Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الخميس، 16 سبتمبر 2021

21 علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا دراسة تطبيقية بقلم بنيونس الهواري - المغرب

 

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(21)

 

علمونا  أن نموت  وتعلمنا أن نحيا
دراسة
تطبيقية
بقلم بنيونس الهواري - المغرب

دراسة من كتاب إشكالية الحداثة والرؤى النقدية في المسرح التجريبي 


الســيد حــافظ

)نموذجاً)

علمونا  أن نموت  وتعلمنا أن نحيا
دراسة
تطبيقية
بقلم بنيونس الهواري - المغرب

 


 

كم كنا نبحث عن حوار نبدأ به الرحلة لنمتطي قطار البحث والتحصيل ، فما أحلى أن نحقق هذا الحلم، أن نعانق عشق المغامرة نفتش فيها عن زاد الحصيلة لبلوغ المراد. فهل هذا يعني أننا لا زلنا نحلق في سماء العبث؟ أو أننا محونا رعشه الكلمات الخرساء ووصلنا إلى شاطئ الأمان؟.

لعل من الأسباب التي دعتني إلى اختيار موضوع كهذا "التجريب في مسرح السيد حافظ: حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان" نموذجاً ، أولاً: اهتمامي بالمسرح ومن جهة ثانية طبيعة موضوع التجريب وحيوية مضامينه وأشكاله ، خاصة إذا تعلق الأمر بمبدع مثل السيد حافظ وهذا بالرغم من صعوبة الطريقة في بادئ الأمر وتقل أبرز هذه الصعوبات هو قلة المراجع. لكن تأكد لي مع مرور الوقت إنني كنت محظوظاً حينما كان لي الشرف أن يشرف الأستاذ/ مصطفى رمضاني على بحثي. وله يعود الفضل في اختيار موضوعي ، إذ لم يبخل علي بتوجيهاته ومساعدته. كما يعود الفضل للمبدع المصري السيد حافظ الذي لمست فيه رحابه  صدوره ، والذي أقدر فيه روح السخاء والعطاء.

وتبعاً لما جرت عليه العادة ، فإنه يجب أن نشير إلى أهم المحاور التي اشتمل عليها هذا البحث:

المدخل وتناولت فيه مراحل المسرح العربي بإيجاز ، تحت عنوان: المسرح العربي من المصادرة إلى البحث عن الذات ، وهو عبارة عن نظرة تاريخية حاولت فيها تتبع مراحل المسرح العربي انطلاقاً من تأثره بالغرب في فترة الترجمة أو الاقتباس ، مروراً بمحاولة المسرحيين العرب في إيجاد قوالب جديدة للفن الدرامي. وهي مرحلة حاولت أن تبحث عن نفسها لكنها لم تستطع أن تتخلص من التبعية من أشكال العداء الأجنبي، وهذا قبل أن يهتدي المسرح العربي إلى التجريب كأسلوب جديد يحاول البحث عن الذات.

الباب الأول: إرهاهات التجريب في المسرح العربي:

الفصل الأول: التجريب في المسرح العربي وهذا انطلاقاً من: تأثره بالغرب ، ثم تفكيره في عملية التأصيل.

والفصل الثاني: التجريب في مسرح السيد حافظ وهذا من خلال ، موقع السيد حافظ في المسرح التجريبي.

الظروف التي أحاطت به ، والصعوبات التي واجهته مع الإشارة إلى بعض أعماله المسرحية.

الباب الثاني: حضور الجانب التجريبي في مسرحية السيد حافظ حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان".

الفصل الأول: التجريب الفكري في المسرحية ، مع إبراز أهم المضامين التي حملتها هذه التجربة:

- رحلة الإنسان بين الحلم والواقع.

- رصد الواقع بتناقضاته وأوضاعه المتردية.

- الفعل الثوري بين الاستحالة والأمكان.

- المظاهر الفكرية التجريبية في هذه المسرحية.

- الهدف من تأليفها.

الفصل الثاني: التجريب الجمالي في المسرحية، وهذا من خلال: الصراع الدرامي.

- الحدث.

- الزمان.

- المكان.

- الحوار.

- الشخصيات.

- اللغة.

- خاتمة.

المسرح فن مستورد، بل بعيد عن التربية العربية، تلك فكرة انساق وراءها العديد من الباحثين الغربيين والعرب على حد سواء.

في ضوء هذه المعادلة ، هل يمكن الحديث عن مسرح عربي؟ وما هي السبل الكفيلة لتأكيد أو نفي ذلك؟ سؤال جدير بالطرح والتساؤل ، لكن قبل ذلك لابد من التأكيد على أن الفن الدرامي تربي في التربة العربية ولو في أشكاله البسيطة - ، لكن تعاملنا مع هذا الفن هو الذي قلب حتما تلك الموازين. وبمعنى آخر إن ممارستنا هي التي ستحدد لنا ذلك.

فهل الحديث عن مسرحي عربي ينحصر ضمن ما هو في ماضينا وذاكرتنا؟ أو أن مصالحتنا مع الغرب كفيلة بتحقيق هذا المشروع؟ لا شك في أن انكماشنا على الذات لا يفيدنا قطعاً، كما أن ذوباننا في الغرب يؤدي بنا إلى الطريق السدود. وبهذا الشكل سنأخذ معادلة أصعب من الأولى.

لكن ما ينبغي التأكيد عليه وهو ما لا نستطيع إنكاره أن الاستفادة من موروثنا الثقافي والحضاري ستكسبنا الثقة التي افتقدناها منذ زمن بعيد. لكن ما يمكن أخذه بعين الاعتبار هو أن هذا الماضي لا يمكن أن يكون مجرد تراكم لما هوآت، فالماضي ما هو إلا إضاءه لحاضرنا ، هذا الحاضر الذي ينبغي أن يكون في علاقته مع الماضي علاقة إضافة لا علاقة تراكم، كما أن الاستفادة من التجارب الطلائعية العالمية لا يمكن أن نستهين بها ، لأن علاقة الثقافات تبقى واردة. كما أن الاحتكاك سيطور ولا شك هذا الفن وهذا ما أكده محمد زهير في معرض حديثه عن مسرح الهواة بالمغرب: "إن التجارب الناضجة في مسرح الهواة يقترن تعاملها مع التجارب الطلائعية في المسرح العالمي ، ببحث دؤوب في التراث الفني والثقافي الشعبي والنخب ، وطنيا وقومياً من منظور معاصر ، وتوظيفهما درامياً كتوظيف الحلقة والرأي وبعض العادات الشعبية والتقاليد والشخصيات والأحداث والمواقف التاريخية والرموز التراثية: توظيفاً إحالياً بحيث تضىء الحاضر وتسهم في الوعي بشروطه عبر الوعي المخصوص بالماضي ، بمعنى آخر فأنها لا تقرأ الماضي قراءة تراكم، ولكن قراءة نقدية تحقق إضاءة ، وفي الآن ذاته وعياً بشروط الحاضر"(1).

أن الحديث الذي أثاره الباحث ضمن كلامه عن المسرح الهاوي بالمغرب ينطبق على المسرح العربي ككل ، على اعتبار أن المسرح المغربي جزء لا يتجزأ عن المسرح العربي. وهي التفاته جريئة تأكد على أن التعامل مع الماضي لا يقف عند الذوبان في هذا الحاضر، بل باعتباره جسراً يوضح الرؤية وينمي شروط هذا الحاضر.

ترى كيف تعامل المسرح العربي مع ذلك لتحقيق أصالته وتجدره؟ هل في مغازلته للغرب؟ هل فى مغازلته للغرب؟ أم بالتعبير عن ذاتيته؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن نحسم فيها إلا بتتبع الأشواط التي قطعها المسرح العربي.

تلك مسيرة لا شك أنها تراوحت بين المد والجزر قبل أن تستوي على سوقها ، وقد رسختها تجارب أو بالأخرى مرحلة الاقتباس والذوبان في الغرب. والتي دشنها" مارون النقاش" في ترجمته لمسرحية "البخيل لموليير" ، والذي اعتبر أن المسرح ذهب إفرنجي مسبوكاً عربياً. ليتبعه في ذلك كل من " يعقوب صنوع موليير العرب " وِأبو خليل القباني" وهي محاولات أقل ما ننعتها به أنها شكلت مرحلة الاقتباس والرتجمة لا غير ، أدت بالمسرح العربي إلى الضياع، كانت استجابة لمرحلة المناقفة التي مست الفنون الأدبية كان الفن الدرامي من واجهاتها الرئيسية.

فهل سيستفيد الجيل القادم من ذلك؟ أو أنه سيواصل تبعيته للغرب؟ وهي المرحلة التي أعقبت ثورة 1919 بمصر ، قبلة المسرح العربي، والتي يمكن أن ننعتها بالبحث عن تجذير الفن الدرامي على الساحة العربية. فهل وقت هذا الحيل في تأدية هذه الرسالة؟

إن ما يمكن استخلاصه من إنتاج هذه الفترة في الفن المسرحي ، أنه لم يستطع التخلص من الإرث الارسطي والذي ظل يتقيد بالوحدات الثلاث (الزمان والمكان والحدث) وبذلك لم يستطع هؤلاء الرواد الانفلات من القبضة الأجنبية ، وهذا ما أكده "أحمد شوقي في مصرع كيلوبترا" فبالرغم من كونه بشر بميلاد مسرح غنائي إلا أنه لم ينج من الاسقاط ، لذلك غلبت الغنائية في مسرحيته. هذا ما لم يكن في استطاعة الجمهور العربي أو يتقبله. وقد تبعه في ذلك تلميذه "عزيز أباظه في مسرحيته التاريخية الناصر" على شكل شعر ، فكانت أن لاقت نفس المصير. ثم توالت المحاولات مع "محمود تيمور" في مسرحيته "صقر قريش" ، والتي وإن كانت توحي بتنفسات جديدة ، فإنها لم تحمل أي جديد على المستوى الفني. وما يقال عن هذه التوجهات يمكن أن تنطبق على مسرحياته "أهل الكهف" شهر زاد لتوفيق الحكيم.

إن ما ينبغي لا زالت تسجيله على هذه المرحلة ، وبالرغم من بحثها الدؤوب في التراث والتاريخ العربيين لا زالت ترتدي ثياب غربية ، بل ولا زالت ترى المسرح العربي في الآخر. فقد يقول قائل إن بحث هؤلاء في الماضى وذاكرة الثقافة العربية خطوة عملاقة نحو التأسيس. قد يصدق ذلك من وجه واحد ، إلا أنه في المقابل لا زال يدين للغرب وينحني أمامه. وهذا ما أبرزته فكرة التعادلية التي كانت مسماً خاصاً بالحكيم، وفي هذا الصدد يشير "توفيق الحكيم" إلى تجربته فى أهل الكهف:" فِإن المقصود عندي لم يكن مجرد أخذ قصة من الكتاب الكريم ووضعها في قالب تقليدي ، بل كان الهدف هو النظر إلى أساطيرنا الإسلامية بعين التراجيدية الإغريقية. هو إحداث هذا التزاوج بين العقليتين والأدبين" (1).

وهي إشارة تؤكد بالطبع تلك البرزخية التي ظلت حاضرة في إنتاجات "توفيق الحكيم" بالرغم ما احتوته من أبعاد فكرية ، والتي لم يكن في وسعها أن تشفع ما ذهب إليه هذا الأخير. آية ذلك أن أعمال هؤلاء اتجهت إلى الماضي إلا لمجرد الاحتماء ، إذ أنها لم تستطيع أن تنفض عنها غبار التبعية وفي ذلك يقول المرحوم/ محمد مسكين: "لهذا تم التوجه إلى الماضي كلية كآلية دفاعية ضد أشكال الإحباط التي تمارسها الحاضرة الغربية على الذات العربية. أن هاتة الحالة العامة أفرزت مسرحياً وعلى المستوى النقدي والتاريخي خطاباً مسرحياً تبريرياً ينكفئ على ذاته ، ولا يبحث في تاريخ المسرح العربي إلا بهدف الاحتماء"(1).

وعلى الرغم من ذلك تبقى التفاته هؤلاء جديرة بالتتبع، كونها جاءت بوعي جديد بضرورة التجديد. إلا أن ذلك وجد وبشكل واضح في المرحلة التي أعقبت ثورة 1952.

وهي محاولات جاءت لتزعزع ما كان سابقاً ، تعي بضرورة الانسلاخ عن الغرب. وبالتالي تدافع عن الإحباط الذي كرسه الاستعمار. وهكذا كان الفن الدرامي مجالاً أو منصة للدفاع عن الحرية والاستقلال ، ورفض أشكال التبعية في كل المستويات. وفي الوقت نفسه تحاول أن تشرك الجمهور العربي في العمل المسرحي، بعدما ظل لفترات طويلة بعيداً عن هذا الفن دون إغفال الجوانب الجمالية في العمل المسرحي.

فهل حالف هؤلاء المبدعين الحظ في تحقيق ذلك؟ وما هو نصيب تلك الجوانب الجمالية في أعمالهم؟ . مرة أخرى كان التراث والتاريخ العربيين هو الهاجس الذي شغل بال الكثير، وهذا للتصدي لأشكال التغريب الاستعماري. فهل تمكن رواد هذه الفترة من تحقيق ذلك؟ أم أن ذلك بقى مجرد احتماء كما سبقت الإشارة إلى ذلك؟.

إن ما ينبغي تسجيله على هذه الفترة كونها، قد دشنت عهداً جديداُ ينم عن رؤية واضحة توحي بالانفاق. وفي هذا المجال وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نسجل محاولات "نعمات عاشور" رائد المسرح الاجتماعي ، التي أبدى فيها وعيه بمشاكل الشعب اليومية ، التي زاد من حدتها المستعمر ، وهي محاولات تحمل دعوات توحي بالإنفلات من الغرب ، وهذا من خلال محاولته في الخمسينات "الناس اللي تحت" ، ومحاولته في الستينات" الناي اللي بره" . والتي تدعو إلى إقرار الدموقراطية والحرية والتغيير الاجتماعي ، وهذا يتضح أيضاً من خلال اللغة المستعملة التي تقترب أكثر من الجماهير ، لتفض حدود النص الأدبي الذي ظل الفن الدرامي حبيساً في إطاره ولفترات طويلة.

وعلى نفس الاتجاه وإن كان بشكل آخر ، دأب "صلاح عبد الصبور" إلى الاتجاه إلى التراث الصوفي من خلال مسرحيته مأساة الحلاج" ، مع إدخال الفن الشعبي على مسرحيته، وهي محاولة كانت مؤهلة ليتقبلها الجمهور ، ما دامت تزاوج بين التاريخ والشعر هذا الفن الأخير الذي تقبله الجمهور لتجذر تربته في التاريخ العربي.

أن هذا الجرد التاريخي لا يهدف إلى التاريخ فحسب ، بل يسعى بالأساس إلى تجذير هذا الفن من خلال الاستفادة من الأشواط التي قطعها. ومن تم تجاوز ما هو كائن إلى ما هو ممكن على حد تعبير الباحث عبد الكريم برشيد".

بقى إلا أن نتساءل ، ما هى نهاية الطريق؟ وبالتالي استطعنا أن نمثل مسرحنا العربي. أم أن الفن الدرامي لازال يحتاج إلى نفس جديد ، وكيف يمحى تلك البداية الخجولة التي ظل ولفترات طويلة محاصر تحت رحمتها.

في الواقع إنها ليست سوى البداية ، وكشأن كل بداية لابد أن تكون محتشمة ومتذبذبة في آن واحد. وعلى هذا الأساس كان علينا أن تختزل تلك المراحل ونبحث عن انطلاقه جديدة ، من شأنها أن تعيد أو بالاخرى تسعى إلى التأسيس. وهذا يعني أن المسرح العربي لازال يبحث عن ذاته لتجاوز فترة المصادرة. فإلي أي حد استطاع المسرح العربي أن يكتشف هديته؟ وهل تحقيق هذا المشروع لابد أن ينطلق من فراغ ليبدأ من جديد أو يستفيد مما هو معطي؟ وهل من خلال نفسه أو من خلال الآخر أسئلة تحدث لنا الحرج بلا شك ، لكنها في الوقت نفسه تنير لنا الطريق.

لدخول مغامرة من هذا الحجم ولاكتشاف ما هو جديد ، علينا أن نجرب وهل في وسعنا؟

أم لازلنا نفتقد الوسائل للبحث عن التأسيس ، والتأسيس مرتبط بالتجريب. ترى ما هو التجريب؟ وما هي الارهاصات التي قطعها هذا الفن الجديد؟ ثم ما هي ملامح هذا التجريب في المسرح العربي؟

أسئلة ستجيب عنها بلا شك الفصول القادمة من هذا البحث، التي سيتولى جيل الستينات فما بعد تحمل عبئها. بالرغم من كونها ستتطلب منهم الكثير والكثير!!.

فهل تم لهم ذلك أو أن مسئوليتهم ستكون صعبة وشافة في نفس الوقت؟

قبل إعطاء تعريف حول مفهوم التجريب ، يجدر بنا القول أن المسرح العربي ظل لفترات طويلة يبحث عن نفسه ، حتى يمكنه أن يتخطى هويته المصادرة فهل أتيح له ذلك؟

أو أنه لازال ينقصه الشيء الكثير؟

انطلاقاً من المراحل الأولى للمسرح العربي، وقبل أن يدخل غمار التجريب ظل الفن الدرامي بعيداً عن الثقافة العربية. بدءاً مما كرسته فترة الترجمة أو الاقتباس التي أقل ما ننعتها بأنها اتسمت بمرحلة الضياع، كما أنه في مسيرته الموالية لم يكن ليبلغ هديته ، بالرغم من بحثه الدؤوب في التراث والذاكرة الشعبية. بل على العكس ظلت القوالب الغربية حاضرة أو شاخصة في جسده. وهي خطوة لا زالت تحتاج إلى نفس جديد يراعي كل الشروط والمكونات الكفيلة بتحقيق هذا المشروع. يقول الدكتور مفيد الحوامدة متحدثاً عن غربية الظاهرة المسرحية: "ولعل أسباب غربة  الظاهرة المسرحية بشكلها القائم عن الوجدان العربي، هو لا شرعية ولادتها في الثاقفة العربية. بل استقدامها من الغرب بشكل مكتمل. كما أردد مع الآخرين القول بأن استيرادها من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية، أدى إلى إجهاض الجنين الشرعي الذي كان يتطور بشكل أصيل في الثقافة العربية، أو بشكل أدق إجهاض جنبين شرعي كان ينبغي أن يكون قد ولد فيها، بعد أن حانت الظروف واكتملت".       

ذلك هو حال المسرح العربي قبل مرحلة الستينات فقد ظل بعيداً عن مقوماته ومكتسباته الذاتية ، بعدما كان يملك الوسائل لتمثل نفسه. لذلك جاء جيل الستينات ليعي خطورة الطريق الذي ينتظره، ويعمل على تكريس هذا المشروع. انطلاقاً من تجاوز ما هو معطي والتفكير في عملية التأسيس، لهذا كان  التوجه إلى التجريب. وفي ذلك يقول رضوان حداد: "حاول المسرحيون العرب من خلال التجريب تأسيس مسرح عربي أصيل معلنين ثورتهم على السائد. وظهر التجارب لا دعى أنها حققت المسرح الذي نريد ولكنها وهذه أضعف إيجابية استطاعت توجيه الفكر الجماعى وخلخلة المفاهيم ، وخلق قناعات بضرورة التغيير. وتأسيس الواقع الجديد. والإنسان الجديد، والثقافة الجديدة ضداً للثقافة المحلية التي ساهمت في احباطات الإنسان العربي على عدة مستويات.

