Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الخميس، 16 سبتمبر 2021

26 اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ دراسة بقلم / أحمد فضل شبلول

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(26)

اللغة الشعرية
فى
مسرح
السيد حافظ
دراسة بقلم / أحمد فضل شبلول

دراسة من كتاب إشكالية الحداثة والرؤى النقدية في المسرح التجريبي 


الســيد حــافظ

)نموذجاً)

 


اللغة الشعرية
فى
مسرح
السيد حافظ
دراسة بقلم / أحمد فضل شبلول

 

فى مجرى الكلمات الأولى

عرفت الحرية والإنسان والرغيف

فى درب الحناجر والأعلام والدم

عرفة الثورة والفن والتغيير

يا عيشقتى.

تمنيت أن يزفونى إليك.. الخلاص والتطهر

يا عشيقتى.

نشرق دائماً.. مع إنهم يسلبونا كل يوم قيمة.

أعرف كهفك الخفى.

عينيك المتوضئة.. شفتيك النورانية.

أنت يا إيزيس.

أعرفك وأنت لا تعرفيننى.. عشيقك أنا.. أنا.

أسير فى الطرقات أتمنى أن ترينى ندرة الإخلاص ورغبة العظمة.

"السيد حافظ خليفة للنورس المهاجر للشمال"

(حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث ص2)

ارتبط المسرح منذ فجر أيامه ارتباطاً وثيقاً بالشعر.. بعالمه بلغته.. بإيحاءاته وإشعاعاته وكثافته.. فنرى على سبيل المثال كتاب المسرح الأوائل العظام الذين أرسوا الدعائم الكلاسيكية للمسرح أمثال سوفوكليس وايسخولوس.. الخ صاغوا مسرحياتهم صياغة شعرية متينة سواء من ناحية الأسلوب أو اللغة أو الحوار.. ثم تطور الارتباط العضوى بين المسرح والشعر تطوراً هائلاً فى العصور التالية حتى وصلنا إلى الكتاب الذين صاغوا مسرحياتهم صياغة نثرية محدثين يذلك انقلاباً هائلاً فى هذه العلاقة الجذرية بين المسرح والشعر.

يقال إن المسرح بالنسبة لعالمنا العربى فن جديد أو دخيل علينا وعلى لغتنا، غير أن هناك أراء تناقض هذا الرأى فهناك من يقول إن الحياة العربية عرفت المسرح منذ القرون عديدة وإن لم يكن بنفس الصورة التى عرفها اليونان قديماً، وأنصار هذا الرأى الأخير يقولون إن الشاعر حينما كان يقوم بالقاء أو إنشاد قصائده فإنه كالمسرحى الذى يقف على خشبة المسرح.. فالجمهور أمامه وهم المستمعون لإنشاده والمتجاوبون معه تجاوباً هائلاً، وخشبة المسرح من الممكن أن تكون مكاناً عالياً أو صخرة يقف عليها الشاعر، أما الزمان والمكان فهما زمان ومكان القصيدة التى تنشد.

عموماً سواء أخذنا بهذا الرأى أو ذاك فإن هذا لن يؤثر إطلاقاً فى نظرتنا الحالية للمسرح الشعرى العربى الذى عرفناه بصورته الحقيقية من خلال مسرحيات شوقى الشعرية مصرع كليوباترا، مجنون ليلى.. الخ. أو قيس ولبنى لعزيز أباظة أو مسرحيات باكثير أو التطور الذى أدخله صلاح عبد الصبور على المسرح الشعرى من خلال مسرحياته مأساة الحلاج ليلى والمجنون.. بعد أن يموت الملك..الخ.

وعموماً فإن الشعر فى مثل هذه المسرحيات كان شعراً يعتمد على إقامة الوزن والقافية إقامة كاملة فى مسرحيات شوقى وأباظة وباكثير والالتزام بالوزن والقافية فى بعض الأحيان فى مسرحيات عبد الصبور، إلا أن القضايا التى حاول أن يعالجها هؤلاء الشعراء كانت فى أغلبها بعيدة عن الواقع المعاش وعن ما يدور وما يحدث فى المجتمع العربى وقت كتابة هذه المسرحيات.

إذن هناك فاصل زمنى بين ما يعالجه الشاعر فى مسرحيته أو ما يدور من أحداث فى مسرحيته وبين ما يدور وما يحدث حوله أو فى حياته، اللهم إلا فى بعض مسرحيات صلاح عبد الصبور الذى حاول أن يضرب عصفورين بحجر واحد فيها  أو أن يلعب على حبلين فى وقت واحد.

من هنا نستطيع أن نثير قضية الصدق فى العمل الفنى الذى يقدمه لنا هذا الصدق الذى هو أهم سمة أو ميزة فى مسرح السيد حافظ فى كتاباته. والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هل الكاتب أو الشاعر عندما يكتب عن عصر أو أحداث يعيشه؟

الإجابة تكمن فى الكاتب أو الشاعر نفسه ومدى رؤيته ومعايشته للتاريخ وللواقع المعاش.

غير أننى، ومن خلال كتابات السيد حافظ العديدة أستطيع أن أؤكد أن الكاتب الذى يعيش عصره بكل متناقضاته وبكل نبضه وبكل حرارته ومشاكله هو الأصدق فى التعبير من الكاتب الذى يكتب عن تصرفات أو أحداث مضت.

وحتى لا نخرج عن ما جاء فى العنوان "اللغة الشعرية" فى مسرح السيد حافظ "فإننا سنحدد أولاً ما هو المقصود باللغة الشعرية فى هذا المجال.

فى رأيى أن اللغة الشعرية فى أبسط مفهوم لها هى اللغة الموحية المكثفة التى تعتمد على الاستعارات والكنايات والتشبيهات.. ورب لفظ واحد فيها يغنى عن أسطر عديدة فى لغة النثر، وهذا ما يطلق عليه التركيز أو الاقتصاد فى استخدام الكلمات. وبما إننا أضفنا كلمة "شعرية" إلى اللغة العربية فهل يعنى ذلك إننا لابد أن نقيم الوزن وهو أم ما يميز الشعر عن فنون القول الأخرى؟

فى الواقع إن إقامة الوزن بشىء هام وضرورى بالنسبة للقصيدة الشعرية أو على الأقل وجود شىء من الموسيقى يكون له فعله وأثره فى القصيدة ولكن هذا لا ينفى أو يسقط صفة "الشعرية" عن اللغة التى لا تأخذ من الموسيقى أو الوزن متكئاً لها.

من هذا المفهوم خرجت علينا مدرسة "القصيدة النثرية" أو "القصيدة المنثورة" التى لاقت رواجاً كبيراً لها فى سوريا ولبنان.. والتى أخرجت لنا الشاعر الكبير / محمد الماغوط وغيره من الشعراء.

