دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(23)
الأبعاد الفنية والجمالية
فى المسرح التجريبى
" نموذجا السيد حافظ "
بقلم بنيونس الهواري
دراسة من كتاب إشكالية الحداثة والرؤى النقدية في المسرح التجريبي
الســيد حــافظ
الأبعاد الفنية والجمالية
فى المسرح التجريبى
" نموذجا السيد حافظ "
بقلم بنيونس الهواري
إن الفن ينساب نهراً متدفقاً من السيول لا تحده مضايق أو جسور. ولكى يستمر الصبيب، علينا أن نمده بقنوات كثيرة، نغذيه بروافد متنوعة، تبعث فيه حركة الحياة المستمرة دون انقطاع.
وقدرة الفنان على تحلية مياه فنه، تجعله دائم التطلع إلى تصفية هذه المياه بإمددات فنية وجمالية جديدة لا تعكر صفوها. فأمام المسرح عوالم كثيرة لا تحدها جزر، ما على الفنان إلا أن يسافر فيها ويكتشف سر رحلته الموغلة دون جواز.
ولا نشك فى أن السيد حافظ قد تخلف عن هذا الموعد، لأنه سار يبحث عن الشطآن والأدغال البعيدة. غير أن مركبته الفنية لم تكن بدون دليل أو مرشد.
وقد تزود بتوجيهات عدد كبير من الاتجاهات والمدارس. وراح يقتنص مناهجها ، بعد أن تمكن من هضم قديمها ، واصطياد كل جديد. فهو الذى يقول : "عرفت الصمت لونى والضوء رجمى والمخاطر زاد فى وسب المجوفين صبيحة البحث لى... أهضم القديم، أتجشأ الحديث.. أتقيأ معنى الأمس حين يولد اليوم"([1]). وبالفعل كان الإيذان بعهد جديد قد انبثق مع فجر مسرح كاتينا، خرجت معها صرخة مولود قتل الصمت الساكن فيه، وقطع صلته بالمخاض العسير الذى كان يتخبط يه، تعبيراً عن رفض الواقع المرير، وإعلاناً لميلاد بشير جديد اسمه التجريب. لم تكن الصرخة حيادية، ولكنها كانت مواكبة لمضامين الساعة ، ومعززة بوسائل مغايرة ، بهدف "سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة دوماً، المتغيرة أبداً . والتى تنأى بطبيعتها الحية الفاعلة عن التباث والجمود، وعن الانحصار فى أية قوالب محددة. فالقالب قيد، والحياة تدفق عارم يستعصى على التكبيل"([2]).
وعليه فإن التجريب بناءمعمارى يسير فيه الفكرى بمحاذاة مع الجمالى. فهو لا يغيب ذلك "التلازم بين الشكل والمضمون فى المسرح، والذى يتحدد فى هذه النقطة بالذات ، فلا يمكن لشكل ما من أشكاله، إلا أن يؤكد المضمون الخاص به الذى انبثق عنه. وعلى هذا فإن الشكل الفنى مظهر اجتماعى وانعكاس لصراع سياسى وتعبير عن واقع اقتصادى([3]).
وإذا كانت مرحلة السبعينات قد أنجبت كوكبة من المسرحيين طغت على كتاباتهم المواضع السياسية التى فرضتها تلك الفترة، فإن السيد حافظ لم يغيب المهمة المزدوجة للمسرح المتمثلة فى الاهتمام بالمضمون والشكل معاً.
وهذا ما سنحاول إضاءته بعد التعرض لأهم المكونات الجمالية التى تؤسس النص المسرحى عنده.
- الحدث :
يعتبر الحدث من البنيات الأساسية فى مكونات العمل الدرامى. فبمقتضاه يتحدد الإطار العام للنص. ويتميز الحدث فى المسرحية عن العمل الروائى ، فى كون الأول يبتعد عن السرد ليقوم مقامه الحوار والصراع الدرامى، إذ يساهم هذان العُنصران فى تركيب الحدث.
فقد أخلص المسرح الأرسطى لوحدة الفعل أو الحدث دون الإخلال بترابطه العضوى، وفق القاعدة الأرسطية التى ترى من الضرورى أن تكون المسرحية ذات أسطورة (حبكة) بسيطة لا مزدوجة"([4]). ومن خلالها ترتسم لنا حدود الدراما الاغريقية التى تحتفظ على البناء التعقبى وتنتظمه بنية حكائية بسيطة تشكل فى الأخير وحدة عضوية متماسكة الأجزاء، لا تشقى عن وحدة الموضوع الرئيسة.
وعلى عكس هذا الطابع التسلسلى الذى أخذت به القاعدة الأرسطية. فإن المبادئ الجديدة للدراما الحديثة ، أخذت تتلاعب بالبناء المنطقى لتوالى الأحداث. وقد يخطئ من يظن " أن المسرحية قديمة أو طليعية لابد أن تحتوى على الوحدة العضوية. التى تجعل منها عملاً فنياً متكاملاً فإذا سقطت هذه الوحدة سقط من العمل الفنى أهم عنصر من عناصره"([5]).