وهكذا كان التجريب تحدياً صارخاً في وجه كل ما من شأنه أن يعكر صفو مسيرته الحقيقة ، التي كان ينبغي أن يسلكها، لخلق رؤية بناءة وشجاعة في آن واحد. ومن هنا يمكن القول إن التجريب جاء عن نتيجة للوعي بضرورة الانزياح عن المكرور الجاهز والبحث عن الجديد. وهو ما سيجرنا حتما إلى الإشارة إلى الإرهاصات التي بها المسرح العربي، ولكن قبل ذلك ، لابد من إعطاء مفهوم حول التجريب. ترى ما هو المعنى  الذي يمكن أن يحمله هذا المصطلح؟وهل احتضنته الثقافة العربية أو أنه فن وافد عنها؟ . لعل تتبعنا لهذا المصطلح يؤكد أن إعطاء تعريف جامع ومانع يبدو صعباً، بل على الأكثر من ذلك يشير البعض إلى استحالة إعطاء تعريف حوله. وفي ذلك يشير المخرج المصري رأفت الدويري قائلاً: "أنه لا تعريف محدداً للتجريب فلا نهاية لعمل المجربين. وبالتالي فإن تعريف التجريب مستحيل" (2)  وهذا ما يؤكد أن مصطلح التجريب لم يأخذ معايير ثابتة. وغير بعيد من الرأي السابق ، يقول الدكتور محمد شيحه: "التجريب يكشف أن هناك محاولات لتعريف التجريب، لكن هذه المحاولات لم تضع تعريفاً مانعاً جامعاً للتجريب. (3).

إلا أن طبيعة موضوعنا تفرض علينا إعطاء تعريف للتجريب. يقول المخرج المصري كرم مطاوع مقدما مجموعة من التعريفات: "والتجريب حالة من حالات الإبداع المسرحي" (4). التجريب رقبة في التطوير كحالة ثقافية وسياسية وفنية " (5). ويقول أيضاً: "المسرح التجريبي هو محاولة للتخليق فوق الواقع، وصولاً إلى تحقيق حلم التطور الفني الذي هو في الوقت نفسه ليس منفصلاً عن حلم الإنسان الذي يهدف الوصول لحالة أفضل" (1).

أما بول شاؤول فيتحدث عن معنى التجريب بقوله: "التجريب لحظة كاسرة ومكسورة مسبوقة وغير مسبوقة، وعندما تتكرر التجربة تصبح قديمة" (2).وعلى هذا الأساس فحركه التجريب مستمرة، تسعى دائماً إلى البحث عن الجديد. بغية تطوير القديم دون أن تلغيه انطلاقاً من البحث والتحصيل: "إن التجريب في الفن بصفة عامة، وفي المسرح بصفة خاصة، عبارة عن اقتراحات في مجالات الإبداعات المختلفة، اقتراحات يقصد بها خلخلة ما هو سائد من أجل فتح آفاق جديدة. وإثارة أسئلة جديدة والبحث عن صيغ جديدة للخطاب والتواصل " (3).  وغير بعيد من هذه الآراء السابقة نصادف تعريفاً لنسيم إبراهيم" التجريب في المسرح هو ارتياد لون جديد بغية الخروج عن المألوف الموجود للشعور بالتناقض مع هذا المألوف التقليدي، والإحساس بأنه لا يعبر التعبير الحقيقي عن رؤية المجتمع.. ومن هنا يكون التجريب هو سبيل البحث عن شكل ومعنى جديدين يكونان أكثر ملائمة وأكثر تعبيراً عن قالبنا وروحنا. وأكثر كشفاً عن تيمات حياة الشعب في غالبيته العظمى، ومفارقات هذه الحياة وتخديمها التخديم الفني الصحيح" (4).  وفي تعريف موجز   يكاد يجمع التعريفات السابقة يردف على شلش قائلا: "لعل أبسط إجابة هي: أن التجريب في الفن هو التجديد، أي كل محاولة للخلق والابتكار ينتج عنها جديد يضاف إلى الرصيد العام لهذا الفن أو ذاك" (5).

وخلاصة القول، إن التجريب هو حالة من حالات الإبداع، تتوخى تخطى السائدة والمكرور وصولاً إلى التغيير. لكنه بالمقابل تجاوز لا يلغى السابق بالمرة، بل يرصده ويضيف إليه في محاولة للتمرد عليه بغية تطويره. فهل هذا يعنى أن التجريب ينطلق من فراغ؟ ، أم أنه لا يقوم بمعزل عن هذا الواقع؟ سؤال يجدر بنا أن نطرحه، وعن كون التجريب ينطلق من فراغ فهذا غير وارد ، أي لا يمكن قيام تجريب في غياب هذا الواقع بمختلف مكوناته الثقافية والفنية والجمالية. التي يمكنها أن تطعم التجريب يرؤى وتنفسات جديدة وفي ذلك يشير الدكتور صبري حافظ بأن "الوعي لما يطمح إليه التجريب ليس بنفي القديم ، بل يفهمه وينظمه. لهذا فتحقيق عملية التجريب لا تلغى أي طرف في العملية الإبداعية بل على العكس، فإن كل العناصر تتظاهر بكل أشكالها ليصبح هذا اللون متكاملاً، لهذا يمكن القول إن التجريب جاء كمرحلة حاسمة وخطيرة في تاريخ المسرح العربي، وعياً بأنه يسعى إلى التغيير والتجذير، وبالتالي محاولة جبارة تتجاوز الجاهز والمكرور لا يتجاوزه كلية، بل بالاستفادة منه ومحاولة تطويره وبعثه من جديد، بتكييف ميكانزماته وشروطه، ولهذا الغرض جاء التجريب كمحل حقيقي يتوخى التأسيس" وعلى اعتبار أن التأسيس هو إقامة مسرح بصيغ جديدة، يكون من البداية أن كل عملية تأسيسية لا يمكن أن تنطلق من فرغ. وبالتالي تقوم على غير قناعة وشعور جاد بضرورة تغيير السائد.

وبهذا كان البحث عن قالب مسرحي متميز، هو الهاجس الذي شغل بال كثير من الباحثين سواء مبدعين منهم ، أم نقاداً أم منظرين. لأن تحقيق مشروع مثل هذا لا يمكن أن يقوم بمعزل عن الطرف الآخر. إذ لابد من تكاشف هذه العناصر لإعطاء دفعة جديدة نحو الجديد انطلاقاً من التجريب. ترى ما هي الإرهاصات التي قطعها التجريب، أو بالأخرى التي أحاطت به قبل أن يتخذ ممارسته الفعلية؟ هنا لابد من الإشارة إلى أن ثمة عوامل عديدة دفعت هؤلاء إلى التفكير في التأسيس لعل أبرزها شعور المسرحيين العرب بالحرج تجاه الآخر. ولذلك يمكن اعتبار مرحلة الستينات منعطفاً جديداً في تشكيل الإرهاصات الأولى لعملية التجريب، وهي محاولات على قرار سابقاتها كانت لابد أن تتأثر بالغرب، لا سيما وأن موضوع التجريب كان حديث العهد، حتى بالنسبة للغربيين، لكن ما يمكن الأخذ به ، أن ظروف الأول تختلف عن الثاني. ذلك موضوع سنتحدث عنه قبل أن نشير إلى بعض المحاولات التجريبية في العالم العربي، ستكون مصر أكثر حظاً باعتبار أنها ظل للممارسة الفن الدرامي. وعلى هذا الأساس شكلت مرحلة الستينات، مرحلة هامة في تاريخ المسرح العربي، إذ مثلت الإرهاصات الأولية للتجريب. وهنا لابد من الإشارة إلى التجارب الرائدة في هذا المجال، سواء على المستوى الإبداعي. أو النقدي، أو التنظيمي. ولتكن أول محطة مع توفيق الحكيم من خلال عملة الإبداعي "يا طالع الشجرة سنة 1962" . فهل وفق الحكيم في ممارسة التجريب والتبشير بميلاده؟ إن المتتبع لهذه المسرحية وبالرغم من التفاتتها نحو الجانب التراثي ، استناداً إلى توظيف الحكاية الشعبية، كمحك لهذه الممارسة التجريبية لم تستطع التخلص من التبعية الغربية، في أشكالها الفنية بالدرجة الأولى ، يقول الدكتور عبد الرحمن بن زيدان: "على أنه كان يتقدم بهذا الاتجاه بحذر شديد وتردد ووجل ، يدل على أنه لم يخرج من دائرة السحر الذي شغفه في التراث الغربي. وأنه لا يبدو مؤمنا أو متحمساً للقالب الاستقلالي الذي يصفه بدلالة أنه لم يطبقه في مسرحياته اللاحقة، كما أنه لا يترك فرصة إلا ويؤكد إيمانه بتفوق وتحضر النمط الغربي الذي ألفه ويقلده".  ذلك أن الحكيم بالرغم من توجهه هذا ، لم يستطع الانفلات من الوصاية الغربية على الأقل فيما يخص إقحامه للشكل الأوربي، وكأننا أمام مسرحية إغرقية لا يميزها عدا  الاسم . وقد تبلور هذا التوجه بشكل واضح من خلال دعوته إلى "قالبنا المسرحي" سنة 1966 . وإن كان في ظاهرة يغرينا بعمل تأصيلي فإنه على العكس، مما جعل الباحث المغربي عبد الكريم برشيد يقول عن هذه الدعوى: "وفيه يدعو إلى الصيغة المسرحية التي عرفت في المجتمع العربي منذ القديم ، وفي صيغة : الرواية المقلد الرواية المداح". لكن هذه الدعوة وإن كانت تستلهم التراث الحكواتي   إلا أن هذه المحاولة لم تنج من الصدام الذي فرضته الثقافة الغربية ، بل وأعلن الحكيم نفسه صراحة حين قال: "أنادي أيضاً بنفس الوقت بالاحتفاظ بالخط الذي سرنا فيه حتى لا ننفصل عن المركب الحضاري العام في جميع خطواته وتطوراته".

وهذا الزعم الذي ذهب إليه توفيق الحكيم مؤداه هو اللحاق بالركب الحضاري، لكن ذلك هل يتم بهذا الشكل؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال بودنا أن نضيف أن ما خلفته هذه التجربة أقل ما ننعت به أنها محاولة جريئة وخطيرة في آن واحد، كونها لم تستوعب الشروط والإمكانيات التي تحكم تجربة المسرح العربي. لأنها اكتفت بالنص الدرامي، دون أن تتعدى إلى ما هو أعمق . وهذا بالرغم من كونها ركزت على الجمهور بكسر الحواجز بين المؤدين والمتلقي. إلا أنها لم تستطع أن تتملص من جاذبية التبعية التي كان الحكيم مشغوفاً بها، وفي ذلك يقول مفيد الحوامداة: "أن التبعية لهذا التصور القائم كما يرى الحكيم هو دليل على الحضارة والتحضر، بل يجد فيه كل النفع لثقافة العرب في دائرة  التبعية".  فهل نجح الحكيم بذلك في تحقيق "القالب المسرحي" في جانبه التطبيقي ، لعل أبرز إجابة هي التي صاغها عبد الرحمن بن زيدان: "عندما نقول أن التطبيق هو المقياس الصحيح لتقويم مثل هذه الرؤية التنظيريه ، فإننا نقصد بذلك أن الحكيم لم يستطع أن يقنعنا بصحة هذه النظرية ، لأن الأصول التي صاغها من التراث الشعبي أصبحت مهتزة ومشوشة أثناء التطبيق العملي القائم إلى انتقاء ما هو غربي ليصبح مادة للشكل المقترح. أنه شكل غير عملي ، لأن الحكيم لم يستطع أن يصب فيه مضموناً وفكرا عربياً،. فالحكيم في إقدامه على الجانب التطبيقي في كتابه: "قالبنا المسرحي" في جزئه الثاني، جعل مسرحيات عالمية مادة للاختبار ليكون من خلالها رؤية عن الفكر والمضمون العربيين. أو ليس تراثنا غير قادر على استيعاب مثل هذا التطبيق؟ وتطالعنا في نفس الفترة محاولات تجديدية واعدة، دشنها يوسف ادريس: "وفي سنة 1964 ظهرت ليوسف ادريس في مجلة الكاتب بحث مطول يدعو فيه إلى إيجاد صيغة جديدة، وعنده أن الينابيع الأصلية التي يمكن أن تستمد منها هذه الصيغة هي: "السامر وخيال الظل والأراجوز "وبعد ذلك ظهرت له مسرحية" الفرافير" كمحاولة عملية تطبيقية لطروحاته النظرية".   وهي التفاته محمودة نحو الينابيع الأصلية، والتي من شأنها أن تخلق مسرحاً فعالاً في الأرضية العربية. فهل نجحت هذه الدعوة؟ أم أنها نحت منحى مغاير يبعدها عن الهدف المرسوم؟.

تلك وقفة سنحاول التصدي لها بعد أن نعرض لمجموعة من الآراء التي أثيرت حول تجربة يوسف ادريس. فكان أن تضاربت بين السلب والإيجاب ، وفي هذا الشان يقول كرم مطاوع "متحدثاً عن تجربته في هذه المسرحية" "ِأنها كانت تطرح مستويين متوازيين، الأول: المضمون الذي يشكل العلاقة بين السيد والمسود. والثاني: الشكل ومن خلاله ظهر تمرد إدريس على الصيغ الكلاسيكية والمسرح الأرسطي".  وهو طرح تبنته أيضاً الدكتور نهاد صليحة مشيدة بعمل إدريس: "تعتمد قيمة يوسف إدريس المسرحية على دعوته في التجديد ، إلا أن هذه الدعوة كانت مؤسسة على ثقافة مسرحية واسعة، والفرافير خير دليل، وِأنه عندما بحث عن الأصالة المحلية المصرية، استطاع أن يقيم جسوراً أوصلته بالتراث العالمي، وليس فقط تراث الكومديا الشعبية. وإن مسرح يوسف إدريس مستفز للذهن ولحظات البهجة فيه قليلة". 

فهل هذا يعنى أن التراث والعود إليه قادر على استيعاب هذه الدعوة؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مغالطة حاول من خلالها إدريس سد الفجوات التي وقع فيها؟.

ذلك ما سنحاول أن نجيب عنه من خلال بعض الآراء ، ولتكن البداية مع الرأي الذي ذهب إليه الدكتور على الراعي الذي يبدو أنه متحمساً لهذه الدعوة ، عندما ألح "على أهمية متابعة ودراسة أعمال يوسف إدريس المسرحية والتنظير لها، من أجل إيجاد مسرح عربي مصري، وهي تلك الدعوة التي حملها يوسف إدريس عندما قدم مقالته "نحو مسرح مصري" وفي مسرحياته التي بدأها" ملك القطن " اللحظة الحرجة" التي جاءت تطبيقاً لنظريته.

وهذا ما يدفعنا إلى الإشادة بأعماله ، بالرغم ما اكتنفها من نقائص. ويكفيه فخراً أنه حاول معانقة الإشكال التعبيرية البسيطة التي ترتد إلى أصول بعيدة، تعود إلى ما قبل السامر. والتي تعد بحق: "مؤشراً على ظهور وتصور جديد لدى المسرحيين العرب. يدفعهم إلى الانسلاخ عن الغرب وعن أشكاله الدرامية.. مما كان حافزا بأن يدفع العديد من الفعاليات إلى تمثل الفن الدرامي، وشحنه من جديد بتوجيهات مقبولة وواضحة: "لقد فتح يوسف إدريس باب التنظير بجرأة ، جعلت اللاحقين الذين جاءوا بعده يستفيدون من دعوته إلى مسرح السامر. لهذا ظهرت دعوة توفيق الحكيم إلى قالبة المسرحي ، وعلى الراعي إلى مسرح الارتجال ، وسعد الله ونوس إلى المسرح المفتوح أو مسرح التسييس. ثم عبد الكريم برشيد وجماعة المسرح الاحتفالي إلى المسرح الاحتفالي ، ودعا عز الدين المدني إلى المسرح التراثي، وفرقة الحكوات الشعبي وكذا فرقة الفوانيس والسرادق وصلاح القصب. ولا تزال الدعوات إلى مسرح عربي هي الهم المشترك".

وبغض النظر عن هذا المسار الذي اتخذه يوسف إدريس في إيجاد لبنة جديدة ، كانت لها كلمتها في الدفع بتأصيل المسرح العربي وتجذيره ، إلا أن ذلك ، لا يغض الطرف عن المزالق التي وقع فيها حينما أقدم على الجانب التطبيقي: "إنه ورغم أهمية التطور النظري الذي طرحه يوسف إدريس فإنه في نظرنا لم يبدع مسرحاً مصرياً خالصاً، ولا مسرحاً عربياً . لأنه حين طرح ذلك لم يستطع أن يتخلص من إطار المسرح الغربي بكل تقاليده الفنية…… بل إن المضمون الذي حاول استغلاله داخل شكله المقترح في: الفرافير ظل تعبيراً عن قضايا مغرقة في التجريد، داخل أجزاء عجائبية وفنطازية ساحرة فيها الحديث عن الحرية المطلقة بحوار جدلي يفتقد خفة روح وارتجالية السامر. إلا أن هذا الهجوم لا يمكنه أن يغض الطرف عن محاولة يوسف إدريس في إرساء دعائم المسرح. خصوصاً وأنها تزامنت مع ميلاد مسرح الجيب الذي ظهر سنة 1962 بإشراف من الدولة ، والذي كان يديره سعد أردش ، والذي لم يكن في مقدوره الوصول إلى ما كان منتظراً منه. لأن: "مفهوم التجريب الذي أعلن عن وجوده في الممارسة عن مسرح الجيب عام 1962، لم يتبلور بشكل واضح وجلى". ونفس الرأي تجده عند نسيم إبراهيم: " .. ولكن مسرح الجيب لم يلبث أن تجمد وتوقف عند حد التقليد والعيش على فتات الغرب، ولم يتقدم إلى الخطوة التالية. وهي التجريب في مجال اكتشاف القالب المسرحي المصري، وتهاوت رسالة مسرح الجيب".

ومع إخفاق مسرح الجيب في تأدية رسالته ، ظهرت دعوات أخرى في محاولة لتمثيل المسرح العربي على وجهه الأفضل ، فتمخضت عنها تنظيرات جديدة ، كالتي دعا إليها الدكتور/ على الراعي في: "الكومديا المرتجلة سنة 1967 ضمن فيها مجموعة من الخطوات أهمها الجمع بين القالبين السياسي والشعبي ، وإشراك الجمهور في العملية الإبداعية ، وتوظيف كل الإمكانيات الاحتفالية في الفن الدرامي. مع اعتماده على الأساليب الارتجالية للممثلين ، لخدمة الأبعاد الجمالية.

ترى هل وفق الدكتور/ على الراعي في البحث عن قالب مسرحي جديد؟ لنتريث قيلاً قبل الحسم في هذا الموضوع، وليكن سبيلنا بالتوسل لبعض الآراء الواردة في هذا المجال ، من وذلك ما أشار إليه الباحث عبد الرحمن بن زيدان: "أننا نرى أن مثل هذه الدعوة خصوصاً إذا وضعناها على محك التجربة والتحليل والمناقشة". 

فالاقتراح الذي جاء به على الراعي، يصب في الدرجة الأولى على إقضاء الكلمة في العمل الإبداعي. مما يجعله خاضعاً للارتجال والتلقائية. هذا ما يطرح أمامناً مشكلة غياب النص المسرحي، فهل يمكن الحديث عن عمل أدبي بدون نص؟ هذا لما لا نتفق فيه مع منظرنا العربي وأن كان تسوله بالطقوس العربية القديمة يقوم على إلغاء الحواجز بين الممثل والجمهور: "فالا رتجال إذن ليس مجرد تقنية فنية كما قد يظهر ، لأنه دعوة لإقصاء المقدس وذلك بحثا عن التحقيق المدنس. وإبعاد للكلمة الاهوت من أجل أن يحضر الجسد البشري الإنساني". 