ولقد استطاع السيد حافظ فى الكثير من أعماله المسرحية أن يستفيد من هذه المدرسة أو هذا الاتجاه فى الشعر العربى المعاصر.

ونستطيع هنا أن نؤكد ما قاله المخرج المسرحى "سعد أردش" فى مقدمة حول مسرح السيد حافظ "حبيبتى أميرة السينما ص 17" يقول سعد أردش " الشعر عند الكاتب لا يعترف بعلم العروض وبكل ما يقوم عليه الشعر، قديمه وحديثه، من موازين وقواف.

وغير ذلك مما يميز نسيج الشعر، ولكنه نوع من الشعر يقوم بالدرجة الأولى على تصور ما يمكن أن ينطق به الإنسان فى حالات اللإوعى أو اللاوزن، مثلما يقع فى الكوابيس أو فى لحظات المفاجأة بكبريات المصائب،.. "ويضيف" سعد أردش فى ص 18 والبناء الشعرى - ويقصد عند السيد حافظ - لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى، الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ، وهو نوع من اللغة يبعث فى النفس ذلك الحنين، وتلك الوحشة إلى المثل العليا فى الوطنية، وفى الأخلاق، وفى الدين، وفى التنظيم الاجتماعى التى تبعثها الصور التراثية الشعبية من ملاحم وحواديت ومواويل وأشعار.

وإنى لأتساءل والسؤال لسعد أردش - أمام هذا البناء الشاعرى للغة الكاتب : إذا لو ملك الكاتب ناصية الصنعة الشعرية وعلومها فصاغ حواره شعراً حقيقياً بكل ما فى الشعر من موسيقى، وإيقاع وأوزان؟!

وليعذرنى القارئ إذا اضطررت فى بعض الأحيان إلى الخروج عن عنوان الدراسة "اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ" ذلك أن مسرح السيد حافظ مليئ بالجوانب التى لا نستطيع أن نغفلها ولا يستطيع أن يغفلها أى ناقد.

وعموماً سوف نرى فى بعض الأحيان أن السيد حافظ ينجح فى إقامة بعض الأوزان وبعض الإيقاعات فى بعض الجمل الشعرية التى يستخدمها.

ويعد هذا الحديث النظرى عن اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ "نستطيع أن ننتقل إلى الجانب التطبيقى، ولكن قبل الانتقال إلى هذا الجانب يتبقى لنا أن نوضح أن السيد حافظ استطاع أن يجرى الحوارى الشعرى أو الشاعرى على لسان الشخصيات كل حسب دوره وكل حسب إدراكه ومفهومه وحسب نظرته للحياة. فعلى سبيل المثال الحوار الذى يدور بين كل شخصيات مسرحية "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث" يختلف كل الاختلاف عن الحوار الذى يجرى بين شخصيات مسرحية " الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء" سنجد إنه لا يوجد لغة شعرية على الإطلاق تجرى على لسان أشخاص مسرحية "حدث كما حدث" اللهم إلا بعض الأمثلة الشعبية التى سوف نتحدث عنها فيما بعد.

وليعذرنى القارئ إذا اضطررت فى بعض الأحيان إلى الخروج عن عنوان الدراسة "اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ" ذلك أن مسرح السيد حافظ مليئ بالجوانب التى لا نستطيع أن نغفلها ولا يستطيع أن يغفلها أى قارئ أو أى متحدث عن مسرحياته فمسرحياته غنية وثرية بكل شىء.. ففيها الحياة بكل جوانبها، بكل سوادها وبياضها بكل سيئاتها وحسناتها.

وبادئ ذى بدء نستطيع أن نقول إن مستويات اللغة التى تجرى على لسان شخوص مسرحيات السيد حافظ تنقسم إلى ثلاثة مستويات :

المستوى الأول وهو مستوى اللغة العربية الفصحى وهو نادر وجوده على لسان الشخصيات ومن أمثلته قول العجوز فى مسرحية "الحانة الشاحبة العين تنتظر الطفل العجوز الغاضب" ص 18

"أيتها النجوم اللامعة على صدر السماء اهبطى إلى الأرض امسكى بيدى

خذينى إلى المحراب

خذينى إلى الخانة

فقد ضللت الطريق

بل الطريق ضلنى..

أما المستوى الثانى فهو لغة المثقفين أو كما يسميها البعض "اللغة الثالثة" وهى عادة ما تكون خليط بين اللغة والعربية الفصحى ومثال على ذلك قول "مقبل" فى مسرحية "حبيبتى أنا مسافر والقطار إنت والرحلة الإنسان" ص60.

محارة إنت ولا مركبة تسابيح

الشمس فى حنجرتى بتتولد

وجبينى خريطة الأرض

وأنا عاصفة رمل على شط البحر.. "

أو قول الذى يحاول فى مسرحية "حبيبتى أميرة السينما ص 202"

واللحن النورى الخفاق، والإبهام الثورى

والإبهام فى الثدى

أبصم على الثدى الجائع ويدى الأخرى بها رغيف.

ويدى العطش والثدى والماء والمرأة العجوز الشمطاء

الذى يأت والذى لا يأت

اشفقى بى لحظة لليوم الذى يأت والذى لا يأت

اشفقى بى لحظة

افهمى ما أقول ينفتح عمرى راحة.

يتبخر الضيق من زحام نيويورك واحة"

أما المستوى الثالث فهو اللغة العامة الصرفة وفى داخل هذا المستوى تتعدد المستويات "كل شخصية حسب تفكيرها" وحسب واقعها وحسب وجودها فى المستوى الاجتماعى الذى تعيش فيه"

اقرأ معى قول "ضياء" فى مسرحية 6 رجال فى معتقل 500/ب شما حيفا ص 114.

" ضياء : إوعى تنسى الجناين ضحكة خضرة.. والشوارع لسة زحمة.. والعيال لسه بتجرى فى الحوارى.. والطينة لسة زى ما هى لسه سمرة.. لسه صلبة.. وحبيبتى قاعدة مستنيانى.. فارده شراعها حنان وصمود.. فتحالى صدرها مداين.. فتحالى كفها ومصطبة قاعة.. لسة حبيبتى خطوتها فدان.. دمعتها زلزال."

أو قول "عائشة" فى مسرحية "حبيبتى أنا مسافر.. ص 16 (ضميتك على صدرى.. ضميتك حلم البلد.. ضميت النار والحطب.. ضميت التراب والضلوع والبوص.. ضميت الدود فى الحجر).

