الكاتب أن يعرض لنا في سياق أفكار الرواية عدة موضوعات وحدها جميعا في إطار فكري واحد , سارت جميعها في مسارات متجاورة على مدار الرواية من أولها حتى آخرها , وهي حكاية سهر وفتحي , حكاية وجد والنيروزي , قصة هابيل وقابيل , حكاية المجاعة في عصر المستنصر, حكايات فتحي وجيرانه بالإسكندرية , بالإضافة لموضوعات الأشعار والمسرحيات القصيرة المتداخلة في الرواية . وقد ضمن في كل ذلك أفكار الحب والعشق (لي في قلبك وردة وفي خيالك حلم وفي شعرك رحلة وفي نهديك قصيدة) وضمنها أفكار الخيانة , خيانة الوطن فيذكر قائلا :(معظم الكتاب والنقاد الكبار يكتبون ويتحدثون كالأنبياء ويتصرفون كالخونة الأغبياء) وتناول بجرأة شديدة فساد الحاكم وجشع التجار فاضحا كبار رجال الدولة فعلى سبيل المثال يذكر على لسان ياقوتي التاجر اليهودي (خير مصر هو خيرنا نحن .. نحن الذين وهبنا أنفسنا لها .. إن المواشي كلها والدواب لدينا ونبيعها بمائة ضعف وعلينا تجفيف الحم ليكون دوما في بيوتنا نحن الأسياد) وغير خاف على أحد وليس سرا أنه يقصد إسقاط التاريخ على الواقع معلنا تمرده وثورته على الفساد في كل زمان متقمصا شخصية فتحي المصري , حيث يقول (لم أخن الوطن مرة مثل حور محب أو على بك أبو الدهب أو السادات , أنا لم أحمل قميص يوسف الملوث بدم كاذب للذئب ورفضت أن أغتصب مصر ليلة 5يونيو1967 مثلما فعل عامر وعبد الناصر)
و يحكي عن هموم الوطن وأنات الضعفاء وأحلام الفقراء .فيقول (هذا الوطن يغير جلده مع كل حاكم جديد .. ويغير دينه مع كل نبي .. ويغيب عقله كل مساء حتى لا يواجه نفسه هل هو حي أم ميت ؟ ونستني مصر)
فنحن هنا أمام ملحمة سياسية وتاريخية تحتاج لصفحات كثيرة بل ودراسة كبيرة متعمقة للمضمون , لكننا وباختصار شديد جدا يجب أن نذكر أن المؤلف قد تناول تلك الملحمة بجنون الفنان الخبير الواعي , فقد قام بكشف وتعرية كل من خان وفضح ألاعيب الكبار في كل زمان ومكان , ففضح فساد الولاة والساسة , وفضح جشع التجار, وطمع الحكام والمحكومين , وخيانة المثقفين , وتملق أصحاب الأقلام , وتلون رجال الدين , وخنوع العامة , وقلة حيلة الضعفاء , ومكر النساء , والعشق بنوعيه الطاهر والمدنس, وتفشي الظلم والقهر والانحلال المجتمعي والسياسي والأخلاقي , في بلد ماضيها مثل حاضرها , وتتكرر حكاياتها في كل زمان مع تغير الشخوص , ...
ومن الأهمية أن نلفت انباهنا أيضا لهذا التناقض الذي تناوله المؤلف بين قصتي العشق الأولي في عصرنا الحديث بين سهر وفتحي والثانية في التاريخ القديم بين وجد والنيروزي , فلأولى تمثل العشق الحرام الذي انزلق في الخطيئة وتمادى في الخيانة , فهذه القصة هي المعادل الموضوعي هنا لخيانةالوطن , فكيف لي أن أسكن في وطن أعيش فيه وفي خيراته وأمشي في شوارعه وأطعم من خيراته , آمنا مؤتمنا , ونفس الوقت أطعنه في شرفه وأخونه , ويوازي هذا ماحدث بين سهر وفتحي من خيانة كل منهما لشريك حياته , ينام ويشرب ويأكل ويسكن إلى زوجه , من ناحية أخرى يذهب لممارسة العشق والخطيئة مع جسد آخر , فخيانة الوطن عند السيد حافظ تماثل تماما خيانة الزوج أو الزوجة والأهل , ولعل القارئ يظن في البداية أن المؤلف متعاطف مع فتحي في هذا الأمر لكننا نكتشف بمرور الأحداث أن المؤلف قد ترك عن عمد استكمال حكايتهما , في اعتقادي يرجع ذلك لرفضه لسلوكهما وخيانتهما , مما أصابه بالقرف والإشمئزاز مما يفعلان .. فأهملهما مستكملا حكاية العشق الحلال والحب الطاهر بين الحبيبين وجد والنيروزي , في اتجاه واحد مع الكفاح من أجل الوطن والعيش بشرف في زمن فسد فيه الجميع. والمؤلف عندما تقمص شخصية فتحي اندمج معها في عشق الوطن والبحث عن العدل والحق , وفي روعة الإحساس بالحب والعشق مع سهر , لكنه كان ينخلع من عباءة فتحي إذا ما مارس الرذيلة مع سهر , حتى أغفلها تماما في أواخر الرواية ويهتم بما يحدث بينهما بعد ذلك .
نكتشف أن المؤلف قد أضاف لنا كما كبيرا من المعلومات عن تاريخ مصر السياسي والاجتماعي , يكشف من خلاله الكثير من الأسرار حول الحكام والساسة في العصور السابقة وحول المؤامرات والدسائس والقهر , فيفضح زيف التاريخ الشائع عند العامة حول بعض الحقب التاريخية .
و إذا ما تناولنا المسرحيات القصيرة المتضمنة كفواصل داخل الرواية من الناحية الفنية المسرحية. نجدها جميعها تنتمي إلى التجريب واقتحام شكلا جديدا في المسرح , يعتمد على الإيحاء والدلالات والرموز دون التصريح أو حتى التلميح , والبطل الأساسي فيها كلها هو اللون وليس الممثل الشخص , وليس الكلمة , إنما نوع جديد من المسرح يعتمد فقط على سينوجرافيا الألوان ودلالاتها , سواء كان اللون متمثلا في الإضاءة أو الملابس أو قطعة ديكور أو أي (موتيف) على خشبة المسرح , فينشأ الصراع الدرامي بين الألوان معبرا بالإيحاء عن طبيعة الصراع الأساسي في الرواية الأصلية . وهذا ما يحسب للكاتب من تجديد في الشكل الروائي أيضا .
كل هذا بالإضافة لكثير من الحديث والتحليل عن السرد وعن لغة الكتابة واللغة الشعرية وتحليل الشخصيات وتحليل الزمان والمكان في الرواية, بالإضافة لتحليل الموضوع , حيث قد يكون لكل من هذه الأمور مقام آخر.
لكننا في النهاية لا ننكر أننا أمام اقتحام نحو تجريب جديد وجرأة وشجاعة للكاتب السيد حافظ في خطوات محسوبة ومدروسة نحو التجديد في السرد الروائي.
أحمد محمد الشريف
0 التعليقات:
إرسال تعليق