هذا ما يجعل هذه الدعوة معرضة للجدل والمناقشة، كونها تستند على طروحات وافدة أرساها دلارتي فحاول معها الراعي أن يدمجها في المسرح العربي. هذا ما لم يكن مقبولاً ، سيما إذا وضعنا في عين اعتبار واقعنا العربي وما ينطوي عليه من خصوصيات فكرية لا تنسجم مع ثقافتنا العربية. وإن كانت في جانبها الفني لها ما يبررها.

ومهما تعددت الآراء واختلفت ، لا يسعنا إلا أن ننصف هؤلاء المبدعين الذين سعوا إلى تأصيل المسرح العربي على كافة مستوياته، وهذا بالرغم من أننا: "نجدها متناقضة وهي تقدم مشروعها أو رؤيتها للعملية المسرحية في إطار التجريب، وهذا التناقض في حذ ذاته مسألة إيجابية لأنه يعمق الجدل الثاقفي حول هذا المصطلح الوافد على المسرح العربي مع بداية الستينات ، كمرحلة عرفت كثيراً من التحولات والتبدلات في الوعي التاريخي العربي وما تركه من تأثير في الحركات الفكرية والثقافية والفنية بإنتاج أسئلة المرحلة ، والتي لا تزال تملك شرعيتها إلى الآن، لأنها تملك المحرك الأساس لمفاهيم التجريبية. 

وفي الواقع أن التجريب في المسرح العربي في بدايته الأولى، قد بدأ متأثراً بالغرب وهكذا حظيت أعمال صمويل بيكت باهتمام المسرحيين العرب، ومما جعله ذلك ما دعي إليه مسرح الجيب بمصر بترجمة مسرحية نهاية اللعبة سنة 1962 دشنت أول مغامرة تجريبية وإن كانت تدين أكثر للغرب. وعلى نفس النهج ذهب الطيب الصديقي إلى ترجمة عمل نفس الكاتب في انتظار جودو والذي استبدله بمسرحية في انتظار مبروك، وهي محاولات سعت إلى تجذير التجريب في المسرح العربي، بالرغم من شغفها بالنموذج الغربي: "أود أن أعلق على قضية التجريب هذه ، فقد بدأت حقيقة لتقليد الغرب ولكن الأمر لم يقتصر على هذا بل إن المسرح قدم  نماذج من المسرح الإفريقي والإيطالي ومسرح تشيكوف وغيرها".  

فهل هذا يعني أن التجريب في المسرح العربي بتقليده للطبابع الغربي يلغى تميزه؟ وبالتالي ينفي محاولة بحثه عن الذات؟ والواقع أن التجريب في المسرح الغربي: "ينطلق من الكفر في مفهومة الملائكي "الكفر بالمسرح التقليدي والمسرح السائد ، وهو كفر يتعدى المسرح الفن ليشمل كل الكفر التقليدي ، بكل ما فيه من المفاهيم والقيم الماضوية العتيقة".

أما في المسرح العربي فِإنه يتخذ منحاً آخر ليصبح: "التجريب بداية الطرق البحث عن صيغة عربية في المسرح".

فإذا كان الفن الدرامي في الغرب يسعى إلى هدم السابق والثورة عليه ، فإنه لدينا يتخذ صيغة أخرى يتوخى من خلالها التأسيس. لقد: "انبثق التجريب لدينا من تحليل الحرام جمالياً ، وليس دينياً".

كما يشير إلى ذلك عبد الرحمن بن زيدان وهو رأي لا يختلف عما أورده ممدوح عدوان: "الغرب يجرب كي يجدد، ونحن نجرب كي نجدر".يبقى لظروف نشأة المسرح التجريبي سواء في الشرق أم في الغرب خصوصيته وتميزه.

وهو ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، فإذا كانت لظروف الحرب العالمية الثانية، هي التي حركت المبدعين في الغرب إلى تقويض التقاليد الارسطية والذي كان نتيجة الشعور بالضياع، وما خلفته الحرب من هزات ونكبات على نفسية الإنسان الغربي الذي دفعته إلى التعبير عن "لا معقولية" هذا العالم وتفاهته. وهكذا ساهم كل من: يوحي يونسيكو الروماني الحنسية ، وألبيركامي الفرنسي وصمويل بيكت وغيرهم إلى الثورة ضد أشكال الإحباط الذي مارسته ظروف الحرب، وقد عبر عن ذلك يونسكو بقوله " إنني أشعر في بعض الأحيان أن العالم       

يبدو في نظري خالياً من المعنى، الحقيقة تبدو لي غير حقيقية والواقع غير واقعي.". 

أما بالنسبة للعالم العربي، فأن نكسة حزيران 1967 كانت مرحلة حاسمة في التاريخ فهي فترة المرارة التي تجرعها الإنسان العربي، مرارة الهزيمة التي هزت كيانه. لقد فقد كل شىء وهزم.

النكسة اتخذت أبعاداً أخرى ليكون البحث عن مسرح تجريبي أصيل هو الهم الذي كان ولا يزال يشغل بال الكثير من المبدعين العرب، وهذا لا يتأثر. 

يبدو في نظري خالياً من المعنى، الحقيقة تبدو لي غير حقيقية والواقع غير واقعي.". 

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن نكسة حزيران 1967 كانت مرحلة حاسمة في التاريخ فهي فترة المرارة التي تجرعها الإنسان العربي، مرارة الهزيمة التي هزت كيانه. لقد فقد كل شىء وهزم عسكريا واقتصادياً. فهل في وسعنا أن نصفع فكرياً؟ ذلك هو المنفذ الوحيد الذي يمكنه على الأقل أن يحفظ ما ء الوجه ترى ما هي السبل لتحقيق ذلك؟.

قبل الإجابة عن هذا السؤال ، وما ينبغي أن نؤكد عليه أن التجريب في محاولاته الأولى قد بدأت فعلاً محتشمة ، إلا أنها مع النكسة اتخذت أبعاداً أخرى ليكون البحث عن مسرح تجريبي أصيل هو الهم الذي كان ولا يزال يشغل ببال الكثير من المبدعين العرب، وهذا لا يتأثر طبعاً ، إلا بالاعتماد على المكونات المحلية التي يحفل بها الإنسان العربي، من خلال مخاطبة وجدانه وذاكرته الشعبية. حتى يكون التواصل مزدوجاً بين المبدع والمتلقي، بل وتصبح تلك الحدود ملغاة ، لذلك يبقى التفكير في الإنسان العربي رهانا في تحقيق خطاب أصيل.  

عسكريا واقتصادياً. فهل في وسعنا أن نصفع فكرياً؟ ذلك هو المنفذ الوحيد الذي يمكنه على الأقل أن يحفظ ما ء الوجه ترى ما هي السبل لتحقيق ذلك؟.

قبل الإجابة عن هذا السؤال ، وما ينبغي أن نؤكد عليه أن التجريب في محاولاته الأولى قد بدأت فعلاً محتشمة ، إلا أنها مارست التواصل مزدوجاً بين المبدع والمتلقي، بل وتصبح تلك الحدود ملغاة ، لذلك يبقى التفكير في الإنسان العربي رهانا في تحقيق خطاب أصيل.  

يبدو في نظري خالياً من المعنى، الحقيقة تبدو لي غير حقيقية والواقع غير واقعي.". 

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن نكسة حزيران 1967 كانت مرحلة حاسمة في التاريخ فهي فترة المرارة التي تجرعها الإنسان العربي، مرارة الهزيمة التي هزت كيانه. لقد فقد كل شىء وهزم عسكريا.

يبدو في نظري خالياً من المعنى، الحقيقة تبدو لي غير حقيقية والواقع غير واقعي.". 

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن نكسة حزيران 1967 كانت مرحلة حاسمة في التاريخ فهي فترة المرارة التي تجرعها الإنسان العربي، مرارة الهزيمة التي هزت كيانه. لقد فقد كل شىء وهزم عسكريا واقتصادياً. فهل في وسعنا أن نصفع فكرياً؟ ذلك هو المنفذ الوحيد الذي يمكنه على الأقل أن يحفظ ما ء الوجه ترى ما هي السبل لتحقيق ذلك؟.

وغير بعيد من هذا الرأي يذهب عبد الكريم برشيد إلى القول بأن: "المسرح الغربي يوجد الآن في زمن التأسيس، وهو مع ذلك ولو أنه في نقطة الصفر، له تاريخه وذاكرته. هذا التاريخ موجود أمامه وليس خلفه وبهذا فإن بناء المسرح لا يمكن أن يتحقق في غياب بناء الإنسان. لن نعرف حدود مسرحنا بدون معرفة حدود شخصيتنا وهويتنا. ". ومفاد هذا القول أن تأسيس مسرح عربي مغاير لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال الالتفاته إلى مكوناته الثقافية والتاريخية ، والتي هي موجودة لديه حتى يمكن لنا أن نخلص لهذا الإنسان الذي يصنع المسرح، وصنع من أجله هذا الفن. بالمقابل فهو توجه لا يلغى الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة. ووعياً منها بهذا المشروع، توالت التجارب في محاولة لخلق قناع التبعية، بعد أن حان الوقت لتأسيس خطاب مسرحي أصيل يستمد روحه من تلك القدورات التي أتيحت له بعد الهزيمة ، كما كانت الظروف مرشحة بالوعي بهذا الموضوع بل أصبح من الواضح أن رسالة المسرح لا تنحصر في بوتقة التسلية والضحك ، بقدر ما هي رصد لهذا الواقع وتعريته وركوب التراث والتاريخ العربيين باعتبارهما جسريين يوصلين إلى هذا السبيل. خلصت في نفس الوقت هذه المحاولات إلى أن المسرح لا يمكن أن يختنق. الصديقي يدعو إلى صيغ تجريبية واعدة: "حاول فيها أن يهرب من الحجارة بحثاً عن الناس".

وهو ما كرسه أيضاً من خلال أعماله "واد المخازن - المولى  إسماعيل - المغرب واحد – ديوان - سيدي عبد الرحمن المجدوب" وهي في مجملها تعتمد التراث كمحك حقيقي يتأتى معه للمسرح أن يخطو بتباث نحو انطلاقه جديدة.

وتقوم في مجملها على كسر الجدار بين الممثلين والجمهور، بخلق صيغ تواصلية كالتي نجدها مع الراوي والحلقة ، وهي محاولة لا تقل أهمية عما عمل به عبد الكريم برشيد في مسرحيته "عطيل والخيل وأبارود "التي ترجع إلى الأسطورة بجذورها، لكنها تبقى مرتبطة بالواقع حاول فيها برشيد أن يقيم مسرحاً داخل المسرح.

وقد توجهت هذه المحاولات لتحقيق الاحتفالية كمشروع تجريبي بالمغرب لتكون بذلك هذه التجربة: "أول نظرية في المغرب حاولت الاستجابة لضرورة تأصيل الظاهرة المسرحية، وذلك من خلال بياناتها وكتابتها التي تعلن عن النقلة الأصيلة في المسرح العربي عبر إثارة الأسئلة الصعبة المرتبطة بإشكاليته وتبعيته للغرب. وكذلك عبر اقتراح تصورات جديدة لوظيفته ومكوناته الأساسية المتجدره أصولها في الذاكرة الشعبية".

وفي نفس المرحلة جاءنا المبدع الجزائري "عبد الله ولد كاكي" من خلال مسرحيته "كاراكوز" بأشكال تعبيرية نافذة إلى التاريخ والحكاية الشعبية ، كالتي نجدها في ألف ليلة وليلة ، معتمداً على خيال الظل في تحريك شخصياته . وعلى المستوى الإبداعي أيضاً نسجل محاولات عديدة لكل من نعمات عاشور رائد المسرح الاجتماعي ، وألفرد فرج وعز الدين المدني وغيرهم. بالإضافة إلى أعمال كل من صلاح عبد الصبور "الأميرة تتنظر سنة 1969 ليلة والمجنون سنة 1970 بعد أن يموت الملك سنة 1973 وهي محاولات تتوخى الجمع بين التراث واستخدام الشعر بوصفة كيانا مقدساً لدى العرب. دون أن ننسى أعمال المبدع العراقي يوسف العاني في مسرحياته المفتاح سنة 1908 الخرابة سنة 1970 وهي محاولات رام من خلالها إلى الجمع بين الأسطورة والواقع، بجمعه بينما هو أسلوب تجريدي وواقعي.

أما على المستوى التنظيري ، فيمكن أن نشير إلى دعوات كل من المبدع السوري سعد الله ونوس في "بيانات لمسرح عربي جديد" سنة 1970 من خلالها إلى التسييس في المسرح. وهذا طبعاً بالموازات مع الأحداث التي عرفتها هذه الفترة في العالم العربي عقب هزيمة يونيو وقد كان صدى ذلك في دعوته التنظرية في مسرحيته الملك هو الملك وتقوم في مجملها بوعي منه على ضرورة مشاركة الجماهير العريضة بما فيها الكادحة منها في العمل المسرحي، وتكسير تلك القوالب الجاهزة رافعاً شعاره: " ينبغي أن نشحن لا أن نفرغ".   

كما حرص أيضاً على عقلة عرسان على الوظيفة الحقيقية التي ينبغي للمسرح أن يسير ، ومخالفاً في ذلك -  بريخت - الذي يرى المسرح في جانبية التعليمي ، إذ أعرب عرسان عن ذلك قائلاً في معرض حديثه عن المسرح: "يحب أن يحافظ على مقوماته كفن قادر على التثقيف، والتغيير أو التحريض على التغيير، لكنه لا يسخر كوسيلة دعائية إعلامية مع أو ضد. لأن المسرح كجهاز مرتبط بالثقافة وليس بالإعلام ، والإعلام كما تعرف جهاز تحرك قد يتغير بغير السياسات ، ولكن قيم الإنسان ثابتة وباقية تحتاج إلى عطاء أكثر التزاماً بالاستراتيجية الفكرية". 

وهي خطوة هامة نالى بها عقله عرسان إلى أن المسرح لا ينحصر في هذه المهمة الضيقة ، بل إن رسالته بالغة الأهمية من حيث قيمة الثابتة والسامية.

وبنفس الوعي حدا رياض عصمت إلى مفهوم الثورة في  المسرح. التي لا تعنى انقلاباً بقدر ما هي وسيلة لا غاية في حد ذاتها ، تسعى إلى تحطيم ذلك الجاهو. فهذه الإشارة ضمنته إلى خطوات التجريب ودعائعه إذ يقول: "أنه ليس سلاحاً انقلابياً ، وهو نادراً ما يؤدي إلى مظاهرة وإنما هو تفاعل بين إنسانين ، فنان ومتفرج ليبقى هذا المسرح الثوري تحطيماً للتقليدي والمألوف في الشكل والمضمون والإنتاج. وخروجاً عن المجالات الضيقة إلى الشوارع والساحات والأماكن الأثرية ، وهذا سيخلف مناهج حديثة أمام  الممثلين والمخرجين والمؤلفين العرب".

إن هذه الدعوات تكاد تتقرب في وحدة الرأي والأهداف ، يمكن أن تستخلص منها، أنها تسعى إلى تكييف كل المكونات الثقافية والفكرية للإنسان العربي، ومعايشة همومه وقضاياه ، انطلاقاً من كون  المسرح رسالة سامية ذات قيم ثابتة تسعى إلى معانقة الإنسان في قضاياه، متوسلة في ذلك إلى إيجاد قوالب وصيغ جديدة تتناسب مع طموحات هذا الإنسان، ولا نغترب عنه.

وكان لهذه الصيحات وقعها على المستوى الإبداعي، جسدتها العديد من الفعاليات الشابة في الوطن العربي، وهكذا توجت جهودها بميلاد العديد من الفرق والجمعيات المسرحية" السرادفات المصرية" - الحكوات الشعبي اللبنانية - الفوانيس. بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى التي ظهرت في هذه الفترة لا يسعنا المجال للحديث عنها جميعاً.

فهل مهمة المسرح العربي تنتهي عند هذا الحد؟ وبالتالي استطاع أن يرسم خطاه الثابتة؟ أم أنه لازال يحتاج إلى مكانيزمات جديدة تكون قادرة على هذه المهمة الكبيرة حتى يمكن للتجريب أن يحتوى على سوقه . ذلك ما سيتكفل به أحد الإعلام في المسرح في المسرح التجريبي وهو "السيد حافظ" هو الذي كانت عصارة جهوده هي التي بوأته هذه المكانة بدون منازع وحتى لا نسبق الأحداث ، سوف نفرد فصلاً خاصاً عن هذا المبدع لنؤكد أو ننفي ذلك. وهي فرصة ستمكننا من التعرف على بعض المحاولات التي تزامنت مع انتاجات السيد حافظ.

 

الفصل الثاني

قبل الحديث عن التجريب في مسرح السيد حافظ يجدر بنا أن نتوقف عند معرفة هذا الاسم، ترى من يكون السيد حافظ؟

لعل طرحنا لهذا التساؤل قد يكون من نافلة القول، ولكن نظراً إلى أن كثيراً من القراء في المغرب يجهلون إبداعاته، وبل وحتى اسمه. هي التي دفعتنا إلى هذه الوقفة.

في البداية لن تكون مغالين إذا قلنا أن السيد حافظ من رواد المسرح التجريبي. ليس في مصر وحدها بل يمتد إلى الوطن العربي ككل ، مما يجعله يقف في مستوى أعمال كبار المسرحيين العالميين. قبل أن نصدر هذا الحكم الذي قد يقلق البعض أو يزعجهم. لابد أن نتعرف إلى هذا الاسم ولو بإيجاز فالسيد حافظ من مواليد الإسكندرية بمصر سنة 1948 حاصل على الإجازة في الأدب والفلسفة ، له دبلوم في علم النفس العام بجامعة الإسكندرية. كما عمل مديراً لقطاع الدراما بالثقافة الجماهيرية بالإسكندرية بالإضافة إلى اشتغاله منصب مدير المسرح الطليعي. كما أشرف على الملحق الأدبي لجريدة صوت الأمة بأبي ظبي، ثم عمل مراسلاً صحفياً في الخليج بمجلة الوطن العربي الذي تصدر بباريس ومجلة الثقافة العربية. ويعود له الفضل في تأسيس المسرح التجريبى والمسرح الطليعي وجماعة الاجتياز بالإسكندرية. كما شغل منصب رئيس تحرير مجلة رؤيا بالإسكندرية إلى حدود سنة 1990. ومن جملة أعماله:

-    كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى 1970.

-    حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث 1971.

-    الطبول الخرساء في  الأودية الزرقاء 1971.

-    والله زمان يا مصر 1973.

-    حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان 1979.

-    هم كم هم ولكن ليسواهم الزعاليك 1979.

-    ظهور واختفاء أبي ذر الغفارى 1980.

-    الحانة الشاحبة العين تتنظر الطفل العجوز الغاضب.

-    حبيبتي أميرة السينما 1982.

-    حكاية الفلاح عبد المطيع 1982.

-    سيزيف القرن 20: 1991.

            ولم يقتصر جهد مسرح السيد حافظ على الكبار، بل توجه إلى الأطفال إيماناً منه بالدور التربوي والإصلاحي الموجه إلى تنشأ الأجيال الصاعدة ومن بين إبداعاته في هذا المجال.