ومن الملاحظ على مسرحيتى "هم كما هم ولكن ليس هم الزعاليك" و"حدث كما حدث ولم يحدث أى حدث" إنه لا يوجد أى حوار شعرى قد تم بين شخوصها كما لا توجد أية لغة شعرية جاءت على لسان أشخاصها، وفى الواقع كان المؤلف موفقاً فى هذا كل التوفيق.. فشخوص هاتين المسرحيتين من أدنى الطبقات الاجتماعية فى المجتمع ويفهم من الحوار الذى يتم بينهم إنهم يعيشون بالكاد.. إنهم يجرون وراء لقمة العيش.. إنهم لا يفكرون إلا فى الطعام والشراب والجنس لذا جاءت اللغة التى يتكلمون بها لغة عامية صرفة يتخللها الأمثال الشعبية والأدعية التى تتم بين أهل البلد.. واستلهام بعض أيام القرآن الكريم التى يتباركون بها فى بعض المواقف المتأزمة أو ليتعظوا بها.

ونقطع هنا جزءاً من الحوار الذى يدور فى مخبأ عام فى أحد أحياء الإسكندرية والذى تم فى مسرحية "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث ص48" لندلل على ما ذهبنا إليه سابقاً.

أم سعيد:      أنا قلبى مخطوف على ابنى.. هو أنا حيلتى غيره.. ده اللى طلعت بيه من الدنيا.. بقول يا بنتى عايزة أروح أشوفه.. الـ..

أبو سعيد: (مقاطعاً) تشوفيه فين؟

عرفات:       (لنفسه) دنيا فانية.. كل من عليها فان.

ذكى:   (لروحية) مش معقول يا روحية الكلام ده.

روحية:       اسمع بس يا معلم ذكى.. اللى يرميك ارميه.

ذكى:   بس أنا بحبها يا روحية.

روحية:       بطلوا بأه.. واسمعوا ده.. يا راجل اللى يرميك.. ارميه.. تقولى بحبها.. وعلى كل حال مش رايداك.. واللى يريدك ريده وعلى رأى المثل من حبنا حبناه.. وصار متاعنا متاعه.

ذكى :  ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه.

روحية :      طيب.

ذكى :  مش بايدى.. أنا رايدها يا روحية.

أما عن مسرحية "مسرحية "هم كما هم ولكن ليس هم الزعاليك" فنقتطع هذا الحوار ص 169.

حوده: صحيح أنا صايع.. وماليش أهل يربونى لكن عملوا إيه اللى أهلهم ربوهم وخلوهم كبار وموظفين قد الدنيا أسيادك أحسن من اللى بيشغلوك أحسن من مدير بنك.. بييجوا هنا.. يركعوا تحت رجلى.. ويقولولى يا حوده بيه ما تنسنيش يا حودة بيه الساعة 9 يا حوده بيه.. وبفلوسى باشترى ناس وبابيع ناس.. وبفلوسى باعرف ازاى اذلكم با ناس يا وسخة يا بتوع الفلوس (يهجم على عم شحته وفى يده مديه.. يمنعه محمود) على الحرام أقطعك.. على الحرام أرسم على وشك بالبوية.. على الحرام أعمل منك كفتة..

إذن لغة الحوار فى هاتين المسرحيتين لغة شعبية بكل ما تحمله من عبل الشارع المصرى فى الحوار والأزفة.. لغة مباشرة لا تحملها فى مضمونها أية إيحاءات أو تلميحات لغة ليس فيها ذلك التوتر الذى تتصف به لغة الشعر اللهم إلا توتر أعصاب قائليها إذا كان الموقف يسمح بذلك.. لذا.. فلن نجد تلك اللغة الشعرية على مدى الحوار فى هاتين المسرحيتين إلا عندما نتكلم عن نجاح المؤلف فى استخدام الأمثلة الشعبية والآيات القرآنية التى تجرى على ألسنة العامة حين يتأزم الموقف الذى يعيشونه أو حينما يحاولون التقرب إلى الله من أجل انفراج الأزمة.. أو الدعاء إليه لقضاء حاجة لهم.

اللغة الشعرية كما سبق القول لغة الإيحاءات والتلميحات والتكثيف، لغة التشبيهات والاستعارات والكنايات، لغة المحسنات البديعية، لغة التوتر فى الكلمة، فالكلمة قد تكون طلقة من قلم الكاتب، قد تكون صاروخاً يخرج من فكره والاحتراق الذى يتولد منه انطلاق هذا الصاروخ هو دم الكاتب أو الشاعر، الكلم قد تكون مدفعاً وأحياناً الكلمة فى هذه اللغة تكون وردة أو شجيرة أو نهراً أو سحابة أو بحراً، الكلمة أيضاً قد تكون زمناً يأخذ الفعل ماضيه أو حاضره أو مستقبله، وكما سبق القول ليس شرطاً أن تكون هناك محافظة على الوزن أو القافية حتى نقول إن هذه اللغة التى أمامنا لغة شعرية فرب لغة تعتمد على إقامة الوزن والقافية ولا تكون لغة شعرية أولها نسب من بعيد أو قريب بهذه اللغة وليس أدل على ذلك من المنظومات الباردة التى لا روح فيها ولا حياة مثل ألفية ابن مالك فعلى الرغم من إقامة الوزن وسلامة القافية أو القوافى هل نستطيع أن نقول عنها إنها شعراً؟

بهذا المفهوم للغة الشعرية سوف نقوم بالتطبيق على النصوص التى وردت على ألسنة بعض شخوص مسرحات السيد حافظ.

هذا "ضياء" فى مسرحية "6 رجال فى معتقل 500/ب شمال حيفا" تجرى اللغة الشعرية بمفهومها السابق على لسانه جريان الماء فى نهر ينساب حنيناً وشوقاً للوصول إلى مصبه :

الليل بيزحف على البلد زى الكابوس

الليل جاسوس

الغيم جاسوس

حتى القمر جاسوس

يا حبيبتى إنت فين.. إنت فين.. ؟

إقرأ معى "الليل جاسوس" هذا التعبير الرائع الموحى بأشياء وأشياء، هذا العالم الليلى الذى يضم تحت جناحيه ملايين الأشياء ما هو إلا جاسوس هذا العالم الليلى الذى يسجى "والليل إذا سجى" ما هو إلا جاسوس يتجسس علينا فى نومنا فى حلمنا، إن الكاتب لم يقل لنا "الليل كالجاسوس" ولكنه قال "الليل جاسوس" لأنه فى عرفه ورؤيته الليل جاسوس فعلاً وليس كالجاسوس، حتى الغيم الذى عادة ما يكون رمزاً للخير إذ عادة ما يكون محملاً بالأمطار التى تسقط فيخضر الزرع وينمو الضرع هذا الغيم ما هو إلا جاسوس هو الآخر حتى القمر وسط هذا الجو الكئيب الذى يخاف الإنسان أن يتنفس فيه، يخاف من دقات قلبه حينما تدق فى صدره، هذا القمر بنوره الذى قد يبعث الأمل أو التفاؤل فى قلب الإنسان حينما ينظر إليه خاصة فى هذا الجو الملىء برائحة الخيانة والعفونة والتجسس، هذا القمر ما هو إلا جاسوس.. واخيبتاه فى أى زمان نحن نعيش الآن.. أين المهرب.. أين المفر؟

لم يبق للإنسان وسط هذا الجو.. وسط هذا العفن واللا إنسانية والوحشية إلا أن يستنجد بحبيبته :

يا حبيبتى إنت فين.. إنت فين؟

وتكرار هذا التساؤل "إنت فين.. إنت فين.. ؟" يوحى بمدى شراسة المأزق الذى يقع فيه الإنسان أو الواقع فيه فعلاً.. لذا فإنه يؤكد على "إنت فين" بالتكرار على حبيبته تسمعه فتنقذه من عفونة وشراسة هذا العالم الليلى المؤرق.. والحبيبة هنا ليست بالضرورة أن تكون فتاة أو امرأة أو أنثى.. ولكن قد تكون القيم المثلى والفضلى.. هى كل شىء جميل تقع عليه أعيننا.. هى الحياة الفاضلة.. هى الكلمة الطيبة.. هى كل شىء جميل فاضل عذرى فى هذا العالم المدنس الحقير الدّنيء الملىء بالشرور والآثام.

ونحن لا نخفى علينا مدى براعة الكاتب أو مدى توفيق "ضياء" حينما قال:

"الليل بيزحف على البلد زى الكابوس"

فهنا الفعل المضارع "يزحف" كان مناسباً وفى مكانه تماماً.. الزحف لا يكون إلا لشىء أو لشخص يريد أن يتلصص على شىء أو يتجسس عليه أو يريد أن يغير أو يفاجئ إنساناً على حين غره وهذا الفعل فيه من الحركة البطيئة الإيقاع ما هو مناسب لحركة الليل ما بين غروب الشمس وشروقها فى اليوم التالى.

وإذا كنا قد قلنا من قبل إن السيد حافظ استطاع فى بعض الأحيان أن يقيم الوزن فى بعض الجمل الشعرية التى يستخدمها فإننا نستطيع الآن أن ندلل على ذلك من خلال نفس السطور الشعرية السابقة، فالسطور الأربعة السابقة :

الليل بيزحف على البلد زى الكابوس

الليل جاسوس

الغيم جاسوس

حتى القمر جاسوس

جاءت من بحر الرجز حيث التفعيلة الأساسية "مستفعلن" ومشتقاتها

الليل بيز / مستفعلن

حف ع البلد /مستفعلن

زى الكابوس / مستفعلان

الليل جاسوس / مستفعلان

الغيم جاسوس / مستفعلان

حتى القمر / مستفعلن

جاسوس / فعول

غير أن السيد حافظ يلجأ إلى تغيير البحر بعد ذلك إلى "الرمل" حيث التفعيلة الأساسية "فاعلاتن" ومشتقاتها :

يا حبيبتى / فاعلاتن

أنت فين / فاعلان

انتى فين / فاعلان

يا حبيبتى / فاعلاتن

بالطبع لا تخفى علينا أن اللغة الشعرية على لسان "ضياء" لغة من المستوى الثالث أى اللغة العامية المصرية الصرفة.

هذا مثال تطبيقى عملى على اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ ونحن إذا أوردنا جميع الشواهد التى ندلل بها على تلك اللغة فإننا سنحتاج إلى مجلدات، خاصة إذا اعتمدنا على ذلك التحليل التفتيتى للغة وللنص الشعرى وللكلمة ودورها فى السطر، بل من الممكن لنا أن نتحدث عن مهمة الحرف الواحد وأثره فى الكلمة، ولكننا سنكتفى بضرب مثال آخر أو مثالين ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحديث جملة لا تفصيلاً عن تلك اللغة الشعرية.

تقول الفتاة فى مسرحية "الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء ص22" :

"حبنا مازال طفلاً حلو الحديث.. مشرق الرؤيا.. يكتب على رأس الكرة الأرضية بأصابعه الطاهرة التى لم تلمس الحرام.. أنا إنسان.. أريد طفلاً يحمل ملامحك.. أريد منك أطفالاً كثيرين.. عيونهم مزيح من الوعى والثورة"

هنا مستوى اللغة هو المستوى الأول "اللغة العربية الفصحى"  لكننا لا نجد الموسيقى أو الإيقاع الذى وجدناه فى المثال السابق.. هنا خليط من التفعيلات التى لا نستطيع ردها إلى بحر معين أو تفعيلة معينة، وأرجو ألا تخدعنا سلامة التفعيلتين.

حبنا ما / فاعلاتن

زال طفلاً / فاعلاتن

لأننا سنجد أن التفعيلة الثالثة حلو الحديث / مستفعلاتن

ثم السطر الثانى :

مشرق الـ / فاعلن

رؤيا / فعلن (بتسكين الغين)

أو مشرق الرؤ / فاعلاتن يا / فع أو فا أو تن

ثم السطر الثالث :

يكتب / فاعل بضم اللام أو الباء

على رأ / فاعلن

س الكرة الـ / مستعلن

أرضى / فعلن (بتسكين العين)

وهكذا خليط من الفعيلات التى لا نستطيع أن نردها إلى بحر معين أو تفعيلة معينة كما سبق القول.

إذن فلنترك لعبة الأوزان فى هذا المثال ولنتجه اتجاهاً آخر، اللغة هنا لغة ورد، وحب وحلم فهى تتسم بالتفاؤل والإشراق والأمل، الأمل فى الثورة التى ستقلب الأوضاع وتصححها وتعيد الوجه الحقيقى للبلاد. الأمل فى الغد، الأمل الذى يجلب معه الإرادة القوية النابعة من الوعى السليم للثورة وللأشياء.. لذا كانت الفتاة تحلم بأطفال كثيرين لأنهم هم المستقبل، إذن الكلمة هنا لا داعى لأن تكون رصاصة أو بندقية ولكنها هنا الكلمة الوردة الكلمة الطيبة الكلمة النقية.. الكلمة المشرقة.

ولكن هل نستطيع أن نقول إن التدفق الشعرى أو اللغة الشعرية قد هربت بعض الشىء من المؤلف.. اقرأ معى السطر "يكتب على رأس الكرة الأرضية بأصابعه الطاهرة التى لم تلمس الحرام أنا إنسان"

ألا تجد أن "التى لم تلمس الحرام" جاءت نافلة هنا أو جاءت دخيلة على ذلك التدفق الشعرى الذى كان يجرى على لسان الفتاة فى هذا الجزء.