-    مسرحية الشاطر حسن 1983.

-    سندرلا 1984.

-    سندس 1985.

-    فارس بنى هلال 1987.

-    بيبى والعجوز 1988.

-    حكاية لولو وكوكو 1990.

بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى، ولم يتوقف دوره على الكتابة المسرحية، بل امتد إلى الإخراج المسرحي، منها مسرحية الزوبعة لمحمود دياب، والحبل ليوجين أونيل، وسهرة للمقاومة لمحمود درويش وسامح القاسم.        

دون أن ننسى إسهاماته في مجال القصة، ومنها مجموعاته القصصية سيمفونية الحب.

بعد هذه الإشارة الموجزة إلى حياة السيد حافظ وأعماله، يجدر بنا أن نشير إلى الظروف التي أحاطت بإنتاجاته، وبالتالي ساهمت في بلورة أعماله الإبداعية، لأن أي مبدع وكيفما كانت طبيعة أعماله لابد وأن تتضافر مجموعة من الظروف تؤثر سلبياً أو إيجابياً على مسيرته الإبداعية.

من المعلوم أن السد حافظ اقترن زمن ولادته  بسنة 1948 وهي فترة يوحي الشيء الكثير فهو تاريخ: "محصور بالدمع والدموع في السجل المعاصر للأمة العربية بحروف من دل وعاره: ضياع فلسطين، وقيام اسرائيل تحقيقاً لوعد بلفور ولأحلام التلمود.    

وقد شهدت الساحة العربية بعد هذا التاريخ ، مجموعة من التحولات مع نهاية الستينات لعل أبرزها هزيمة حزيران 1967. وبكل ما أفرزته من تناقضات أعلنت عن هشاشة الواقع الساسي العربي المتردي، والذي كشف عن زيف الأنظمة العربية التي كانت تلهث نحو الحقيقة المزيفة والمشوشة. والتي زادت من محنة الإنسان العربي وهو يتجرع مرارة الهزيمة ، في الوقت الذي كان ينتظر من هذه الأنظمة اتخاذ إجراءات فعالة وملموسة يكون في مستوى الحدث إلا أنه سرعان كما اكتشف عكس ذلك إذ ما فتئت هذه القيادات تتستر وراء الشعارات الكاذبة والمزعومة، وهذا ما لم يكن كفيلاً بأن يلخص مزاعمها. بل ودشنت مع مرور الوقت تواطئ مع الامبريالية إليه والصهونية.

ساعتها  لم يكن الشباب العربي المتحمس بمعزل عن هذه الأوضاع لهذا تعالت صيحاته للكشف عن هذا الواقع المزيف والمتردى في آن واحد.

وعلى العموم يمكن القول أن النكسة بقدر ما أعلنت عن التراجع العربي، ممثلة في أنظمتها في القدر الذي حمست الإنسان العربي الطموح والتواق إلى الخلاص والحرية، هذه الظروف تظافرت كلية على السيد حافظ بوصفة يمثل هذا الشباب المتذمر الذي توالت عليه العديد من الهزات: "فكاتبنا إذن من جيل عاش صباه ويعيش شبابه ملتاعا يكتفي بسلسلة من الهزائم الوطنية والقومية، وكان من الممكن أن يعيش عصر التحرر، والاشتراكية والعدالة، والعتق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة وما حاربت من أجل الخلاص منه أجيال 1919 – 1946وما قامت من أجله ثورة يونيو 1952 وما تلاها من ثورات في الوطن العربي..    

ومفاد هذا القول أن هذا الجيل الطموح جيل ما بعد النكسة. والذي ينتمي إليه السد حافظ ، في الوقت الذي كان يحلم فيه ببزوغ الحرية والعدالة، بأن تراجع الأجهزة الحاكمة أوراقها من جديدة نجد فيه هذه الأجيال محاصرة بأوضاع مزرية ، بعدما أن غلقت في وجهها كل المبادرات التي تتيح لها الفرصة بأن تعبر عن همومهاً ، بل والأكثر من ذلك صار الشعب - بشرائحه المغلوبة على أمرها -  معرض لمجموعة من الانتهاكات التي تقبر أحلامها.

فكان أن أدى ضريبة التجاوزات التي ما فتئت هذه القيادات تسعى وبدون عناء لممارساتها.

هذا ما يدفعنا إلى القول إن السيد حافظ من خلال أعماله، قد وجدت هذه الأحداث بزخمها أن يعبر بفكرة الصاخب عن الحاجة بالتعبير عن قضايا الخلاص وإقرار العدالة الإجتماعية والتي كانت تأخذ حصيلة الأسد في جل أعماله. فإذا كان جيل الستينات قد تخصص للتجربة الاشتراكية الناصرية ، فإنه على العكس من جيل السبعينات الذي كانت توجهاته أكثر نحو قضية الديموقراطية: "ومن هنا كان غياب عامل التحرر السياسي الداخلي والممارسة الدستورية خاصة في فترة التحديات الداخلية والامبريالية قمينا بأن يدفع جيل السبعينات لأن يهتم بالديموقراطية أكثر من القيم السياسية الأخرى".

وهذا طبعاً في خضم هذه الأحداث التي طرأت على الساحة العربية، لقد سقط رمز الزعامة وأصبح العمل الواعي والمسؤول من لدن الجماهير العربية هو السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة، حتى يمكن إصلاح ما تبقى ، من هنا أصبحت هذه القضية تطفو على السطح أكثر من القضايا الأخرى. وإذا كان السيد حافظ ينتمي إلى جيل السبعينات فهل هذا يعني أن ثمة قطيعة أحدثها مع جيل الستينات؟ وهو سؤال يتبادر إلينا وهذا بالموازاة مع الأحداث والمستجدات التي برزت على الساحة السياسية ، والتي ستؤثر على المجال الثقافي.

من هنا يمكن القول إن التجريب عند السيد حافظ وإن كان صداه يعود على بداية الستينات ، الذي اتضح خاصة مع أعمال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وتنظيرات على الراعي وغيرهم. إلا أن هذا التجاوز قد تعمق أكثر مع جيل كاتبنا مما جعله يتبوأ مكانة متميزة ليس على المستوى المحلي في مصر فحسب ، بل على المستوى العربي، كما جعله ينفرد عن بقية المحاولات التجريبية السابقة والتي تتوسل بتلك الازدواجية بين التأصيل والتغريب مما يجعلها تتسم الخجل والتعثر.

إن ما يجعل السيد حافظ يحتل هذه المكانة، هو تتبعه لتلك الظروف والأحداث التي عرفتها مصر والعالم العربي. بل وامتدت تجاربه لتترجم كل الأوضاع بتقلباتها ، فمحاولاته لا تحصل همم الإنسان العربي وحده بل تنسحب على الإنسانية ككل: "والسيد حافظ من الكتاب الذين يجعلون مسؤولية الغد على أكتافه وفي أعناقه فهو يخوض غمار معركة الحق والحقيقة والأشياء الخالدة: وهو يرفض أن يكون ملتزماً بالأفكار المجردة أو باطاله التفكير المجرد. فمسرحة يتكلم عن كل الأزمان الإنسانية فهو يتكلم عن قضايا إنسانية متعددة.  فقد سعى بتجاربه لتغطية كل ما يشغل الإنسانية، وما تعيشه من معاناة من خلال التنديد بالوضع الراهن ، الذي يغلب عليه التناقض وانعدام المساواة ، بل وواكب عن كثب كل ما من شأنه أن يشل حركة الإنسان مما يجعل أعماله تتميز بالخلود كونها تثير مجموعة من القضايا التي تهم الإنسان ككل ، مادامت الحرية حقاً جماعياً. ومن ثم سار السيد حافظ بمواقفه الشجاعة في محاولة لتعرية هذا الواقع على مختلف الواجهات: "إن السيد حافظ من كتاب المسرح الإنسانيين ليس بنزعته نحو العدالة في الحياة فقط، ولكن اندماجه هموم الحياة العربية ككل، في تعبها الإنساني والمحاولة العاجزة عن خلق نظام يحقق مجتمعاً جديداً تتحقق فيه سعادة تمسح التعاسة والاندحار في أعماق الإنسان العربي السيئ الحظ".

فبقدر ما كان  الوضع متخصصا بالتناقض بقدر ما كان السيد حافظ قريباً من مواكبة الإنسانية في همومها. فإذا كانت كتابات رشاد رشدي مثلاُ في نفور الفترة تدعو إلى الترويج للأفكار الساداتية، كالدعوة إلى إحقاق السلام والتي جاءت في الواقع لإخفاء ستار معاهدة "كامب ديفد" التي جاءت لترسم التراجع الذي وقعه النظام الحاكم. وهذا ما جعل نعمات عاشور يتحدث عن تجارب رشاد رشدي، ومن سار على هدية: "يأخذ رشاد رشدي وتلاميذه بزمام الأمور للحلول محل مسرح الستينات بقطاعه العام بمسرحيات تكتب للمناسبات السياسية الساداتية كالدعوة إلى السلام ومقاومة الاتجاهات التقدمية والترويج للانفتاح".

وهي صورة للمسرح وما آل إليه، بأن انحسرت رسالته في تمرير الخطابات السياسية الباهتة والخالية من كل المحتوى. في وقت كان على  المسرح الجاد تجنب السير بخطوي ثابتة إلى رسالة المسرح الذي لا زال يبحث عن ذاته. وهكذا اتجهت بعض الكتابات إلى المغالطات وهذا ما فعله "فوزي فهمي" الذي أتجه إلى مسرح الهروب باللجوء إلى التراث اليوناني الذي لم يكن كفيلا بأن ينفض غبار التبعية بقدر ما كان يتشبت لها: وقد علق نعمات عاشور على مسرحيات فوزي فهمي مقولة: "هي مسرحيات تتنمى في المقام الأول إلى جيل يحمل فكرة الثرثرة والجدل السوفسطائي العقيم المفلس أي أكثر مما تحصل أي فكر آخر.  

وهي سمة كانت تميز جل معاصريه السيد حافظ هذا ما حمسه أكثر للدخول في مغامرة التجريب، وبالتالي الإعلان عن التصدي لكل أشكال الإحباط التي حاولت الجهات المعنية بالشؤون الثقافية التصدي لكل المحاولات الهادفة إلى الكشف عن الواقع، لكن السيد حافظ بجرأته المحنكة استطاع أن يتجنب المزالق التي وقع فيها معاصروه بأن رفع شعار التجريب للبحث عن قوالب جديدة من شأنها أن تشحن المسرح العربي بتنفسات جديدة.

فالأوضاع السياسية لم تكن وحدها شغل السيد حافظ بل كان للحياة الثقافية آثار جعلته إلى البحث عن جديد، لما يقدم في مسارح القطاع العام والخاص والتي أصبحت منصة للضحك والتسلية. وبالتالي يمكن القول إن الحياة الثقافية لم تكن أحسن حالاً مما آلت إليه الأوضاع السياسية: "إن تردي السبعينات لم ينعكس على المسرح فقط، وإنما امتد إلى كل مظاهر الحياة الثاقفية الأخرى……ولأن المسرح كان أكثر حساسية من غيره فقد انعكست عليه كل المظاهر السلبية الأخرى". ذلك أن المسرح هو الوحيد الذي بإمكانه أن يعبر عن آلام وطموحات الإنسان المصري بالرغم من الوسائل التي اتخذتها الدولة للحد من نشاطاته انطلاقاً من الرقابة المفروضة على كل النصوص التي كانت تحمل أفكارا ثورية وهكذا فقد المسرح رسالته المنوطة به وكان هذا حال مسرح القطاع العام والخاص الذي وصل إلى طريق مسدود: "يضاف إلى هذا كله أن مصر كانت تعاني ليس فقط من جملة التحولات السياسية والاجتماعية المتردية ، وإنما أيضاً من وجه المسرح التجاري الرديء الذي كان يلعب دوراً مناقضاً لدور المسرح ورسالته الإيجابية". وهو أمر اتضح من خلال الأعمال المقدمة في هذا الإطار ، والتي كانت تبحث عن الضحك الرخيص وبهذا أنحسر المسرح في شبابيك التذاكر: "وقد هبط المسرح إلى الحضيض أو كان فقد وقع المسرح العام في براثن الجمود والروتين ، وتصلبه في قوالب من التقليدية والتقليد. مما جعل الكثيرين ينقضون من حوله، وأما مسارح القطاع الخاص فتندفع وراء الألوان السياحية العالمية والهازلة والتي تلعب على أوتار غريزية في الإنسان".  

وهو حال لا يمكن أن يكتب عليه المسرح، بل ويدعو من جديد إلى إعادة النظر فيما يقدمه، وهي صورة يكاد يوجد عليها المسرح في كافة الوطن العربي ، الذي ما فتئ يلهف نحو الربح ، وبذلك كان المسرح وسيلة للهو فقط.

وهكذا اتجه السيد حافظ إلى الخليج لمواصلة عمله الإبداعي ، بعدما أدرك أن الوضع الذي وصل إليه حال المسرح لا يسر، بأن وقع في أيدي طفيلية لم تكن في مستوى تمثيل مسرح  جاد وحقيقي . هذا ما جعل الفن الدرامي يشرف على انهيار تام أو مرتقب: "وتناهي إلينا لأول مرة غياب النقد المسرحي وغياب النص المسرحي ، وبدأت تطل علينا أزمة المسرح الجاد. بدأ انحسار المسرح الجاد، وازدهار المسرح التجاري". 

وهو أمر تواصل إلى حدود الثمانينات بعدما فشل مسرح الالحي في تأديته رسالته الحقيقية.

في حين اتجهت بعض أعمال الهواة في  الوطن العربي، إلى الطرح المباشر والشعاراتية، وهذا ما يجعل جل أعمالهم تسقط في المباشرة التي تقوم على التحريض وبالتالي يصبح الجمهور عرضه للتغريب ، وهذا ما يتعارض مع رسالة المسرح باعتباره تلميحاً قبل أن يكون تصريحاً. وهو ما يحيلنا على التركيز على  الجوانب الجمالية التي تطفي على الفن الدرامي طابعاً متميزاً، وهذا ما أكده الباحث/ مصطفى رمضاني في معرض حديثه عن الاحتفالية الرائدة في مجال التجريب: "وإذا كانت الاحتفالية ترفض كل تركيز للمسرح على الخطاب الايديولوجي ، فقط فأن ذلك لا يعني أنها لا تملك موقفاً أيديولوجيا من الصراع الاجتماعي. فكل بياناتها تلح على أن يكون المسرح مؤسسة شعبية يساهم فيها الشعب بكل مكوناته الفكرية والأيديولوجية، إلا أنها ترفض أن يقوم هذا المسرح على الأسلوب الشعاراتى وعلى  التحريض ، لأنه أسلوب يستفز المتلقي من خلال قنوات تستهدف التأثير العاطفي".   ذلك بأن المسرح ينفر من الإشكال الأيديولوجية الساذجة التي تعتم رؤيتها تلك التوجهات والتي لا تأخذ بعين الاعتبار جانب الجمهور كفعالية إبداعية واردة في الفن الدرامي.

هذا بالفعل ما احتاط له السيد حافظ وحاول أن يتجنبه ، وعياً منه بالتعبير عن اليوم بطريقة فنية تعي شروط التجريب: "لأنه كلما عبرت الكتابة الدراسة عن زمن حياتنا المعقدة بزمن مسرحي ساذج وتبسيطي أصبح مسرحنا تافها وغير محتمل".  

وانطلاقاً من هذه الظروف التي عاشها السيد حافظ ، والتي طبعها التناقض والتدهور، فقد كانت كفيلة بأن تدفعه وباحتراز لاقتحام ميدان التجريب تعبيراً على أشكال الإحباط الذي عم جميع المستويات خاصة في ظل هذه الفترة ، والتى امتدت بظلالها إلى المسرح بشكل أخص: "إن تردي السبعينات لم ينعكس على المسرح فقط، وإنما امتد إلى كل مظاهر الحياة الثقافية الأخرىولأن المسرح كان أكثر حساسية من غيره، فقد انعكست عليه          كل المظاهر السلبية".   

والواقع أن التجريب وإن كانت حدوده تعود إلى فترة الستينات فإنه لم يتبلور إلا بشكل واضح إلا مع فترة السبعينات ، كان السيد حافظ أحد الوجوه البارزة التي ساهمت في بعثها. والآن بقى لنا أن نتساءل ، هل هذه الظروف المتردية هي السبب الرئيس التي دفعت بالسيد الحافظ إلى اعتناق هذا اللون الجديد؟ أو أن ثمة عوامل أخرى ساهمت سواء من قريب أو من بعيد من ذلك؟.

وكيفما كان الأمر لا يمكن أن ندعي أن هذه الظروف وحدها هي الحافز الأساسي للسيد حافظ في محاولاته بل تطافرت عوامل أخرى دفعته لركوب التجريب، أبرزها نمطية تلك  الأشكال التقليدية التي هيمنت على الكتابات المسرحية. وبذلك اختط لنفسه منهجاً متفرداً يقوم على التوفيق بينما هو فكري وجمالي، وتلك هي دعامات المسرح التجريبي أو الطليعي: "إن من خصائص المدرسة الطليعية ، التمرد والثورة على قوالب وفتور المسرح القديم أو الكلاسيكي وأيضاً رفض للمدرسة الطبيعية الواقعية. إن موقف التمرد في إبداع الكاتب يتجاوز الإطار المألوف عن الواقع ويخوض في العقل الباطن ، وعالم اللاوعى واللامعقول. 

آية ذلك أن المسرح لابد وأن يكيف كل الشروط التي من شأنها أن تخلق عملاً متكملاً ، يستجيب لضرورة الواقع وفي محاولة لتطويع الجوانب الفنية التي تسير بمحاذاة مع الجوانب الأخرى.

وخلاصة القول. إن السيد حافظ لم يكن محظوظاً في بيئته بعد أن تصالحت كل الأوضاع على السير في طريق لا يبعث على الارتياح. وهو ما دفعة للتعبير عن سخطه، وعياً منه بمسئولية الإنسان العربي الحق: "إننا لسنا سوى كم هائل من التناقض والقلق والفكر الغريب . تغطية سحابة كاذبة تدعى أننا وأننا…"

وفي معرض حديثنا عن التجريب في مسرح السيد حافظ وحتى لا يكون حكمنا مسبقاً يتحتم علينا أن نستأنس بما خلقة هذا المبدع، لتتضح لنا الرؤية بشكل دقيق. ولتكن الانطلاقة من أول تجربة له والتي صدرت سنة 1970 تحت عنوان "كبرياء التفاهة فى بلاد اللامعنى" والتي تبدو غرابتها انطلاقا من العنوان الذي وضع لها، بل ومن أبطالها أنفسهم (مذيع ومكروفون يشاركهما زوجة وإبرة وفانيلة شاب ومثلاثات وفينالة شاب ومن أبطالها أنفسهم (مذيع مكروفون يشاركهما زوجة وأبرة وفانيلة شاب ومثلاثان وفينالة شاب ودائراتان وفانيلة.. كلب وكرة وسلة) يلعب فيها المذيع شخصية البطل الرئيسي في هذه المسرحية: "فالشخصية في المسرحية ليست محددة تحديداً كلاسيكياً .. وهي كلها تنطلق وتدور لتخدم الشخصية المحمورية في العمل، شخصية المذيع الذي فقد مواهبه وإمكانته ونتيجة لهذا فقد لجأ البطل إلى العمل الإبداعي عله يمتص حنقه الشديد على وضع يبغضه". وهي مغامرة تنبوعن توجهات السيد حافظ الذي ما فتئ يعلن فيها عن تفاهة هذا العالم، ليصبح الكبرياء شيئاً يضمحل مع هذا الواقع الجديد الذي ترجمه المذيع في صراعه مع زوجته ، حمل من خلالها تذمره من الواقع الثقافي الذي لم يعد معه مجال للمصالحة. للتتبخر آمال المذيع وطموحاته بعدما كان يعلق عليها الكثير، لكنه اصصدم بظروف أقوى منه. لتبرز التفاهة ويسقط الكهرباء.

وبالموازاة مع هذه التجربة الفريدة من نوعها ، فقد كان من الطبيعي أن يسيل الكثير من المداد ، لتفرز عاصفة من ردود الفعل نظراً لخروجها عن المأولف، وعلى هامش الندوة التي أقيمت حول هذه المسرحية يقوم "على سالم" من المنصة ويقول: سامحوني لا أستطيع أن أجلس على هذه المنصة ، ولا أناقش هذه المسرحية أو ما يسمى بالمسرح التجريبي. إنه تخريب في المسرح وبعقلية الجمهور، ولن يقدم هذا العمل ، إنني لو حكمت لطلبت إطلاق النار على مثل هذه الأعمال. لقد كان فعلاً محكا حقيقياً يؤكد أن هذا الكاتب سوف يهز العالم بإنتاجاته التي جاءت من بعد فكان من الطبيعي أن تثير هذه المغامرة أفعال متباينة وهذا ما أوضحه ممدوح بدران بقوله: "إن السيد حافظ المتمرد على واقعة ، الرافض أقبية التقليد، يعد مغامراً جريئاً يعطي كل نفسه ويبدل كل طاقته، باحثاً في هذا الواقع المتخم بالتكرار عن حياة جديدة ، وتنافسات جديدة لكن الواقع دائماً يرفض المغامرين في زمانهم".        

فالبحث عن الجديد كان هو السعي الذي طمح إليه السيد حافظ. ومهما تعددت الآراء واختلفت ، فإنه يكفيه فخراً هذه الشهادة التي أدلى بها الأسباني "حوزيه صوبر" في حقه" إن الرؤية الإبداعية الخلاقة التي أشاهدها اليوم، إنما تعبر عن كاتب (السيد حافظ) مقتدر موهوب وأنه لو ترجمت أعمال هذا  الكتاب الطليعي إلى اللغتيين الفرنسية والإنجليزية ، فسوف تهتزله أروبا وأمريكا وسوف يكسب المسرح العالمي كاتباً عربياً عالمياً وسوف لا تقل أهمية وجوده في المسرح العالمي عن صمويل بيكت ويونسكو).

إذا كان هذا أول عمل يقدمه السيد حافظ بالقدر الكبير من النجاح ، فماذا عسانا أن نقول عن بقية أعماله اللاحقة؟ فكانت الجرأة والطموح هي التي بددت كل المتاعب سعيا إلى تلك النزعة الإنسانية والكلمة الهادفة التي طبعت أعماله. إذ يقول محمد جبريل موجها الأسئلة إلى  السيد حافظ: "فلمن تكتب؟ للإنسان -  الكلمات التي تريد توصيلها؟ الضبط هي أعمالي .. الكلمة الرفيق - الكلمة التطهر -  الكلمة الشمول.

وبذلك أعلن ومن خلال هذه التجربة ، رفضه للجاهز في سبيل البحث عن الجديد ليسير في خطى ثابتة من أجل تطلعات جديدة لتجعله متميزاً عن باقي المسرحيين الغربيين "مثل تشيكوف ، مثل  يونسكو، لكني إنسان مرسوم في معبد آمون محفور على جبهة التاريخ أسطورى الملامح باهت التقدير. أرفض لوني وصورتي على الحائط أتمرد بخلق ، وكل رحلة أتجاوز: فعشيقتي إيزيس تهبني في كل رحلة سراً من أسرار الحقيقة تهبني رفضاً منقوعاً في شريان الوعي".  فقد كان المسرح بالنسبة له: "الهوية ، الجيتار القصيدة الباخرة كان المسرح هو  الأجراس التي أدق بها أذن البلاد الغارقة في الغيبوبة".

فكانت عصارة جهوده أن توجت بمسرحية أخرى تحت عنوان: "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث" . أثار من خلالها التناقضات التي عرفها المجتمع المصري ، خلال الحرب العالمية الثانية ، والانقسامات التي أصبحت تتربص ، بين معارض مؤيد للاستعمار، وبين متقدم لذلك بواسطة سكوته ومحايدته . ليخلص السيد الحافظ إلا أن الأمر في الحالتين الأخيرتين يعود سلباً على المجتمع المصري. ولعل اختياره للمخبئ الوهمي الذي تدور فيه أحداث هذه المسرحية ، ليشير إلى الزيف الذي انتاب التاريخ وهو يتسم مع وهمية هذا المكان التي تطابق وهمية هذا العالم إذ: "قد يكون الكاتب أوردها رمزاً للتاريخ الذي يراه قد فقد منطقة ونطقه وقتها".  وهي طبعاً إدانه للمسالمة التي كان الصراع. وِأهم ما يميز هذه التجربة هو عمق المنحي التجريبي لدى الكاتب خاصة فيما يتعلق بإدانة الزعامة المزيفة التي خيبت آمال الشعب المقهور مقبول رمز هذه الزعامة والتي تكون تنسحب أيضاً بعد هزيمة يونيو.

وفي نفس السنة أي 1971 صدرت له مسرحية: "الطبول الخرساء في الأودية الزرقاء" يضرب من خلالها السيد حافظ فى أعماق التجربة إلى أفريقية حيث تدور أحداث هذه المسرحية بإحدى المستعمرات إذ فيها: "رؤيا عامة لقضية العدالة الإنسانية ، فليس المهم أن تندلع ثورة تغيير الواقع وتقوم على إثرها التشريعات العادلة إن المهم من كل تغيير يكمن في النتيجة ، وليس لما يجري من تغيير". ذلك أن التغيير يكمن فيما هو مطروح لإيجاد تغييرات حذرية لا تقوم على متغيرات شكلية ، وبذلك يركز الكاتب على الجانب العملي . وقد أورد هذه المسرحية باللغة الفصحى لأن قضية العدالة الإنسانية قضية عالمية لا تقتصر على فرد دون آخر.

وفي: "6 رجال في معتقل  500 شمال حيفا" تدور أحداث هذه المسرحية بأحد السجون الإسرائيلية، حيث يجتمع فيه الأسرى الستة، كل ثلاثة منهم يمثلون طبقتين متباينتين: الأولى تمثل الطبقة الأرستقراطية ، والثانية تنحاز إلى الطبقة الكادحة. لينتهي في آخر المطاف السيد حافظ ومن خلال اعتماده على تبيان علاقاتهم مع بعضهم ومع السلطات الاستعمارية: "يرى أن الخلاص لا يكون إلا على أيدي الفدائيين الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة".  أي أن تحقيق الخلاص لا يتم إلا داخل الأرض المسلوبة. ولعله إدراك بعدم جدوى محاولات هؤلاء الجنود، حتى يكونوا في مستوى الحدث ، ما دامت الصراعات الهامشية تفتت أحلامهم. ولعله سعى من ذلك إلى شجب الوضع الراهن الذي أصبح كابوسيا في كل أصقاعه ، إذ تقول ضياء:

الليل بيزحف على البلد ذي الكابوس.

الليل جاسوس الغيم جاسوس حتى القمر جاسوس.. 

ودائماً في إطار متابعته للقضية الفلسطينية ، ينقلنا السيد حافظ إلى مدينة شاحبة قد تكون فلسطين تتنظر من يخلصها من براثن الاستعمار وهذا من خلال: الحانة الشاحبة العين.. "ولكنها تبقى مجرد حلم يقع في يد طفل شاخ وهو ما يزال في الصبا، وهو ما يعكسه ذلك الجدال الدائر بين أبطالها، والذين يبحثون عن خلاص، ولكنهم ينتظرون من يقودهم إلى ذلك وقد سعى السيد حافظ من خلال هذه المسرحية إلى الحديث عن: "قهر الإنسان ومحاولة التخلص من هذا القهر والهزيمة والثورة على الوضع المزيد فيختار مجموعة من الشخصيات يتجادلون بالكلمة المناضلة لمعرفة الأسباب والثورة عليها. إن الحل لابد من تطهير الداخل حتى يتم تطهير البلاد من الغريب الذي يربض على الأرض ويشل مقدرات الإنسان ويجعل منه لاجئاً وفقيراً ومعدماً. لابد من تحرير الإنسان من التخلف والفقر ليكون قادراً على تحرير أرضه من العدو".

وعلى المستوى الفني، فقد اعتمد على الجسور "الجسر الأول ثاني والثالث" ليختط بذلك خروجاً عن المعهود، وقد كان مصيباً في اختيار هذا النمط ، لأن القضية الفلسطينية قد مرت بعدة مراحل أو جسور يبقى الجسر المؤدي للخلاص هو جسر النضال المحلي الذي يتم داخل الأرض المختلفة.

أما في مسرحيته: "حبيبتي أميره السينما" فقد أدان من خلالها الواقع المليئ بالتناقضات ولمعاناة الإنسان في هذا العالم ، جعل من الأميرة تتقمص العديد من الشخصيات لتكشف عن الفوارق الموجودة في المجتمع وسلط من خلالها بالدرجة الأولى على الواقع الثقافي خاصة المسرح الذي آل إلى الانحسار وهذا بواسطة التضليل الذي تمارسه الأجهزة الإعلامية بالإضافة إلى أنه بين اللغتين العامية والفصحى وكذا اعتماده على تقسيم مغاير (لقطة خاصة ولقطة عامة) ، انسجاماً مع الأميرة التي أصبحت تلعب دور بطلة فلم سينمائي معطي على أرض الواقع: "فإنها تعالج من خلال الأميرة ممثلة السينما ، الإشارة إلى شرائح اجتماعية في  الوطن العربي والعالم الثالث. مسلطاً الضوء عليها من خلال الواقع الحالي المعاش والذي يتميز وبشكل واضح بانفصام وازدواجية الشخصية".

وإيمانا منه بتأصيل الفن الدرامي ، سعى السيد حافظ إلى التاريخ والتراث العربيين. وهكذا تمتد تجربته في مسرحية: "حكاية الفلاح عبد المطيع" إلى عصر المماليك ولكنها نظرة لا تقوم على رؤية الحاضر بعين الماضي ، ولكنها إضافة على المستوى الكيفي والنوعي إذ يؤكد السيد حافظ: :قد أكون مجرد نقطة حوار في المسرح المصري تمهد للإضافة". وإذا كان فحوى هذا الكلام يحمل بين طياته نوعاً من الوضع الذي لا يصل إلى التعالي ، لأنها تبقى إضافة ومن نوع خاص تقوم على أساس رفض الجاهز كما كانت هذه المسرحية مناسبة لكشف الواقع وتناقضاته. ليصبح الفلاح عبد المطيع ألعوبة في أيدي السلطة خاصة السلطان قونصوه الغوي رمز السلطة والاستبداد ليصبح عبد المطيع رمزا للطاعة العمياء ، يتعرض من خلالها لكل أشكال الاستغلال: "والسيد حافظ يرمز بعبد المطيع على أنه رمز لجيل عاجز وعتيق ، لكنه جيل تواق إلى العدل والمساواة ولا يعرف سبيل الحق إليهما.".

وبذلك يكون هذا الرجل رمزاً متجدداً في كل العصور يمثل الحاضر" أكثر مما يعبر عن الماضي ، والذي أصبح عبد المطيع هذا الرجل البسيط إلى رجل طيع في يد السلطة ، نتيجة الإرهاب الممارس وشتى وسائل القمع. وحتى يكون الواقع مشاركة فعلية يتقاسم همومها جميع الناس، أدخل السيد حافظ الراوي في محاولة لكسر الجدار الرابع. ومما يطفي عليها صفة الجمالية تلك اللغة المتميزة: "ولغة الحوار في مسرحية عبد المطيع هي أقرب إلى لغة التنوير والإيضاح . وهذه المسرحية تتمتع بشفافية الحوار المثقف الواعي.. تتمتع بلغة الخلاص".

أما مسرحيته: "ظهور واختفاء أبي ذر الغفارى "فتكن فيها الملامح التجريبية ، أولاً في مجازها بين الأصالة والمعاصرة . ومحاولة رفض التاريخ الإسلامي بين ماضية وحاضرة حتى يضع حافظ المفارقة بين عالميين ، عالم سادته الديموقراطية وهو مع ظهور أبي ذر الغفاري، وعالم غابت فيه أصولها لتصبح سحابه كاذبة تغطيها تلك الشعارات التي تبنتها السلطات الحاكمة (فاتك وأبو المجون) رمزا للسلطة المستبدة. وتبرز أيضاً تجريبيتها من خلال المكان الذي تدور فيه ، وهو مدينة الشورى التي توجد في كل مكان وهو ما أكده السيد حافظ: :غير موجودة ولكن من الممكن أن تكون في أي بلد يوجد فيه قهر وظل ، فالبلد تسعى" فردوس الشورى" والوادي الأخضر الساق". أي أن شبح المدينة التي كانت تحمل الوادي الأخضر السابق، حيث كان العدل والمساواة ، تتحول إلى ظلم وقهر مع رحيل أبي ذر. لكن أبا ذر لم يمت بمواقفه التي بقيت مدوية في كل مكان وهذا ما أكده الكورس:

            "لا أبو ذر لم يمت أنه حي بين الناس ، أنه بينكم أيتها الناس انظرواها هو أبو ذر بينكم فتشوا عنه واحموه أنه بينكم أبو ذر بينكم أيها الناس" لذلك نجده يلح على الثورة انطلاقاً من التحريض:

سوف نقف كالبنيان المرصوص لابد أن تقاوموا ونحن أيضاً.

لابد أن نقاوم وأنتم يا جميع الناس لابد أن تقاوموا.. 

            فالكورس الذي يحمل موقف الكاتب نفسه ، لازال متثبتا بخيط من الأمل يفكه من قيود الحبر والطغيان التي تمارسها السلطة وهي الحالة التي وصل إليها أبو ذر ، لذلك قام السلطان بعرض مجموعة من الإغراءات:

هل نغريه بالسلطة.

هل نعطيه جاها ومنصباً.

هل نبعده عن الفقراء حتى يفقد حزبهم..  لقد احتار السلطان في أمر أبي ذر، لذلك عرض عليه أن ينضم إلى صفوفها حتى تبعده عن الشعب. وبهذا العمل فقد: "اقتحم السيد حافظ بهذا النص مجال التجريب لبلورة كتابة المسرحية هادفة تحبل بالسياسي وتعبر عن الاجتماعي، وتفضح المستتر وراء الزيف وذلك بطريقة فنية".

            إن تسييس الخطاب الذي اختطه الكاتب جعله يسعى للتحريض للاقتراب من الجمهور عن طريق رفع الإبهام وتحطيم الجدار الرابع. كما جعل التجربة توفق بينما هو فكري وجمالي، مع محاولة لتجاوز المألوف   بالرغم من الخط التعليمي أو البرختي الذي ظل قائماً فيها وهذا طبعاً يتناسب مع الموضوع: "وبهذا يتأكد أن  السيد حافظ يملك هذا الحس الجمالي، ليس فقط في الكتابة الأدبية ولكن في الكتابة السينوغرافية أيضاً ، كما أن البعد المحامى يطبع المسرحية في مستوييها الأدبي والجمالي السينوغرافي.

            وعلى المستوى الفني ، وبالإضافة إلى هذه الكتابة المتميزة نجد الكاتب يقسم النص إلى ثلاث بؤر (التفسير الإدراك الموقف). وهي تسير في خط تصاعدي وجدلي في  الوقت نفسه ، إذ لا يقوم بطرح العمل الثوري في بادئ الأمر مباشرة ، بل يهيئ ذهن المتلقي تدريجياً انطلاقاً من تفسير الوضع الراهن حتى يصبح الأمر مدركاً، وبالتالي يكون في وسعه صدور رد الفعل تجاه الفعل بكل إفرازاته السلبية ، في محاولة لتفجيره والإجابة عن ذاك المقلق. وبعمله هذا: "يعتبر المبدع المسرحي السيد حافظ أحد الدراميين العرب الذين جعلوا التجريب وسيلة لتحقيق الخطاب المسرحي العربي الأصيل".

            وتمتد رحابه النظرة الواسعة عند حافظ إلى العالم بثقله الاجتماعي من خلال مواكبته لذلك المعيش واليومي ، لتتوج بصدور رؤية واسعة تهتم بشرائح المجتمع الكادحة. التي تسقط في فخ الغطرسة التي ينهجها الآخر   المثقف البورجواني وهو ما تأكد من خلال مسرحيته: :هم كما هم  وليسوا هم الزعاليك" ليشير من خلالها إلى طبقية المجتمع المصري، التي تكرسها الأصوات المتعالية في هذه المسرحية. فهذا محمود بائع البطاطا الذي أتى إلى الإسكندرية قادماً إليها من الريف للزواج بناعسة ، أو عبد السميع ماسح الأحذية الذي فر من الثأر الذي يطارده في الصعيد، أوأينسه الهاربة من زوجها محمود لتقع في قبضه واستغلال حموده. وكلها شخصيات يجمعها نفس المصير، بعدما كانت تعلق أملاً على العيش في الإسكندرية التي استرقتهم بأضواءها ، إلا أنها تحول بين رغباتهم ، لتصبح عالماً كابوسياً ومأساوياً بعدما وقعوا في أيدي سلطة المثقف البورجواني . كما أن المكان ببساطته ، يوحي ببساطة هؤلاء المحرومين. إذ تدور أحداثها في حديقة عامة بها دورة مياة.

            بالإضافة إلى توظيف ذكي استعمله المؤلف ، باستعانته  "الظل" الذي يرمز إلى الوهم الخانق للأمال ليصبح دوره إيحالياً:

الظـــل: (حوده الجديد بملابسة) يا عمي أنطق إنت أبوي انت اخوي انت عمي.

حـــودة: إنت انت (يشير على حودي الحديد).

شحــاته:  (للرجـــل) يا عم حتودينا في داهية: تحقيق ودوشة ونيابة.

المثقـف:  (وكأنه يقف على منصة المحاضرة (ويجب على الناس أن يتعاونوا مع بعضهم.

بألفاظ جميلة: يا رجل ليه تموت بس هنا.

محمــود: أنا مسافر بلدي.. مش عايز أموت غريب.

الظـــل: (حوده الجديد) إنطق انت ابوي انت اخي.. عمي.

حـــودة: (الظل الجديد) إنت : انت .. انت .).

وبذلك يتحول الظل إلى صورة قاتمة تمدد أحلامهم ، لتدخل في مجرد الوهم وتبث الرعب.

            وتطل شمس السيد حافظ بوعي جديد وإشراقه جديدة، لترصد معاناة وآمال الإنسان المطحون، وهو يعاني من مجموعة من الضغوط الاجتماعية والسياسية وغيرها. يأتي حافظ ليقتحم هذه العوالم التي تتربص الإنسان دخل إحساسه الدفين. وهكذا جاءت مسرحية: "علمونا أن نموت وتعلمن أن نحيا" لتصب في هذا المنظور . يحكي من خلالها الكاتب عن سجينين (سجين واحد وسجين 2) ليصور من خلالها القيم الفكرية القائمة لهذا الإنسان والتي خلقها النظام الفاسد. وقد عمد في هذا العمل إلى تقسيمه إلى لقطة خاصة، وأخرى عامة. مرتبطتين مع بعضهما ، في إشارة إلى تشابه الأزمان التي يعيشها الإنسان. والتي يريد من خلالها الكاتب أن يقول: "إن الحلم طالما لم يتحول إلى لغة الثورة الفعل في التغير، فسيتحول الحلم إلى نوع من الحلم المرضي، التكاسل، وأن الذي يحلم بمسؤولية التغير فقد دون تنفيذ الفعل نتيجة لوجود العجز النفسي، سيتنفس دوما هواء العجز التنفسي ، والسلبية. وستمارس الحقوق من خلال سراب الممارسة الغير حقيقية والغير واضحة في الواقع الاجتماعي والسياسي".      