أعد القراءة مرة أخرى بدون تلك الكلمات.

"يكتب على رأس الكرة الأرضية بأصابعه الطاهرة أنا إنسان"

إذن لم يكن هناك داع لقول " التى لم تلمس الحرام" لأنها أخرجتنا من ذلك التدفق الشعرى إلى تلك التقريرية الفجة التى أخرجتنا بدورها من ذلك السياق الشاعرى الجميل، من ذلك الحلم الوردى الهادئ إلى اسفلت اللغة النثرية، فوقعنا على هذا الأسفلت فاقدين القدرة على الاستمرار مع الحوار.

إن من يقرأ مسرح السيد حافظ سيجد أن مسرحيته "ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى" من أنضج أعماله سواء من ناحية المعالجة أو من ناحية الصياغة الفكرية أو استخدام الرمز أو العودة إلى الماضى واستلهام أو استثمار التراث الدينى فى معالجة الموضوع.

لكننى أخشى أن اتكلم عن اللغة الشعرية بل القصائد الشعرية التى جاءت أو وردت على ألسنة أبطال هذه المسرحية ذلك أن المسرحية عمل مشترك بين السيد حافظ والشاعر / محمد يوسف، لكننا وقد عرفنا كيف تجرى اللغة الشعرية فى قلم السيد حافظ خاصة فى عدم التزامها بالتفاعيل أو البحور أو الإيقاعات فإننا نستطيع أن نفرق بين جهد محمد يوسف فى هذه المسرحية وجهد السيد حافظ.. وعلى سبيل الاعتقاد وليس الإجزام اعتقد أن الأغنية التى جاءت على لسان المغنية فى هذه المسرحية ص 38 ما هى إلا من إبداع محمد يوسف.

"بفتنتى وجسدى

من ها هنا للأبد.

أخفيك من غدر الزمان

أخفيك من غدر المكان

يا سيدى " أبو المجون "

قلبى متيم مفتون

أخفيك فى عينى

يا قرة العين

وما عليك من غد

أخفيك من أحداثه

بفتنتى وجسدى

يا سيدى وتاج رأسى

نعم على صدرى

ثم ارتشف من ثغرى

حلاوة الخمر

فافرح معى

من ها هنا للأبد

بفتنتى وجسدى

يا سيدى.. وتاج رأسى.

وليس غريباً على مسرح السيد حافظ الذى يدين الواقع ويدعو إلى الثورة عليه من أجل مستقبل أفضل ومن أجل حياة يسودها الاحترام المتبادل بين السلطة والشعب بين الحاكم والمحكوم، ليس غريباً أن تأتى فيه مثل هذه الأغنية السابقة التى تدعو إلى التكاسل والانغماس فى الشهوات والنزول إلى درك اللذة السريعة التى تؤدى فى النهاية إلى التقاعس عن تأدية الواجب الوطنى والإنسانى وعن تلبية ما يمليه علينا الضمير.

ليس غريباً أن تأتى مثل هذه الأغنية فى مسرح السيد حافظ وذلك لإبراز المعنى المضاد الذى يريد أن يؤكد عليه المؤلف؛ فاللوحة إذاً كانت كلها بيضاء قد لا يكون لها معنى.. أما عندما نضيف نقطة سوداء وسط هذا البياض فقد تكون هناك معان وأشياء يمكن أن تقال.

وهذا بالفعل ما يود أن يقوله السيد حافظ حينما ضمن هذه الأغنية عمله المسرحى هذا.. فهو يريد أن يؤكد على الانغماس فى الشهوات الذى تتردى فيه السلطة الحاكمة تاركة الشعب نهب الجوع والعطش والضياع والقلق والعراء، فى نفس الوقت الذى تغنى فيه المغنية هذه الأغنية الفاسقة السابقة، يغنى الكورس آلام الشعب وأحزانه ويبكى ضياعه وقلقه وعرائه.. وعلى سبيل المثال ما جاء بصفة 13 حيث يغنى الكورس :

يا عبيد الأرض

يا كل الرعاه الطيبين.

يا نفير الشرطة فى السجن البعيد.

يا صفوان المحتاجين المساكين

والعرايا

والضحايا

يا كل المنبوذين

الصاعدين الهابطين فى مملكة الحق والباطل انتبهوا

سلوه عن بشارة الغد.

عن أحلام الضائعين الجائعين.

يا أبا ذر.. تموت غريباً

هل تموت غريباً يا أبا ذر"

وفى الوقت الذى يقول فيه "أبو المجون" رمز السلطة الفساد للراقصة:

فمك مثل النور

أنشده ينشدنى

أخذه من فمى

حتى ينبثق الدم

وفى الوقت الذى يقول فيه "خبير التعمية" والذى يمثل المخابرات بكل أساليبها غير الشريفة وبكل حقارتها وعنفها وبذاءتها فى الوقت الذى يقول فيه للملك أو لأبى المجون رمز السلطة والتسلط والفساد والقهر:

"إنها فتاة ريفية

أمها أندلسية.

فاتنة شرقية.

لطيفة ندية.

مولاى.. استخدمناها فى بعض الأمور السياسية فنجحت، وكانت ذكية لماحة.. تستطيع أن تستخدمها مع بعض زوار المدينة لمعرفة ما تبطنه الميمنة والميسرة.. وستكون لفراشك جسداً دافئاً ولليلتك متعة خالصة".

فى مثل هذا الوقت ومثل هذا الزمن.. تهب الرياح الشريفة ويأتى الفكر الإنسانى بكل نقاوته وطهارته وحلاوته.. وتأتى المعانى السامية على لسان زوجة أبى ذر لتحقق نوعاً من المقابلة أو التضاد أو الصراع الدرامى فى العمل، تقول زوجة أبى ذر لسيدها :

يا سيدى

ومنبت الفكر الشريف.

يا حلم الرجال الخصيب.

ومنبت الفكر الشريف.

تسلقت أفكارك حوائط البيوت الضيقة المختنقة.

وسقوف الأكواخ.

بين كل حانة وحانة مسجد

وبين كل لص ووال جمع من الفقراء والمساكين.

وبين الحق والباطل سجون الجلادين.

وبين قصور السلاطين والأمراء بيوت الفقراء.

بلا طعام والموائد تمتد فى حدائق القصور الغناء

بأطيب الطعام.

وأنت هنا.. نشرب رملاً وتأكل رملاً هنا

إلى جوارى

وهناك فى المدينة

بين كل رجل ورجل من الشرطة السرية

وبين صوتك وصوت الناس

التضليل والضلال المبين

وبين كل مضغة ومضغة من الطعام قلق المجاعة.