            أما مسرحية "سيزيف" وهي من آخر أعماله ، فتأتي هي الأخرى لتصب في هذا الاتجاه أي قهر الإنسان، لكن بالتفاته جديدة عمد من خلالها السيد حافظ وهذا: "انطلاقاً من الأسطورة القديمة، واستفادة من الصراع المحتدم فيها بين الإنسان والقدر المتمثل في الآلهة فاعتبرها قالبا رمزياً قابلاً للتأويل والتحرير. وبهذا أعطاها تفسيراً جديداً يتماشى مع قضايا الإنسان المعاصر. وهي إشارة إلى أسطورة سيزيف الذي سخطت عليه الآلهة، وعرضته للعقاب نتيجة ذكائه وفكرة الذي حاول من خلالهما فضح الآلهة وإزاحة القناع عنها".. 

            وهي تجربة حاول من خلالها السيد حافظ محاورة الأسطورة ، التي تتفق مع أسلوب هذا العصر وما يعانيه الإنسان. الذي لم يستطيع من قساوة الظروف: "وسيزيف في هذه المسرحية يعاني الاقتراب آلاف الأسئلة التي تقلق راحته. دون يجد لها حوابا". 

            إن ملامساتنا لهذه التجارب تجعل منها تنسحب على كافة المستويات ، يملك معها السيد حافظ حق الريادة في المسرح التجريبي ، سواء بانشغاله بقضايا الساعة أو التعبير عن الحرية والديموقراطية: "ومسرح السيد حافظ يناصر ضد ما هو مستبعد ، ويناصر البحث عن الحرية ضد الديكتاورية. ويناصر اتساع النظرة ورحابتها ضد ضيق النظرة، ومسرحه دائماً يبحث عن الحقيقة".

وهذا سعياً منه إلى ضرورة الخلاص والبحث عن الحقيقة الغائبة بنظرة شمولية تنتقل في أرجاء هذا العالم ، بالرغم مما واجهه من تحديات، إلا أن طموحه مكنه بأن يفرض نفسه، وهو ما أكده الناقد الكويتي مبارك الصوري: "إن السيد حافظ من جيل يحمل طموحات وطنية وقومية، حاولت أن تجد مكاناً لها ولكنها اصطدمت بأرض الواقع، يملك النزعة التجريبية والرؤية الجديدة".  وهي نظرة وطنية تتدفق بأحضانها لتعانق العالم ككل في محاولة للالتقاط كل ما هو مطروح على أرض الواقع: "إذن هذا الكاتب لم يحمل جواز سفر مصرياً فقط، بل في الحقيقة حمل هذا الكاتب جواز سفر عربياً إفريقيا عالمياً.. فكل قلوب الناس حقيقته" (4). وهو فعلاً ما لمسناه من خلال أعماله التي ما فتئت تبحث عن الحرية إذ أن الحرية لها ألف مكان وعلى الإنسان أن يقرر فقط على حد تعبير السيد حافظ.

            وهكذا تسافر تجارب السيد حافظ في جميع الأمكنة ، في الشوارع في السجون ، في المعتقلات ، وفي الساحة العمومية. ليتجاوز ضيق الخشبه الإيطالية الديكارتية التي تقبر ذهن الممثل والمتلقي بتعليماتها الحرفية. فتسقط معها تلك النمطية مع كاتبنا ليجعل المسرح متحركاً يخاطب فيه الممثل نفسه ومتفرجه وغيره، لتتشابك الأزمنة عبر التاريخ والثرات ، والأسطورة ، الماضي والحاضر ، لتكون في الأخير نسيجا متناسقاً يروم إلى المستقبل المشرق وهذا ما أكده الباحث عبد الكريم برشيد بقوله: "لأنها كتابات جادة وجريئة ، كتابات لا تقف عند الشائع المعروف، ولكنها تتعداه لتطل إلى مشارف كتابة مستقبلية جديدة. وهي تتوسل إلى كل ذلك من خلال التجريب الواعي الرسين".

            فالمضي إلى تجاوز السائد لم ينحصر على المستوى الفكري، بل يتصل أيضاً بما هو فني ، وهذا على عكس ما ذهب إليه فتحي العشري ، من أن مسرح السيد حافظ: "يقدم فكراً أكثر منه فناً". لأنه بالقدر الذي حرص فيه السيد حافظ على الفكرة وهو وارد في أعماله   بالقدر الذي يحفل به بالجمال وهو ما يضفي على النص   مسرحه تحديداً لينسحب على كل الواجهات تلبية الشروط الفن الأصيل، والذي تسير فيه كل المكونات بمحاداة لتتظافر في خلق عمل متميز: "والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحي يحكي لنا حدثاً في قالب درامي مسرحياً ، بل يعتبر بإنتاجه الفكري الناضج خالقاً مبدعاً له عالمه الخاص وفلسفته الخاصة".

            لذلك يبقى السيد حافظ مدرسة متميزة ، كانت عصارة تلك الجهود الموجهة إلى تفادي المكرور والجاهز والبحث عن الجديد: "إنه شاب جرىء جداً وطموح جداً……

حطم بطموحه وجرأته قواعد المسرح من أرسطو إلى برخت".

            وما يشفع لنا ذلك ، تلك التلوينات المتنوعة التي طبعت مسرحياته ، وإن كانت تأتي في المقام الأول كوسيلة لا غاية في حد ذاتها. وهي مناسبة للرد على بعض التصريحات التي ظلمت السيد حافظ: "غير أن محاولة السيد حافظ التجريبية الجاسورة تترك آثاراً سلبية لا يستطيع قارءه (متفرجه) الخلاص منها.

            إن الغلو (في التجريب) ينال كثيراً من غرابة التجربة ، إيجابياً وبواعثها الحقيقية، كما أن محاولته للخروج من الإطار الكلاسيكي إلى التعبير التجريبي ، لا يتردد عن استخدام أية وسيلة وأية حيلة". وهذا فهم خاطئ مؤداه هذا الحكم التعسفي الذي خرج به مصطفى عبد الغني ، والذي يعد تحاملاً كان من الطبيعي أن يصدر ، لأن أعمال السيد حافظ بقدر جرأتها ، بقدر ما كانت مدعاة لمثل ردود الأفعال المتباينة. لكن إبراهيم عابدين سوف يرد الأمور إلى نصابها حين يصرح: "إن السيد حافظ لا يلتزم بحرفية تعليمات وحدات الزمان والمكان الأرسطية ، ولكن تنصب اهتماماته على تحرير المسرح كمسرح من الأشكال التقليدية القديمة".

            ذلك أن الناظر في أعمال السيد حافظ لا يسعه إلا أن ينصف أعماله، التي تعتبر وثيقة الفنان المتفاني. وقع من خلالها ريادة المسرح التجريبي ، وبذلك: "يظلم السيد حافظ كل من يعامله بمقاييس المسرح التقليدي ، وينصفه من ينظر إليه على أنه كاتب طليعي يرفض بإرادة عنيدة متمردة أن يكون مقلداً لغيره ، فهو يأبى التقيد في مسرحياته للقالب الواحد يصب فيه مسرحيته كما يضع الكاتب الكلاسيكي أو الطبيعي أو الواقعي ، بل يؤثر التنقل في المسرحية الواحدة بين الأجواء المختلفة ، لتحلق بنا وراء الحدود المألوفة".

            فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم كما يقول الشاعر إننا و مهما تحدثنا عن السيد حافظ، فلن نستطيع استيعاب كل ما حمله من جديد لأنها محاولات تضرب على أوتار متعددة بنظرة شمولية واعية، يخلص فيها للفكر والفن معاً.

            لهذا سنحاول في الفصلين التاليين من هذا البحث، إبراز العناصر التجريبية في مسرح السيد حافظ من خلال مسرحيته والتي نحن بصدد دراستها: "حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان "علنا نستطيع ولو جزئياً الاقتراب مما يحفل به مسرح السيد حافظ من مظاهر تجريبية واسعة التي تحتضنها تلك الرؤية الثاقبة عند مبدعينا.

سبقت الإشارة إلى الظروف التي أحاطت بالسيد حافظ وما اتسمت به من تدهور على مختلف الواجهات ، كان أبرزها هزيمة خزيران التي أعلنت عهد جديد رسخ عبثية الواقع العربي وهشاشه ، ليكون بذلك الوضع السياسي الفيلق المتقدم لهذا التراجع.

ففي الوقت الذي كانت فيه الجماهير العربية تتطلع إلى غد أفضل يقضي إلى ضرورة مراجعة الأنظمة العربية لحساباتها، وذلك بالتصدي للواقع الجديد، تتوجه جهود هذه القيادات وبدون عناء لتببدد أحلام الشعب المقهور ، محاولة بذلك ضرب كل من سولت له نفسه التجرؤ على (المساس بأمنها). وفي ظل هذا الظروف العصيب الذي اجتازته الأمة العربية ، اتجهت سائر فنون القول لتواكب هذا الوضع بثقله لتصبح في هذه الفترة أكثر من أي وقت مضي أشد ارتباطاً بما يقع على الساحة العربية ، وبالتالي إعادة النظر في الشكل الذي اتخذته هذه الفنون ، بأن ظلت بمنأى عن آلام وآمال الإنسان العربي : "وكان المسار طويلاً للإنسان المصري على مسرحه بين بحثه عن مصره الجديدة والرفض لما وصل إليه البحث، هو المعاناة الحقيقية لقضايا الحرية ورغيف الخبز أو  الديموقراطية والتغير الاجتماعي".

وما دامت مصر تشكل بؤرة هذا الصراع ، فإن جيلها كان متعطشاً أكثر لتعرية هذا الواقع حينئذ، لم يكن غريباً على السيد حافظ أن يرصد بالكشف عن أشكال الإحباط التي مست الإنسان العربي وهو يشعر بالتمزق والضياع. وكعادة السيد حافظ لم يكن بمعزل عن معترك الحياة، ليتابع عن قرب ما يجري فيها حاملاً معه عشق الكلمة المحلقة في كل زمان ومكان للبحث عن الغد المشرق، وهكذا راح يبحث عن شخصيات مختلفة تمثل هذا الواقع عبر مواقف متعددة ، في محاولة للثورة على هذا الواقع والتمرد عليه. وهي توجهات كرستها جل أعماله المسرحية: "والسيد حافظ تجده دائماً مخلصاً لبيئته يتأملها ويتعمقها إلى أبعد الحدود ، وهذا الإخلاص للبيئة هو الذي يقدم للفنان تجربة حقيقية حية يمكن أن يصورها ويعبر عنها ويؤثر من خلالها على الآخرين حتى ولو كانوا غرباء عن هذه البيئة".

وهكذا كان السيد حافظ أكثر إلماما بقضايا الإنسانية ، ليظل وطنه أقرب الواجهات إليه في محاولة لإدانة الواقع وكشفه: "نعم سرنا في بشاعة كل المواقف ، نمتص رائحة عفونة الفكر المتدهور حين سقط في تمزق الرأي في القرن العشرين ينفذ وعي اللحظة فينا إحساسا بالوحشة ، لكننا حين ندرك سر العلاقة بيننا كشعب نامي والعلاقة بين الحضارات الأخرى يحدث لنا من تأثير الوعي ذبذبة تنجب إشعاعاً يمكنه القدرة إلى الإضافة..  

وفي هذا الإطار ، تأتي مسرحية: "حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان لتتوج المسار التجريبي الذي رسمه السيد حافظ لنفسه. ترى ما هي الجوانب الفكرية التي عالجتها هذه المسرحية؟ وهل هي فعلاً محاولة من هذا النوع تحمل في طياتها ملامح تجريبية؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيري مما تحبل به هذه المسرحية، يستوقفنا هذا العنوان الذي يبدو غريباً ، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن المدلول الذي يمكن أن يكون مفتاحً يتيح لنا فرصة الإجابة عن هذه الأسئلة. فمن يكون مسافر السيد حافظ؟ وأين هي وجهته؟ وما الهدف من ذلك؟ ومن أين تبدأ وأين تنتهي محطة هذا القطار، بل ومن يكون ممتطي هذا القطار ، وهل تتوقف هذه الرحلة في حدود معينة بين الحين والأخر؟ أم أنها أبدية شبيهة برحلة السندباد البحري؟ وفي الأخير من هو هذا الإنسان الذي سيتولى هذه الرحلة؟ أسئلة كثيرة تتبادر إلى أذهاننا ولو أنها تبدو ومحيرة ينجم عنها تؤثر السؤال واستحالة الجواب، لكنها تبقى مشروطة لفك لغزها وتنطلق أساساً من توجهات السيد حافظ المسافرة في كل مكان: "والسيد حافظ طائر نورس جوال يحمل عشق القديس متفان".   

لقد كان بالفعل طائراً متجولاً يحمل معه قداسه الكلمات الوفية لشعبه ووطنه وللإنسانية جمعاء، تأتي هذه المسرحية لتشكشف عن الواقع الجديد الذي أفرزته مواجهة العرب مع إسرائيل ليستنطق بها مجموعة من الإبطال وهم يعزفون على سيمفونيه هذه المسرحية، حاملين في خلجاتهم صمتهم الدفين وأحلامهم المخترقة لتسافر في عالم الاستبداد والقهر التي صنعها أصحاب الهزيمة. وهو ما أكده لنا الكاتب على لسان حمودة:

حمــودة: (وهو يتجه إلى النافذة) ما أحلى أن تكون شهيداً لعقيدة. ما أحلى أن تكون رجلاً ما أحلى أن تقرر الصمود قيمة وعلامة لعصر الهزيمة بال مبرر..

            فهي هزيمة بلا شك حملت معها التراجع والتقهقر ، جعلت هؤلاء الأشخاص يتطلعون إلى الصمود والانفلات من السلطة التي عاملتهم بالاستيلاب محاولة كبت طموحاتهم، بالرغم من أن هذه الفعاليات تنظر إلى هذا الواقع برؤى مختلفة إلا أن وحدة المصير المشترك هي التي تدفعهم للتفكير للمواجهة. ومن هنا يكون السفر عبر قطار الحياة ، ليكمل كل إنسان رحلته:

حنفي: أنا مسافر.

نادية : د. إيمان تقلي مسافر مسافرين فيمن. ولمين؟.

حنفي: مسافر وانت القطر بتاعيِ.

أزهار: أنا قطرك.

مقبل: الجوهر الشخصية التغيير.

عائشة: بكرة تبقى بسعف النخيل صفصافة ع النيل. 

إنه سفر من أجل الخلاص ليمر عبر الوطن؛ وهو يجعل التغيير للبحث عن جوهر الحقيقة التي تبقى مشروطة لكل إنسان يفكر في هذه الرحلة لنشدان هدفه، ليكون بذلك مثالاً للصفصاف الشامخ المطل على النيل، فقطار السيد حافظ متجول يبحث عن التغيير والثورة ضد الوضع السياسي الجديد. لهذا نجده يحمل معه مضموناً سياسياً بالدرجة الأولى لا يقوم بمعزل عن هذه الحياة التي صاغت فيها القيم ، ليكون عالماً متسماً بالقمع والاستبداد تحول إلى سراب تافه:

حنفي : علم مدينتي في صدري من لون أرضي ، من بحر الأخضر من أعبائي الروماني من تلقائية صدق التصور أحببت إيزيس وأحببت عشتروت يا قلب المؤله المقدس لم تحب كيلوباترة الرومانية آه أنقديني يا نفريتيني الخيانة تباع في الأسواق تحت أسم أسلوب العصر.

            فتكون الصرخة التي تحمل في أحشائها الألم المرير، لكنها تمضي لتواصل هذا الإسرار للكشف عن واقع هذا العصر الذي طفحت فيه الخيانة ، خيانة الوطن والشعب والتي رسخها مسؤول التضحية المتوالية. وهو ما حرك السيد حافظ وبالحاح للتنديد بما يجرى على أرض هذا الواقع: "وتولد مسرحه ليخرج لنا مسرحاً مليئاً بلغة التعبير مسرح يتحدث بلسان الحياة ضد الموت. وقد قام مسرحة ليتضمن في ثناياه القيم الاجتماعية والثورية ليجملها في ثوب جديد".

            إذ في خضم هذه الحياة المفهمة بالتفاهة يتقدم حافظ بشهادته هذه التي تأبي الموت في أشكالها المختلفة، لتبعث حياة تنبض بالثورة عن الحياة الكريمة، والقائمة على أساس الحرية ليخلص في الأخير للكشف عن الحقيقة.

            بعد إطلاعنا على أهم المحاور التي حملتها هذه، المسرحية ، لا بأس وضع الخطوط العريضة حتى يتسنى لنا على اقتراب من الإبعاد الفكرية الواردة فيها:

1 - رحلة الإنسان بين الحلم والواقع.

            بيــن     (الحلم الزائف)

(الواقع المرير)

2 - رصد الواقع بتناقضاته وأوضاعه المزرية.

- الوضع السياسي: القمع لاستبداد توجهات مصر الخارجية (صلح خيانة الانفتاح السائد).

- الوضع الاقتصادي:  الفقر الحرمان الظلم.

   الوضع الاجتماعي: التفاوت الطبقي.

- اختلاف الآراء وتضاربها.

3- الفعل الثوري بين الاستحالة والإمكان عن طريق تصوير مواقف الإبطال:

-    الخوف.

-    التردد.

-    الرغبة في الثورة.

-    وجهة الفعل الثوري وأشكاله.

4- المظاهر الفكرية التجريبية الواردة في هذه المسرحية.

5 - الهدف من تأليفها.

(1) رحلة الإنسان بين الحلم والواقع:

يواجه أبطال هذه المسرحية الشباب الطموح والتواق إلى الغد الأفضل عبثية هذا الواقع الذي يهدد كيانهم ، لتتحول أحلامهم إلى مجرد حلم طائش وسط هذا الملجأ الرهيب، ليعيشوا في ظروف يغلفها القهر والاستيلاب التي يسعى كل من " المشرف طه والمشرفة خديجة" إلى أن يفرضوها عليهم ليسكروا طموحهم ، ليعود هذا الحلم مجرد زيف لا طائل منه بواسطة ركام من التعليمات الحائرة التي تمثلها هذه الطبقات الطفيلة. وهذا طبعاً ما تحمله هذه الحوارات الفرعية التي تبوح بالألم والأمل في نفس الوقت. وهذا تحت زفرات من الآهات:

حمــودة: آه نفسي اشترى لي عمارة وأبقى زي مليونير في أمريكا، قالوا عنه بيشترى الأرض والناس إلى فيها في أي حتة تحبو ……أتجوز مرات رئيس الجمهورية بفلوس أنا كما نفسي أكون زي..    

محيـدة: (تجلس على سرير ج) نفسي أسمع كلميتن الحنان والحب نفسي أشفهم المهم نفسي أركب حصان أزرق ويلف بي جبال العالم طاير نفسي شعري يطير نفسي أحس إنى طايرة إنى حاجة في كل حاجة. 

            إنه الجيل الحالم بالحياة الكريمة التي توفر له الأمن والاستقرار، لكن أحلامه تصبح مجرد حناجر خرساء تدفن ما تصبو إليهه بداخلها.

            إن تردد هذه الأصوات بهذا الشكل يجعلنا أمام ضربين متناقضين: الأول يحلم بالسعي نحو البديل (الشباب والشبابات) ، والآخر يحاول تفتيت هذا الحلم ليجعل حقيقته تتبخر لتؤولو إلى الضياع ، وهذا فعلاً ما يريده المشرفان كلما تتعالى هذه الأصوات للخروج من صوتها تأتي عاصفة الأوامر والتعليمات:

المشرفة خديجة: من هنا ورايح أ ي حركة.

المشرف طه: إي إشارة همسة تعتبر خلل.

المشرف والمشرفة: وسيعاقب أي شخص ، أي حركة .. أي لفتة .. أي إشارة ..

            لقد ارتأي المشرفان أن كل حركة للتعبير عن الحرية، هي في الواقع منافية للأخلاقيات تؤدي إلى هدم المجتمعات من هنا أي فعل ملموس سواء برد فعل قوي (يعني السجن) وهي تعليمات توحي بعبثية هذا الواقع ، وهو عرف أصبح معمولاً به في كل مجتمع من هذا القبيل. إذ أن كل إنسان يصبو أو يتطلع للتعبير عن آرائه، ويعتبر خارجاً عن القانون ومخلاً بالنظام العام. ويكتفي المشرفان بطرح وعود كاذبة لإسكات صوت الجماعة:   المشرف طه والمشرفة خديجـــة: أي طريقة قصادكم: الجمعية العمومية تجتمع وأي حد يجب يجرب أي أسلوب حنفرجه .. في الطريق حتتحل المشاكل مفهوم. 

            وهذا بعدما أدركوا أن أساليب التهديد التي ينتهحونها لم تعد مجدية ، بل أصبحت تصعد من المد الثوري ، والذي وإن كان يمارس بأشكال مختلفة تتراوح بين السعي نحو أتباعه وبين الخوف والتردد، نجد المشرفان يسلكان أسلوب المهادنة.

            إن مرارة الواقع التي يواجه الشبان ، لا ينطبق على الواجهة الأولى المتمثلة في أجهزة السلطة ، بل يرمي بثقله ليمس المجتمع نفسه الذي يجدونه منفصلاً عنهم، بعدما وجدوا أن مجتمعهم لا يبادلهم نفس  الطموح، وهذا بالرغم من أن مقبل يحث عائشة على أن تسمع صوتها:

مقـــبل: اقفي في ميدان التحرير واصرخي.  

عائشــة : ومين حيسمعني.

مقـــبل: الناس.

عائشــة: والناس فين. الضوء يختفي من عليهما.

وهي إدانه يرمى بها السيد حافظ ليرمز إلى الشعب الذي ارتضى لنفسه الخمول.

ياسيـــن: طقس المرأة أم الرجل.

حمــودة: أقصد بطل الفيلم. 

ياسيــن: إنه السوبر مان أو جيمس بوند أو  الشجاع.

حمــودة: إنه السوبر مان.

ياسيــن: والشعب.

حمــودة: في سنابل القمح نايم.

ياسيــن: لم يتحرك:

حمــودة: قد نسيناه طويلاً..

فالشعب الذي يبدو في كبريائه (السوبر مان) ، لكنه في الواقع يبقى مجرد قزم في هذه الحياة. ويلخص حافظ هذا الوضع الذي آل إلى الانفصال:

ناديـــــة: لننشر الإضراب في هذا الحي. (يغنون) . في جزء من العالم ضيق يشعر البعض بالاختناق ينادي الكل البعض يرفض الإجابة . يحق للكل أن يسألوا بالبعض بالفزع بالدهشة بالقنابل بل كيف.. بأي وسيلة أي لماذا؟ كيف انفصلتم عنا متى كنتم أسيادنا؟ أين عالمكم وعالمنا؟ لماذا هذا المصير ويوضع الحل.  

فتردي هذه الأوضاع جعل الحنفي يحجم عني موقفه بعدما ما دعته نادية لكي النداء

ناديــــة: وأنت قلت انك محامي.

حنفـــي: محامي ليه أدافع عن أي موقف وعن أي حاجة؟ أدافع عن مين وليه؟ أدافع وأنا مش لاقي حد يدافع عنى.

لقد حمل حنفي على نفسه أعباء الدفاع عن هذا الشعب المقهور ، إلا أن الأمور لا تجري في صالحه. ليخلص في نهاية المطاف إنه لا يستطيع الدفاع عن هذا الإنسان ، مادام هو نفسه لم يجد من يدافع عنه.

2 - رصد الواقع بتناقضاته وأوضاعه المزرية:

مما لا شك فيه أن انعكاسات هزيمة 1967 قد شملت كل الميادين السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية لتخلق لنا عالما متباينا ، وهذا ما أدى إلى إحداث شرخ واضح على هرم المجتمع، وهو ما اتضح لنا من خلال استقرائنا الأولى لهذه المسرحية. مما أصبح معه مؤكداً أن جوهر الصراع ظل مرشحاً أكثر للانهيار على المستوى الداخلي وهذا ما حاول السيد حافظ أن يرصده: " وفي داخل هذا العصر الذي يموج بآلاف المتناقضات يقف الفنان شهادة إدانة على عصره، من خلال تقديمه لصورة العصر السلبية وما تنطوي عليه من توتر حاد هو أساس العلاقة بين الإنسان والإنسان. والإنسان والعصر. ليس هذا فحسب، بل إنه كثيراً ما يحاول في موقف الإدانة أن يقوم بدور المبصر الباحث عن معنى الإنسان في عصر ضاع فيه معنى الإنسان".

لقد كان بالفعل كاتبنا يمثل موقف الرجل المخلص لبيئته ، ليصورها في حالة من التناقض بين أفراد الوطن والعصر الواحد. فعلى المستوى السياسي، كانت آثار الهزيمة هي التي تطفح على السطح والذي لازال جيلها محموماَ بنيرانها:

مقـــــبل: اصفعني بعيد وفاء النيل (يشير إلى الخلف للسيد المسؤول) وبعيد شم النسيم اصفعني بالجولان وبالمناجم المسلوبة في سيناء . اصفعني في حبل الطيور باب المندل. اصفعني في هاتور وفي مملوكة آشور إنى عبداً لك.

فتسقط الأراضي العربية الواحدة تلو الأخرى في أيدى إسرائيل بالمقابل وعلع العكس من ذلك تبرز معطيات جديدة لتنضاف إلى مسلسل العار السابق، وهو ما جعله لنا الكاتب عبر نبرات مختلفة (تصالح خيانة مساومة تحايل تنازل).

وهي تكاد تصب في ظروف ما بعد النكسة، وما دشنته مصر بعد توقيعها على معاهدة كامب ديفد، تحت شعار التعايش السلمي وحسن الجوار مما أصبح فقدان الثقة في مصداقية تلك التصريحات:

حنفــــي: مابقاش الحساب هواه القضية لمسه النسبية والخوف والمساومة.

مقــــبل: قصدك المقاومة.

حنفــــي: المقاومة المساومة علمينى أية معنى المقاومة علمينى إيه معنى المساومة عرفيني إيه معنى التنازل والتحايل والتفاوض والتصالح.

وهو أسلوب يكاد ينسحب على هذا العصر حتى يومنا هذا ، حيث الشعارات المرفوعة باسم المقاومة إلا أن  الكواليس تكذب ذلك وما يوقع داخلها من تنازل وتصالح بعد حمله من المساومات.

            ومما يزيد في تعقيد الأمور هو الأساليب القمعية التي تتبعها السلطة من الحد من كل نشاط معادي يسعى إلى فضح مخططاتها ومناوراتها ، لذا تلجأ ضداً إلى مجموعة من الشكليات لا تخفي في  الواقع سياسياً:

المشرف طه : أشكركم كلكم بــره . أنتو بتخرفوا التفاهم هو الحل لأي مشكلة التفاهم هو الوسيلة الحديثة للحوار (2).

وعلى مستوى السياسة الخارجية يثير الكاتب وجهة مصر  التي ارتضتها لنفسها، في جو الانفتاح على الغرب، وهو ما يرسخ أشكال التبعية في مختلف توقعاتها وهذا ما يجعل مخاوف الشعب تزداد:

أزهـــــار : مصر رايحة على الترعة الغربية.

شلبـــــي : يتعدد الخوف يحرم البلد اللي فيها . طفى الأخضر الطري .. وتتبخر كل المحاولة للمقاومة.

            وهي إحالة إلى التحالفات العسكرية والاقتصادية التي حشرت فيها مصر نفسها مع الدول الغربية في بداية السبعينات ، بوصول العسكريين إلى السلطة.

            ويمضي السيد حافظ يبحث عن الحكمة ، في ظل هذا العصر الجديد الذي يمثل عالمنا غابوياً رهيباً، ليبحث عن العبرة في تاريخ الإنسانية ليسوق لنا قصة الملك المريض.

شلبـــــي : الملك مريض.

حمــودة: نعم وعلاجه ثدي ثعبان غابي .. ولد في أحضان الطبيعة ونشأ مع الفيلة ، عاشر الضفادع وتزوج سلحفاة. 

            فالكاتب يرمز إلى الملك في شخص عبد الناصر الذي يوجد مع أجهزته العسكرية في موقف ضعف ، لذا يبقى علاجه في إيجاد ثدى ثعبان وهو موجود في ثدي عائشة التي ترمز إلى الشعب الثائر. وهو ما يجعل هذا الأخير معنياً في شخص الأميرة لمساندة الملك في محنته ، لكنه يصطدم بوزير اليمين ووزير الشمال (عاشر الضفادع). وهو ما يشير إلى الأجهزة العسكرية التي شغلت بمرض الأمير الذي يخلف عبد الناصر وهو ما تأكد لنا على لسان حنفي.

حنفــــي: (للجمهور) ثدي الأميرة هو ثدي الحية. مشكلة هل يتركون الأميرة ووزير اليمين يقول مجنون ووزير اليسار يقول الحل ؛ ترى ماذا يحدث يا قلب الشعب المقهور. الذين أهملوا الشعب بحجة أن الأمير مريض ونحن في مشكلة علاجه، فوزير اليمين واليسار طوال اليوم في القصر مع الأميرة وخاصة وزير اليمين ووزير اليسار.

            لذا يتدخل مقبل ليحث الأميرة (عائشة) والتي تمثل الثائر، بأن تساعد الأمير الذي كان يطمح إلى السلطة ليمسك بزمام الأمور ، لكن ذلك لا يتأتى إلا عبر تضحية الأميرة بأن يشرب الأمير دمها. وهي إحالة إلى الثورة والتي قد تؤولو لصالح الأميرة

مقــــبل: إذا كنت تجيبى الأمير قدامى برهان تضحيتك هو أن يقطع ثديك وأن يشرب من دمك.

عائشــــة: يا شعبى المنتظر ثدي الأميرة هو ثدي الثعبان.

حنفي ومجيدة: وبالفعل قطعوا ثدي الأميرة بعد أن غلت الأسعار وازدادت الحياة غلاءً وأصبح  الشعب مزيجا من الجوعي ، ووجد ثدي الأنثى هو ثدي الأميرة (تصفيق حاد يصفق الشباب إلى الجمهور).

            فعائشة تمثل الطموح الذي لازال قائماً ، بل وتحمل هموم الشعب الذي أصبح يؤدي ثمن تخاذل الوزراء بعد انشغالهم بالسلطة ، وأصبح الشعب مزيحاً من الجوعي . فحافظ يدلل من خلالها على الوضع الاقتصادي المزرى الذي أصبح يقع على كاهل البؤساء:

مقــــبل: احملني في طيور الخريف.. يخرج من ضلوع الفقراء.. تخرج جماهيري الغاضبة العصية تخرج لتحمل الراية الخفية هنا أنا . وهم هناك.

            ولم يكن الميدان الاجتماعي هو آخر _ أقل حظاً من أشكال التردي وما يحمل من تفاوت وتناقض أحدث ذلك الشكل الهرمي الغير المرغوب فيه، وهو ما يتضح من خلال هذه الحوارات التي يكشف فيها الشبان هذا الوضع:

أزهـــــار : امرأة تملك جراج عربات وتملك العربات.

حنفــــي: رجل في الجيش يأتي الجنود بعربة ينتظرون ابنته الصغرى كي يوصلنها إلى المدرسة. وهذا من أجل الوطن.

مجيـــدة : فتاة في العشرين ترتدي كل ساعة فستان أبوها رئيس مجلس الإدارة.

            هذا بالإضافة إلى أساليب الظلم التي يتعرض لها المجتمع تحت ستارات مزيفة، والفساد لا يقتصر على مصر وحدها ، بل يغطي شبحه العالم ككل.

هــــدى: والعدل يقع على ثوب الطغيان يغسلوه بصابونه حملة التطهير.

            وينتقل السيد حافظ ذلك ، لينتقد لنا أصول التربية التي يتعبها المجتمع والتي لا تقف عند حدود شكليات بل إن الأمر يحب أن يضبط بقواعد تحدد معنى السلوك الإنساني، وذلك بأن تأخذ التربية مفهوم الاحترام والتفاهم الحق:

ناديــــة: حبيبي قال لي التربية مش حطفي السيجارة قدام أبوي ، لا مش أقف لما يقعد لا مش حط رجلي على رجل لا قال على التربية هي الاحترام والتفاهم.

            وعلى الساحة الثقافية لم تكن هي الأخرى بمعزل عن ملامح الوضع الجديد وآثاره السلبية، وهو ما يعكسه واقع الفن الذي أصبح محاصراً هو الأخر:.

مقبــــل: الفن عمره ما كان أكل عيش الفن لعنة. عايزة أبقى ممثلة حيجعلوك محطة أتوبيس.

            فالتشنج الذي شل حركة الحياة برمتها ، امتد إلى المواقف نفسها ، هذا ما يكشف عنه السيد حافظ من خلال مجيدة وهي تناجي نفسها ووطنها.

مجيــــدة: تتقدم حاملة مصابيح المدينة وبراعم الشمس الصافية. وأنت يا وطن هل أنت أمامي أم خلفي أم بجواري أم أنا أنت ومن أكون أنا ومن تكون أنت لا أعرف يا وطني لا أعرف لا أعرف يا ….

            فمجيدة ينتابها الشك حول مصير هذا الوطن ، وأي موقف يستناه مدامت المواقف لا زالت مختلفة. وهي نفس الحيرة التي عبر عنها مقبل بتصوير المجتمع الذي لا يقف وقفة رجل واحد.

 مقبــــل: صديق لي وقف وأمه جلست أمامه، وأبوه جلس بجواره في صورة تذكارية. الصورة الثانية: وقف الأب بجوار الابن والأم جالسة، في الصورة الثالثة جلس وأمه وأبوه خلفه.

3-  الفعل الثوري بين الاستحالة والإمكان:

            على مسرح هذه الحياة ، حيث الواقع المتخم بالتناقض والتعفن . كيف يمكن التغيير؟ وما هي الأشكال التي يمكن أن تتخذ؟ وهل وجهة قطار السيد حافظ داخلية؟ أم خارجية تملك ملامح سنحاول التصدي لها عبر محطات هذا القطار، الذي تقوده شخصيات السيد حافظ. إن السيد حافظ أكد من خلال هذه المسرحية أن الوصول إلى فعل ملموس لا يمر إلا عبر تعرية هذا الواقع وبالتالي اتخاذ موقف منه. لكن سائقى هذا القطار يحملون نفس التوجهات والأهداف ، ومن ثم يمكن تحقيق هذا المشروع؟ أو أن التصدع سيكون حاجزاً لبلوغ ذلك؟.

            إن ما يمكن ملاحظته أن الرؤى تبقى مشتركة لتجمع بين هذه الشخصيات ، إلا أن إشكالات الفعل الثوري تبقى متباينة. ذلك أن منطق المرونة والحزم يبقى سيد هذا الموقف. وهذا طبعاً ما تأكد من خلال الفصل الثاني من هذه المسرحية أين يجري الحفل الذي أشرف عليه بعض المومولين ، ليأتي كمحك حقيقي يكشف عن جملة من هذه التسالات وإن كان إيقاعه بطيئاً في الفصل الأول ، إلا أنه ومع ذلك لا يخلو من محاولة اعتناقه والارتماء في أحضانه، أو حتى تجنبه وهو ما لخصه لنا الكاتب من خلال قول عائشة:

عائشــــة: مش عارفة يمكن تكون مسرحية القلق أو مسرحية الخوف. عندي مشهدين لا ثلاثة.

وبالرغم من هذا الخوف والقلق الذي يحاول أن يطفئ جذوة القتيل الثوري، إلا أن مقبل يصر وبعزم على ضرورة تبني موقف فعلي وملموس

مقبــــل: ليه بتفضل الجملة الاسمية على الفعلية.

شلبــــي: اسمعني أنت بتفضل الفعلية.

مقبــــل: الجملة الفعلية أولها فعل وبعدين فاعل.

            ذلك أن الفعل أو المجال العلمي هو الذى سيمكن من صنع الهدف، لكن يأتي حمودة الذي يبدو راضياً على ما هو فيه ، لذا يعرب عن موقفه بواسطة السكوت.

حمــــودة: مش عايزين دوشة عايزين ننام.

ويتدخل حنفي للالتقاط هذه المفارقة التي أصبحت شاخصة على هذا العصر:

حنفــــي: كل واحد فينا بيكلم الثاني بالسكوت ذي  الشوارع ما بتكلم الشمس باللون الأصفر .. آه فيه فيه . كانت فيروز بتغني في عيني، وهي بتشوفها في عيني والحاجة الثانية إنها كانت لابسة فستان أصفر النهارده.

            فيروز رمز الهزيمة بلا مبرر، تحاول أن تغني الواقع في غنائها المزركش في محاولة يائسة للبكاء والتهليل للنصر بلا نصر، لكن فستانها الأصفر يحيل على موقفها الشاحب، وهو ما يجري في  الشوارع وهي تحاكيها الشمس بأشعتها الصفراء رمز السكوت والتراجع. لكن مقبل بوصفه يمثل المفجر الثوري، يصمم على المضي نحو الثورة.

مقبــــل: لازم نطلع لابد أن نطلع في الصبح نروح معه.

            وهذا انطلاقا من أخذ العبرة من الآخرين الذين حملوا راية الدافع، وهو شعور يقاسمه فيه أيضاً حنفي.

حنفــــي: (لنفسه) وضوضاء الحفل بلا صوت. من يغني في أسبانيا غير لوركا من يرسم عيون الفجريه غير بيكاسو بكحل الشروق من يمسح جبين الضواحي البعيدة غير جون بيرس (الضوء العام يرجع)..

وهو حصاد الشعوب الحالمة بالانعتاق والحرية ، وعلى النقيض من ذلك وبنوع من التردد، يأتي حمودة ليعرب عن موقفه بالرغم من محاولة شلبي في إقناعة.

شلبــــي: أطلع قالي.

حمــــودة: ما قادرش يا صاحبي.

شلبــــي: إمسك في ذراعي.

حمــــودة: ذراعك مش ذراعي..

إلا أن سبل النضال لابد أن تنظم حتى لا تكون معرضة للفشل، وهو موقف سلكه مقبل أي أن الثورة لابد أن تمر عبر مراحل وليس دفعة واحدة.

مقبــــل: لابد أن تختفي أشياء داخلنا حتى تكتمل.

حمــــودة: فتحت حقيبتك اليوم فوجدت كتابا أحمر.

مقبــــل: وماذا في ذلك.

حمــــودة: أنت تفكيرك أحمر.