يا شريداً.. استيقظ.

يا "أبا ذر" يا غريباً، منفياً.

حدق فى الأفق الأزرق واستيقظ

ويقول المؤدى وهو الضمير الصاحى هنا :

يا جميع الناس

لابد أن تقاوموا

لابد أن تزاحموا

حذارى أن تساوموا

فالسن بالسن

والعين بالعين.

تدافعوا لتدفعوا الظلام.

ولا تخافوا سطوة الظلام.

فكلكم راع وكلكم رعية للحق والحرية.

والسن بالسن.

والعين بالعين.

فقاوموا

وزاحموا

ولا تخافوا سطوة الحراس.

يا فقراء.

يا جميع الناس.

إذن يتضح لنا إنه عندما استعان السيد حافظ بهذا الكلام الساقط المسف على لسان المغنية أو "أبى المجون" أو المغنيات القيان.. فإنه بذلك يقوى من عنصر الصراع الدرامى فى لغته وفى مسرحه، فلكى نعرف قيمة اللون الأبيض أو قيمة ضوء الشمس لابد لنا أن نتعرف على اللون الأسود أو على الظلام الدامس ولكى نعرف قوة الحق وحلاوة الحرية لابد لنا أن نعرف ما هو الباطل وكيف يكون القمع والإرهاب، حتى نستمتع بالحق والحرية وفى حالة تحقيقها.

وإذا كانت مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" تؤكد على هذا المعنى السابق فإن مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" تؤكد أيضاً على مثل هذا المعنى حيث مقبول المناضل أمل الشعب فى الخلاص والذى تجرى على لسانه المعانى والحكم من أجل الفقراء البسطاء ومن أجل زرع وحصاد الوعى فى تفكيرهم، ولكن السلطة أيضاً له بالمرصاد والمخبرون السريون دائماً وراءه، عيونهم وراءه، أقدامهم وراءه كالقدر المحتوم، كالقضاء، ويظلون وراءه حتى ينجح وزير الشرطة فى إقناع الوالى بأن يعين مقبول خادماً للعامة حتى يضرب به العامة فيهتفون بسقوطه ولأنه يدخل السلك المنافق فإنهم يكتمون أنفاسه أكثر وأكثر.. وهذا تقليد عصرى متبع فى الحكومات الآن حينما يريدون أن يتخلصوا من مفكر له فكره الحر ويعيش مشاكل الشعب وأزماته بكل صدق ووعى، فإنهم لا يجدون أمامهم من طريقة إلا تنصيبه وزيراً أو محافظاً أو نائباً أو.. يجبرونه على اتباع أساليبهم فى المراوغة والتسويف والمماطلة إلى أن يكرهه من كان يتبعه وينادى بسقوطه من كان يبايعه.. وهذا بالفعل ما حدث لمقبول عبد الشافى الذى هو طيب مثل العصافير.. والنهر مثل قلبه يعطى الكثير والضوء مثل كلماته.. والذى هتف بسقوطه الشعب قرب نهاية المسرحية، مما حدا بالوالى أن يقول : لقد قررنا عزل مقبول عبد الشافى من منصب خادم العامة حتى ترضى العامة، وحينما يقول مقبول بعد خلعه :

أنا من الناس.

يقول له.

الكورس : لا.. يا خادم العامة لست معنا وحينما يتساءل من منكم معى لا يجد إلا زوجته التى تقول له أنا معك يا مقبول.. أما الشعب والكورس هنا فيقول لا.. إنت خادم العامة المخلوع.. معلنين بذلك رفضهم له مما يحدوا بالوالى لأن يصدر أوامره بالقبض عليه بعد أن نجح فى إحكام العداء بينه وبين الشعب الذى كان يدافع عنه من قبل.

منتهى الصدق الفنى والصدق الواقعى يقدمه لنا السيد حافظ فى هاتين المسرحيتين "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" و "حكاية مدينة الزعفران"

بهاتين المسرحيتين يثبت لنا السيد حافظ مدى معايشته للواقع بكل عفويته وبكل شوقه أيضاً للخلاص من سيطرة الحاكم الطاغوت، الحاكم اللاهى فى كل زمان وكل مكان.

اللغة الشعرية فى هاتين المسرحيتين تتراوح بين كونها لغة تفاؤل فى المستقبل، ولغة حزن من الواقع المعايش، هذا بالنسبة للشعب ومفكريه، أما بالنسبة للطبقة الحاكمة فهى تتراوح بين التهديد والوعيد أحياناً وبين الترغيب والخداع والمماطلة أحياناً أخرى وبين الفسق والفجور والإشارات الجنسية أحياناً ثالثة.

والمسرحيتان تكادان تكونان نسيجاً واحداً من حيث اللغة ومن حيث الشخصيات ومن حيث الأحداث والتصرفات أيضاً.. ففى الأولى نجد "أبا ذر" وفى الثانية "مقبول عبد الشافى" وكلاهما رمز مجسد للأمل والخلاص، وفى الأولى نجد السلطان "أبو المجون" وفى الثانية نجد "الوالى" وفى كلاهما يمثلان السلطة الغاشمة المتسلطة المستبدة فى حكمها وفى رأيها، القابضة على الأشياء بالحديد والنار، وفى الأولى نجد الكورس: صوت الشعب، وفى الثانية أيضاً نجد الكورس: صوت الشعب، وفى الأولى حاشية السلطان الممثلة فى كبير الحراس وأفراد الشرطة وخبير التعمية والملثمين أى المخبرين السريين وفى الثانية نجد حاشية الوالى ممثلة فى رئيس الشرطة وأفراد الشرطة والحراس.

أما المضمون الذى يعالجه السيد حافظ فى كلتا المسرحيتين فهو تحقيق مزيد من القبضة النارية عليه فى حالة ما إذا خرج صوت أمين ينادى بإعطاء الشعب حقوقه الضائعة فى متاهات وسراديب وعفونة القصور.

أيضاً طريقة المعالجة تكاد تكون متقاربة فى كل من المسرحيتين.. فى مقدمة مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" يقول السيد حافظ :

"تقع أحداث هذه المسرحية فى دولة "فردوس الشورى" الفردوس الأخضر سابقاً أى إنها دولة ليس لها موقع جغرافى فى خريطة العالم لأنها دولة تقع على حدود اللازمان واللامكان بمعنى أنها دولة معنوية تظهر فى عصور التخلف والعجز والقهر والهزيمة.. إذن فهى دولة موجودة فى كل زمان ومكان بحكم الواقع وإن كانت معلقة على حافة اللازمان واللامكان بحكم التصور الذهنى.. ".