لكن هدى وبجانب حمودة ، تؤكد على أن هذه الثورة يجب أن تتأجل إلى موعد لا حق، وهو ما ترفضه نادية التي هي دائماً مخلصة للنداء.

هــــدى: لابد أن ننام الآن بل ندع الغد بفكرة يأتي إلينا.

ناديــــة: لابد أن نبدأ. لم الآن حتى ننشر فيهم الرعب.

            وبعد إفصاح السيد حافظ عن مواقف أبطاله الشبان ، يحدد لنا وجهتهم والتي يبدو إنها داخلية قبل أن تتعدى حدود الخارج.

مقبــــل: الباب مفتوح هل نخرج يا أصدقائي؟.

ياســــين: (إلى مقبل) أنا أنجذب للداخل لا للخارج.

            وهو أن السيد حافظ هذه الصورة العجيبة التي يحملها البلبل العاشق للحرية وهو يمتطي جناح الثورةِ، من خلال الحوار الذي دار بين المشرف طه وياسين.

المشرف طه: إنت بتقصد إيه إذا ما بعتيش البلبل أنا حاذبحه.

ياســــين: ليه يطيره إفتح القفص طيره أنا بقولة أمش وأطيره ألقيه بيرجع هنا ثاني.

            ذلك لأنه يؤثر أن يحرر الناس، وهو يفضل أن يلتحم بضمير وطنه ويأبى الهروب من الواقع. وهو ما يتفق مع موقف مقبل الذي فضل الدخول، بعد أن كان ينوي في السابق الخروج، وهذا حتى تكون الثورة جماعية. ويحمل معه دور المصلح المقبل على تنوير الجميع ، بالرغم من أن المشرفة خديجة تحاول أن ترغمهم على الاعتذار.

المشرفة خديجة: من يريد أن يتعهد ليس في هذا عيباً جوهرياً. واعتذروا لقد اعتذر بيرم التونسي واعتذر النحاس واعتذر نزار. واعتذر كثيرون ليس في هذا عيب هكذا الحياة..

            لكن وبما أن الحرية لها ألف مكان وعلى المرء أن يقرر فقط كما يقول السيد حافظ فإن الجماعة وبصوت واحد تختار الخروج، الذي يشربه مقبل وهذا بعد أن تخلصوا من قيودهم الداخلية.

حنفــــي: الثورة للجميع. لنخرج جميعاً حتى نعرف على أي أرضية نقف..

وليعلن الجميع أن قلبهم ليس مثل الأحجار بل هي كالأشجار لا تموت ولا تذيل.

الجمــــيع: ضع السماعة أيها الطبيب على قلب شجرة واسمع قلب الأشجار ضع السماعة أيها الطبيب على قلب حجرة واسمع قلب الأحجار. إن قلبي ليس مثل قلبهم. إن قلبي ليس مثل قلبهم..

وهذا ليخلص حافظ في النهاية ليؤكد من أن الثورة بالرغم من أنها تبدو مستحيلة ، إلا أنه بالإمكان تحقيقها.

 

المظاهر الفكرية التجريبية في هذه المسرحية:

قبل الحديث عن الأبعاد الجمالية في هذه المسرحية، يجدر بنا القول أن محاولة تفكيك أي عملي أدبي، ومهما كانت طبيعته يعتبر إجراء تعسفياً قد يسيء إلى هذا العمل أو ذاك. ولكن بحكم العادة، فقد آثرنا معالجة كل جانب على حدة، ونقصد بذلك جانبي المضمون والشكل باعتبارهما دعامتين أساسيتين في عملية تشكيل العمل الأدبي، وهي وقفه لم تأت لتأكيد على مدى أوليوية أو ضرورة طغيان جانب دون الآخر، بقدر ما تحاول تسليط الأضواء عليهما لا سيما إذا وضعنا في عين الاعتبار أن لكل إنتاج أدبي خصوصيته التي تفرض طريقة أو رؤية معينة يتبعها المبدع، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أن تكامل العنصريين يعد شرطاً أساسياً ، وحتى لا نبتعد أكثر عن جوهر موضوعنا الذي نحن بصدد دراسته في هذا الفصل، ننتقل مباشرة إلى الجوانب الفنية والجمالية التي حفلت بها مسرحية السيد حافظ: حبيبتي أنا مسافر … "التي تعد لبنة جديدة تضاف إلى ذلك الصرح من سلسلة أعمال المسرحية التي قدمها الكاتب.

            وهي تنبع من تلك الرؤية التكاملية التي ألفناها عنده. ، إذ تضع في عين الاعتبار ضرورة الاحتفاء بالتجريب الفني: "لأن التجريب بدون وعي فني يصبح جموحاً طائشاً"

            هذا طبعاً إذا سلمنا بالمناخ الذي عاش فيه السيد حافظ، والذي تحالف فيه الواقع بمختلف تناقضاته، وكذا الراهن الثقافي الذي وضع المسرح المصري والعربي عموماً في مفترق الطرق. لقد كان لزاماً على حافظ أن يمتطي ألواناً جديدة وتقنيات أكثر تلاؤماً بإمكانها أن تمنح الدفء والحرارة للمسرح العربي. هذا ما يجعل الجانب الفني يسير بمحاذاة على بلورتها. مما يجعل التجريب تكاملياً يستجيب لكل مكونات الفن الدرامي.

            وبهذا الشكل يمكن القول إن التجريب عنده جاء استجابة للجمهور العربي الذي يتطلع دائماً إلى البديل، عن طريق الالتحام بقضاياه وكشف واقعة المريض، وبنظرة جديدة تستقى بكارتها من تلك الرؤية الفنية المظبوطة بأفق تجريبية واسعة. فبقدر ما يحتاج هذا الجمهور إلى من يعانق قضاياه بالكيفية إلى يأمل في إجراءات فنية جديدة تتيح له فرصه المشاركة في الفن الدرامي، حتى تجعل منه إنساناً فاعلاً ومتحركاً دائم التساءل والتفكير: "وتعمل هذه الحواس عند السيد حافظ من داخل سيطرة التوتر والشعور بالجسر، فيقدم إلى المتلقي شحنات تواليه من الانبهار المدهش والمثير، فهو لا يقصد من فنه أن يهدهد حواس المتلقي، وإما يرمي إلى أن يحدث في داخله صدمة المباغتة التي تولد فيه التوتر والحيرة والتساؤل".

            وهو ما يعكس بعمق رؤيته المتفتحة التي لا تتقيد بتعليمات مسبقة تشل حركة الإنسان بالتفاعل مع ما يطرح أمامه على خشبه المسرح، أو بالأخرى حلبة هذه الحياة. والتي لا تخضع إلى الثبات، لأنها متجددة ومتغيرة بين الحين والآخر، وهو ما لم يكن متوافر في تلك التقاليد الأرسطية بقواعدها الضيقة. والتي حاول كاتبنا دائماً يسعى إلى تخطيها بخلق ميكانزمات جديدة تميزه عن باقي المسرحيين العرب، حتى وإن رفعوا شعار التجريب.

            إن حكمنا هذا لن يتضح إلا عبر مجموعة من الأبعاد المسرحية الجمالية التي نحاول مقاربتها عن طريق النقط التالية:

- الصراع الدرامي.

- الحـــــدث.

- الزمـــــان.

- المكـــــان.

- الحـــــوار.

-  الشخصــيات.

- اللغــــــة.

 

الصــراع الدرامــي:

            إذا كان الصراع في الدراسة القديمة يقوم على أحداث تسلسله، فإن الصراع بالمفهوم الحديث أصبح يرتبط أكثر على أساس التدرج والتطور، إذ لا يراعي ترابط الأحداث فيما بينهما، بقدر ما يركز على مجموعة من المتناقضات. وهو ما نجده عند السيد حافظ، فالصراع عنده متنوع تتفاعل فيه المواقف بين الأبطال، ليتخذ الصبغة الجدلية بين هذه المواقف ليعرض من خلالها مجموعة من المفارقات. وهذا بدأ بصراع الأبطال مع أنفسهم، وهو عبارة عن خلجات نفسية تحمل المعاناة كما تسعى للبديل. بالإضافة إلى صراع الأبطال أو الشبان مع المشرفين، وتعرضهما لوسائل القهر والاستلاب هذا ما يؤجج الصراع، ومن ثم كان كفيلاً بأن يولد صراعاً على مستوى آخر متمثلاً في اختلاف مواقف الشبان أنفسهم إزاء ما يطرح أمامهم، جعلت المعاناة تنتقل نحو عامة الشعب مما يجعل هذا الصراع لا ينحصر في هذه القوى المستبدة، بقدر ما هو صراع بين أفراد الشعب الواحد التي تكرسها تلك المواقف المتباينة والمختلفة، حين أعرب الشعب عن إحجامه عنها، واتخاذ مواقف شجاعة وبناءة عن طريق ما حملة الأبطال أنفسهم من مواقف وردود أفعال. وهذا ما يجعل الصراع الدرامي حيوياً ومتحولاً يسعى إلى سبر أغوار المجتمع وكشف النقاب عنه.

الحــــدث:

            إذا كان أرسطو شديد الحرص على وحدة الحدث، فإنه على العكس من ذلك فقد عمل السيد حافظ على تكسير ذلك الترابط التقليدي فيما يخص الوحدات الثلاث، لأنه لا يركز على حدث بعينه، لكن الأحداث تنساق متظافرة فيما بينهما، وتتحول معه نقطة النهاية في البداية، وهو ما تأكد لدينا من خلال الحوارات النفسية التي جاءت في بداية الفصل الأول، والتي في الواقع تحمل في طياتها الحلم بالحل، لتعود بعد ذلك في نهاية الفصل الأول لتعود من جديد، وتحت ضغوط نفسية فرضها صراع الأبطال مع المشرفين.

وهذا ما يجعل الأحداث تسير في خط دائري.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جاوزة في إثارة مجموعة من الأحداث التي واكبت النكسة وما تلاها، مع إبراز مجموعة من المتناقضات التي تتدخل بين الحين والآخر،

ليطرحها أبطال هذه المسرحية. وهذا بالرغم من كون المضمون قد سار فيه على طرح الأحداث بصفة تصاعدية تشتد حدتها في الفصل الثاني، حين يواجه الأبطال جهات أخرى أكثر تسلطاً تحاول تفتيت أحلامهم. وهذا لا يعني أن السيد حافظ يقوم على فصل الأحداث لكن على العكس فهو يسعى ليجعل من الحفل محكا حقيقياً يختبر فيه أبطاله وقدرتهم على الفعل الثوري، وهذا حتى يهئ القارئ على التفكير في مصيره بجدية مستعينا بالتغريب ودورة في بلورة الأحداث حتى يدفع متلقية على صنع القرار فهو: "يترك للجمهور أن يكتشف الحلول وأن يسعى إليها، بالرغم من النزعة التجريبية لا يذهب أصحاب المذهب السياسي الذين اتخذوا من المسرح وسيلة للتعليل والتنوير والاستفزاز والتحريض على الثورة ضد ما هو معوج وذلك توصلاً إلى عالم أكثر عدلاً، وأقرب إلى المجتمع العاقل" فحافظ لا يلتزم بحدث معين، وإن كان حدث الهزيمة هو الرئيسي، بل يرسم إضافة إلى ذلك مجموعة من الأحداث التاريخية وهذا للتعبير عن مجموعة من المواقف الراهنة بطريقة عقلانية، وفنية في نفس الوقت حيث ينسجم فيه الماضي مع الحاضر مما يجعل الأحداث تبتعد عن ثلاثية الخط الأرسطي، ساعياً من ذلك إلى تفجير الأحداث، عبر إبراز مجموعة من المتناقضات التي يخضع لها الواقع بأحداثه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. والتي لا تهدأ على حال.

الزمــــــان:

            يصادف عام 1968 تاريخ اندلاع المظاهرة الطلابية التي نشبت عقب هزيمة حزيران 1967 وهو ظرف خطير اجتازته الأمة العربية عموماً، ومصر على وجه الخصوص هذا ما يدفعنا على القول بأن الزمن زمن إدانة واستنكار ضد الأجهزة العسكرية التي كانت وراء النكسة.

فهل هذا يعين أن حافظ قد التزم بوحدة زمنية معينة؟ أو أن الزمان متعدد؟.

            إن من يطالع تحديد الزمان الذي لجأ إليه الكاتب في بداية المسرحية ، سوف يتجه إلى الافتراض الأول. لكن الممتحن الحقيقي فيها سيظهر له العكس، آية ذلك مجموعة من التقنيات التي لجأ إليها الكاتب، لتكسير وحدة الزمان عن طريق الحلم وبواسطة تقنية (فلاش باك) وهو زمن لا يقل عن هذا الحاضر المفعم بالتناقض والمعاناة، وكذا الفوارق الاجتماعية.

ناديـــــة:          أمي باين عليها كانت جارية عند الخدوي إسماعيل.

هـــــدى: أختي كانت خدامه الباشا.

مجيــــدة:         أبوي كان في ذيل كلب الأميرة.

            أي أن الواقع متجدد بتجدد الزمان ، مما يجعل الماضي شاخصاً في الحاضر ، تحيا معه كل محاولة لتنبعث من جديد لتجاوز هذا الماضي والحاضر، مضيا نحو المستقبل الأحسن.

عائــــشة:         آه يا أحلامي أي حاجة أطلع بيها المجد الزائف وأقدم عمري النهارده القمر بيطلع الصبح والظهر والنجوم والشمس في  الليل. عايزه أمضي على كرت يهد البيوت ويهد العالم..

            فالزمن بمرارته لا ينحصر في الهزيمة، بل إن جذوره تمتد في التاريخ عبر أطواره المتعددة.

فحافظ يتحدث عن أزمنة متعددة حيث الإنسان المغلوب على أمره (في أفريقيا آسيا وأوروبا)، ليجعل من الواقع ينسحب على كل إنسان وفي كل زمان، وهذا ما يجعل الماضي والحاضر يتفاعلان ليسلط كل منهما ظله على الآخر في سبيل الغد المشرق.

            هذا ما يجعل زمن وقوع: أحداث هذه المسرحية 1968 ، زمن كتابتها يتداخلان وهو عام 1979. فالزمان يعود إلى الهزيمة بزخمها المرير، وواقع ما بين النكسة حيث المعاناة أكثر التي تعرض لها إنسان هذا العصر، خصوصاً بعد سقوط الزعامة الناصرية، وظهور قوى جديدة أعلنت هي الأخرى عن إفلاسها، وبالتالي زادت من محنة هذا الإنسان.

            فالزمان متغير في نظر الإنسان الطموح، وثابت في نظر ذلك الإنسان الذي يفضل السكون.

المكـــــان:

            ما يقال عن الزمان يمكن أن ينطبق أيضاً على المكان، فالكاتب حتى وإن حدد لنا مكان هذه المسرحية في أحد الملاجئ. إلا أن الملجأ بدلالته يمكن أن يكون موقعاً لأماكن متعددة فهو ملجأ هذه الحياة برمتها، حيث الإنسان المقهور في كل مكان أينما حل وارتجل، بل ومطارد بأجهزة السلطة التي تتربص خطواته في كل صوب. وعلى العكس لا تخلو الحياة ممن يسعون إلى التحرر في كل مكان ( إ   ن   س ا   ن).

ياسين وهـدى:   يا من تمر في قناة بنما هناك في كولا لامبور ألف. يا من تمر في قارب في جاكرتا هناك في مانيلا نون. يا من تسأل على الطائرة الذاهبة إلى إسلام أباد هناك في شنغهاى. يا من تسكن في أحياء باريس الفقيرة هناك في فضلات المصانع.  

            وعلى هذا فإن الحرية مطمح يخامر كل إنسان في كل زمان ومكان. وهذا ما جعل السيد حافظ يضع النهاية غير واضحة، فوجهة الخروج لم يحددها لنا، فقطار السيد جوال في كل مكان يبحث عن الحرية ويقاوم ضد الموت.

أزهــــار:          لا تفكر يا سيدي فحديقة الخالدين موجودة أو حديقة الشلالات أو الجراج أو الشوارع. فالحرية لها ألف مكان وعلى المرء أن يقرر فقط ويرى.

 الحــــوار:

            وهو من الدعائم التي يقوم عليها البناء الدرامي، إذ من خلاله يتم الكشف عن سيرورة الأحداث وتفاعلها، وهو فعل تقوم به الشخصيات. لكن ما يميز الحوار عند السيد حافظ هو ذلك التنوع ليكون همزة وصل بين مجريات الأحداث ومشاعر الشخصيات التي تساهم في بلورته وهو حوار غير جاف وعقلاني يفصح عن مجموعة من المواقف والأفكار.

            وقد عمد حافظ إلى تلوين الحوار بين المونولاجات الداخلية، أو الحوارات النفسية التي وظفها في بداية المسرحية، وهي عبارة عن أفكار مختنقة لا تتعدى صدر الإنسان لتجعل من الكتمان حائلاً بين تحقيق أحلامها، وبين واقع مزيف يخنق تلك الأحلام الواعدة فقد يبدو هذا النوع من الحوار لا يربط بين الشخصيات الأخرى، ولكنه في الواقع يتجه ليطعم الحوارات الجماعية، ومن تم فهو لا يقصد إحداث قطيعة مع هذه الشخصيات بقدر ما يدعوها إلى التفكير جماعياً. هذا ما جعل الأحلام تكاد تكون متقاربة ، حتى يحيل القارئ على الجو النفسي الذي ينتاب شخصياته.

            كما لجأ الكاتب إلى الحوارات التي تكتسي صبغة الترديد الجماعي، وهي عبارة عن أصوات يكمل أحدهما الآخر، وهو حوار يكشفه عن مجموعة من المتناقضات التي يعاني منها الأبطال، مما غداً قاسماً مشتركاً الشيء الذي يحثهم على الحل الجماعي.. وما يمكن أن نلاحظه أيضاً من الحوار عند الكاتب هو تراوحه بين ا لطول حين يناجي الأبطال أنفسهم، تبعاً لنفسياتة التي تعاني العديد من المشاكل، وبين القصر حين يحاور الأبطال غيرهم إلا أنه يبقى مركزاً حتى يوصل الفكرة إلى ذهن التلقي، بطريقة لا تبعث الملل في نفسه.

            إن جدلية الحوار التي اعتمدها الكاتب، تقوم على التبادل بين الحوارات ليحيلها على ذهن القارئ فتخاطبه بعقله. وهو ما حث السيد حافظ على تغريب الحوار انسجاماً مع الجو السياسي للمسرحية، وهذا لا يقف طبعاً عند حدود جوفاء تعليمية، بقدر ما يحيل جمهوره على أن يتخذ موقفاً من هذه الأحداث.

عائــــشة:         حبيبتي في ألفى حته في البلد.. سواحة على كل دار تمسح من عرق الغلابة المرار.

من أجل أن يقربنا من التناقضات التي تطبع المجتمع، وما ينحر على ذلك من فقر وحرمان، كما كان للأحداث السياسية نصيب من الواقع الراهن الذي توجد عليه الأمة العربية بعد أن اغتصبت أراضيها.


 



(1) محمد زهير: المسرح المغربى والبحث عن هوية فاعلة مجلة التأسير (المغربية) السنة الأولى العدد الأول يناير 1987ص: 40.

(1)      عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن فى المسرح الاحتفالى الطبعة الأولى سنة 1985 منشورات درا الثقافة البيضاء سلسلة الدراسات النقدية 3 : 51.

(1)         محمد مسكين: المسرح العربى الحديث بين ضياع الهوية وغياب الرؤية التاريخية مجلة الوحدة السنة الثامنة العدد 94 95يوليو أغسطس 1992ص: 7.






0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More