وسنجد أيضاً أن الكلام نفسه ينطبق تقريباً على مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" فهى ليست محددة بمكان بذاته ولا زمان بعينه.

وإن كان اسم "أبو ذر الغفارى" وقول مقبول "يا حبيبى يا رسول الله ص 33" يقول إن المكان مكان إسلامى والدولة التى تجرى فيها هذه الأحداث دولة مسلمة. ولكن هل يعيب الشاعر أن يقول قصيدتين فى موضوع واحد ومن نفس البحر؟

إن هذا يؤكد شيئاً هاماً، يؤكد مدى إلحاح هذا الموضوع على الكاتب أو الشاعر ومدى ما يعانيه من جراء هذا الموضوع.. لذا فإنه عندما يظن إنه عبر عنه فى عمل شعرى يكاد يكون متكامل لا يلبث أن يكتشف إنه مازال عنده الكثير لكى يقوله عن نفس الموضوع وبنفس الطريقة تقريباً.

إذن لا غبار لأن تكون المسرحيتان تتحدثان عن موضوع واحد أو تكونان امتداداً لنفس الموضوع. وسنقتطع هنا أمثلة لما جاء على لسان بعض الشخصيات المتقاربة فى دورها لنؤكد على التقارب فى اللغة بين شخوص المسرحيتين.

يتساءل السلطان "أبو المجون" فى مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى ص 57".

كيف نعزله عن الناس؟

وكيف نكس قامته.

هل ننفيه مرة أخرى؟

هل نغريه بالسلطة؟

هل نعطيه جاهاً ومنصباً؟

هل نبعده عن الفقراء حتى يفقد حزبه؟

خبرونى ماذا أصنع.. ؟

ويكون الحديث عن "مقبول عبد الشافى" بين الوالى والوزير فى مسرحية "حكاية مدينة الزعفران ص 50"

الوزير : وبعد؟

الوالى : لابد من قهره.

الوزير : هل يمكننا تعيينه فى منصب ما؟

الوالى : كيف؟

الوزير : افهمنى.

الوالى : كيف؟

الوزير : نضع منه "سلطة" يصبح داخل اللعبة لا خارجها.

الوالى : معقول دعنى أفكر.

ثم يستكمل الحديث ص 55 وبعد أن قتل خادم العامة فلاحاً :

الوزير : هذه فرصتنا.. مقبول.

الوالى : ماذا .. من؟

الوزير : مقبول عبد الشافى.

الوالى : لا يمكن.

الوزير : هذا الثورى اللامع.

الوالى : لا يمكن.

الوزير : مولا نضرب عصفورين بحجر واحد.

الوالى : (يفكر).. هل تظن.. ؟

الوزير : نرضى الناس وأنفسنا ونتخلص من الاثنين.

الوالى : وإذا لم يعقل.

الوزير : نعزله بقرار سياسى.

الوالى : أفكر.

يقول " أبو ذر " ص 16 :

أبو ذر :لا.. لا.. لم يكن الجوع ولم يكن الفقر

(يقف يدور حولهم)

لا لا يا أصحابى

الخوف.. الخوف هو الذى أصمكم وأخرسكم.. لقد رأيته بعينى.. يدخل بيتكم فى الليل

مدعياً إنه من رجال الشرطة السرية

مدعياً إنه من رجال العيون السرية

جئت

لأنذركم

إنه عصر الموت للروح

هل تدركون يا أصحابى كيف ينفيكم الخوف وانتم فى بيوتكم تتضورون جوعاً.

وتنامون على الحزن والفقر والحاجة؟

ويقول "مقبول عبد الشافى " ص 43.

انتظرت الناس فى كل وقت حتى فى الحلم كنت أخاف أن يكون شخص ما يراقبنى.

وفى نهاية مسرحية "ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى" يقول الكورس :

لا.. "أبو ذر" لم يمت.. إنه حى بين الناس.. إنه بينكم أيها الناس انظروا.. ها هو "أبى ذر".. فتشوا عنه.. إنه بينكم.. "أبو ذر" بينكم فتشو عنه.. واحموه.. إنه بينكم..

        أبو ذر بينكم ايها الناس.

        أبو ذر بينكم ايها الناس.

وفى نهاية مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" يقول الكورس :

وظل الناس يحكون مات مقبول.

وتقول الزوجة : لا.. إنه حى فى مكان ما

إنى انتظره.

أبحث عنه فى كل مكان

الكورس : ميت أم حى

حى أم ميت.

مات عاش

الحرام بين والحلال بين..

يا أمه ضحكت من جهلها الأمم.. الح.

وربما هذه الأمثلة التى سقناها لا نجد فيها ذلك التكثيف فى اللغة الشعرية ذلك الذى تحدثنا عنه عند اتفاقنا على مدلول اللغة الشعرية التى سوف نتحدث عنها ولكنا لم نسق هذه الأمثلة للتدليل على ذلك التكثيف ولكن للتدليل على نوعية اللغة التى تجدرى على ألسنة الشخوص التى تؤدى أدوارها المتشابهة فى هاتين المسرحيتين.

والآن دعنا عزيزى القارئ ننتقل إلى الحديث عن نقطة أخرى فى مسرح السيد حافظ وهى استخدامه للأمثال الشعبية وللآيات القرآنية والأحاديث النبوية بل واستفادته من التراث الشعرى العربى القديم وتضمينه عباراته الشعرية ومثل هذه الاستخدامات قد استفاد منها الشاعر المعاصر فنراه يضمن مسرحياته بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو آبيات لشاعر عربى قديم أو أسطورة عربية أو أجنبية ولو كان المكان يسمح لسقت الكثير من الأمثلة الشعرية التى ندلل بها على ذلك.

عن الأمثلة الشعبية أو التراث الشعبى يقول د. إحسان عباس فى كتابه الهام "اتجاهات الشعر العربى المعاصر عالم المعرفة 2- الكويت" يقول : للتراث الشعبى ميزة هامة لأنه تراث قريب حى، وحين يلجأ إليه الشاعر لا يحس إنه مثقل بما فى الماضى الطويل من خلافات ومشكلات.

يقول أيضاً فى نفس الوضع "وتكمن الجاذبية فى التراث الشعبى فى إنه يمثل جسراً ممتداً بين الشاعر والناس من حوله، فهو بذلك يؤدى دور المسرحية إلى حد ما فى إيقاظ الشعور القومى وإبقائه حياً.. "

وفى كتابه "فلسفة المثل الشعبى" المكتبة الثقافية 193 القاهرة يقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة ص 10: خلال النضال الاجتماعى والسياسى على طول مراحل التاريخ الذى كان دائماً تاريخ طبقات حدثت وفقاً للبناء الاجتماعى تحديدات طبقية للثقافة والفكر وكانت القواعد الشعبية لا تكاد تعثر على أوليات الوسائل للحصول على مستوى ثقافى يصلح فى إيجابية وسرعة لتقوية موقفها، اللهم إلا ما تقوم به المؤسسات الدينية من تلقين دروسها بقصد التوجيه الأخلاقى المحض، وكان لابد من ظهور لون من ألوان الثقافة يمثل عقلية ووعى وأفكار الطبقات الشعبية.

ويقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة.. والمثل كأى مظهر من مظاهر الفكر الشعبى هو موقف صادق يختزن وجهة نظر قد لا تكون فى الامتداد الأيديولوجى السليم ولكنها تحمل غبار التجارب الاجتماعية المادية، والمثل كتعبير يصوغ الموقف المادى بلا وساطة نظرية"

ومن هنا فإنه ليس غريباً أن تتخلل اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ بعض الأمثال الشعبية التى يحتاجها الموقف أو سياق الحديث ونضرب هنا بعض الأمثلة لمثل هذه الأمثال الشعبية :

تقول "روحية" فى مسرحية "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث ص 48" وعلى رأى المثل : من حبنا حبناه وصار متاعنا متاعه.

ويرد عليه زكى مكملاً : ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه.

وفى مسرحية "هم كما هم ولكن ليس هم الزعاليك" يقول شحاته المثل المشهور :

"على قد لحافك مد رجليك"

وفى مسرحية "حبيبتى أنا مسافر والقطار إنت والرحلة الإنسان ص 56"

تأتى لقطة ذكية من التراث أو الفلكلور الشعبى المصرى وهى:

أزهار : شابه يا شابه.

هدى : نعم ورده.

أزهار : جوزك فين؟

هدى : فى المدينة.

أزهار : بيجيب لك إيه؟

هدى : عسل وطحينة.

أزهار : ادينى حبه (أو لحسه)

هدى : خشى خدى.

أزهار : الكلبة تعضنى.

هدى : ما تخفيش.

أزهار : هاتى إيديك.

هدى : خدى.

وتأتى هذه اللقطة من الفلكلور أو التراث المصرى وسط حديث أزهار مع هدى وكأنهما تحلمان وهما موجودتان داخل الملجأ بعالم الطفولة وألعاب الطفولة ولا يكتفى السيد حافظ باللجوء إلى التراث الشعبى العربى القديم فمن المعروف فى تراثنا الشعبى العربى أن هناك المستحيلات الثلاثة: الغول العنقاء الخل الوفى.. ولكن لم يعرف على وجه التحديد ما هى مواصفات أو شكل الغول فى الأفلام أو التمثيليات أو الحواديت أو الحكايات يأتى على أنه حيوان هائل عملاق يستطيع أن يقهر أية قوة أمامه مهما كان حجم هذه القوة ومقدرتها، ولكن السيد حافظ فى مسرحيته "الحانة الشاحبة العين تنتظر الطفل العجوز الغاضب ص 156" يعطينا صورة مجسمة عن الغولة الجديدة فهى (شعر) أصفر وعيون خضرة ووشها لون القمر.. قمر وعينها شمس الصبح اللى مكسوفة.. وماسكه فى ايديها سلة مليانة دولارات ذهب ترميها وهى ماشية عربية الجنون والخلق مش حاسة إن الدينارات تبلع ايدين اللى يلمسها بتسلب عقول الخلايق) هذه هى الغولة أو أمنا الغولة فى العصر الحديث كما يتصورها السيد حافظ.

أما بالنسبة لتوظيف التراث الدينى من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فى مسرح السيد حافظ فقد لاحظناه على لسان بعض الشخصيات فى بعض المسرحيات نذكر منها على سبيل المثال : قول أبى ذر ص 26 من مسرحية ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى "لقد سمعت رسول الله (صلعم) يقول :

ليموتن رجل منكم بغلاة من الأرض تشهده عصبة من المؤمنين.

أو قول الملثم (3) ص 48 : مصيرهم السجن "وبئس القرار" أو قول المؤدى ص 57 : كلكم راع..

أو قول الأمير فى مسرحية "حبيبتى أميرة السينما" ص 202 : وكنت نسياً منسيا، أو قول حنفى فى مسرحية "حبيبتى أنا مسافر.." ص 71 : دثرينى.. دثرينى..

أو قول مجيدة ص 38 : اقسم بالشفق.

أزهار : والقمر إذا غسق.

عائشة : واليوم الموعود.

هدى : وشاهد ومشهود.

الجميع : والنار ذات الوقود.

أو فى قول شحاته فى مسرحية "هم كما هم وليس هم الزعاليك" ص182:

ولكل أجل كتاب.

ونحن  لا نستطيع أن ننسى ذلك الحديث الصوفى الذى يذكرنا بأهل الأحوال والمقامات والذى جاء على لسان راوية فى مسرحية "الحانة الشاحبة العين تنتظر.." ص 188 حيث تقول فى جزء منه :

"بجزء من نوره المقدس فى داخلى.. سرى فى جسدى من خلال روحى كان عذباً عذوبة فجر الصيف البارد.. كان حنوناً كرعشة الربيع كعذارى.. كانت همساته أنغام البشر كلهم.. "

وبالنسبة لتوظيف التراث العربى القديم من شعر وخلافه نجد على سبيل المثال أن السيد حافظ يستعين أو يستثمر صوراً من حياة أبى ذر الغفارى الصحابى الجليل فى مسرحيته "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" وإنه يستعين بشطر من بيت لأبى الطيب المتنبى : "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم".

***

وهكذا يستفيد السيد حافظ فى مسرحه بأقصى ما يمكن استفادته من الحياة، من الأمثال الشعبية، من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، من التراث الدينى والصوفى والعربى القديم والحديث، بكل ما يحدث حوله من أحداث وآراء وأفكار.. إنه يعيش الحياة بكل مظاهرها بكل عنفوانها بكل تناقضاتها لذا فإن هذا كله يظهر فى مسرحه بدون أدنى افتعال ودون أدنى تكلفة.. لماذا؟

لأنه إنسان صادق مع نفسه، مع قلمه، مع الآخرين.. لذا جاءت لغته مناسبة لكل شخصية تجرى على لسانها هذه اللغة.

وإذا كانت هناك أشياء وأشياء لم نتحدث عنها فى مسرح السيد حافظ وفى لغته الشعرية فالعذر أن ضيق المساحة لم يسمح وإن شاء الله لنا لقاءات حول مسرح السيد حافظ ليس فقط حول اللغة الشعرية فى مسرحه ولكن الحياة فى مسرحه.

أحمد فضل شبلول

جريدة الثورة عددى 12 /19

أكتوبر 1981 اليمن الشمالى

 

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More