فعلى العكس من ذلك، فكلما اقتربت المسرحية من الإدهاش القائم على عنصر الإغراب والمفاجأة ، إلا وتحقق البعد الجمالى البعيد عن التبسيط.
وكان السيد حافظ من الشغوفين بهذا الحس المغاير فى طريقة الكتابة، "فالحدث فى مسرحه موجود، ولكنه حدث ممهور بالغرابة. وهو غالباً ما يكون ساكناً قائماً على الانتظار والترقب والترصد. وإذا تحرك هذا الحدث، فإنه لا يتحرك فى خط مستقيم يصعد إلى أعلى، قد يبدأ من الخلف أو قد يعود إلى الخلف بشكل سينمائى (فلاش باك) . هذا الحدث يبدأ متأزماً ربما لأن الانفراج نوع من التفاؤل الكاذب ، وعليه فلا مجال للتمويه على النفس والكذب على الجمهور والقراء"([6]).
وترتبط هذه الطريقة فى تقديم الأحداث بالنزعة التجريبية عند السيد حافظ. سواء من حيث طريقة عرض الأحداث، حيث تظهر جوانب التغريب واضحة فيها، أم من حيث البناء العام حيث يسقط مبدأ السببية.
وبفضل هذه التقنيات الجديدة، تلوح مؤشرات تخالف معاصرى السيد حافظ ممن استنفذت أعمالهم قضايا سياسية ترتبط على الخصوص بموضوع النكسة، وتتصل فنياً بأصول الدراما الأرسطية. ولنا فى ذلك مجموعة من الأمثلة التى توضح كيف أن الحدث عند المؤلف يتميز بمطابع تركيبى.
ففى مجموعته " الأشجار تنحنى أحياناً" . تظهر الأحداث مركبة من خلال فكرة محاكمة أسباب هزيمة حزيران . والمسرحية تحاكم أوضاعاً تتحكم فيها مجموعة من المواقف السلبية التى مازالت عدواها مستمرة، الشئ الذى لا يسمح بقيام بديل حقيقى، إلا أن حلم الفرسان سرعان ما تحول إلى خيط دخان سابح فى السماء.
- الفارس : (يقف على رأسه) لا تحدثنى عن الضوء بل حدثنى عن السيف الذهبى هناك واقفاً ناصعاً.
- فارس: أحدثه عن الضوء يحدثنى عن السيف.
- فارس 1 : لنخرج من هذا القصر ولنجلس على الشاطئ المسكون.
- فارس 2 : ما يروعنى هو السكون، سكن الموج، سكون البحر، سكون الناس.
- فارس 3 : (يتحرك إلى اليسار فى شبه دائرة) السكون والمقابر الممتدة على الطرق.
- فارس 1 : (يتحرك إلى اليمين فى نصف دائرة ليغلقها) والمشانق الملتمة بالخوف المطعونة بالليل العنيد.
- فارس 3 : (يهبط إلى قلب منتصف المسرح) والصلبان المفزوعة فى أحضان الشمس تسأل عن صلاح الدين الأيوبى.
- فارس 2 : والمستنقعات المفقودة الأسماك.
- فارس 1 : والأسماك الغارقة فى الألوان([7]).
ويهتف تغرق أجسادنا فى بحار الخوف حينا، والتردد حيناً آخر ، فتطفو أحلامناً مغتسلة بالموت والهزيمة.
تتداخل أحداث الماضى بالحاضر، وتنمو أخطاء الماضى لتورق أشجار واقع يتواصل فيه الخوف والصمت ، فتثمر فى النهاية زهوراً ذابلة لمستقبل مازالت عواقبه مجهولة.
- شاب 5 : فى داخلى تنمو شجيرات الصمت والأكفان والمساحات البيضاء والإنسان فى مدينتنا ثقب جان أسمر مبتسم ابتسامة بلهاء. والشوارع فراش للهو الدائم. زرقاء اليمامة فوق الصحراء والامتداد والمستقبل تمهل يا لسانى تمهل"([8]).
ووفق هذا الامتداد الزمنى، يتحدد هذا التداخل، وتتضاق نقطة البداية مع النهاية. وهذه السمة الفنية فى بناء الأحداث هى التى ت حقق البعد الدائرى. ويمكن أن نلخص سير الأحداث فى هذه المجموعة المسرحية فى قضية الرجل الذى لم يسافر بعد أن أدرك صعوبة المسالك وترك الطريق :
" الطفل لم يولد بعد كى يواصل المسير وانتهت بعملاق شائب قرر أن يؤجل هو الآخر وليمته ليوم أخر"([9]).
ولقد كان المؤلف مصيباً فى اختياره حينما استعمل مصطلح "التصريح" بدل الفصل ، لأن التصريح يقترن بالمصارحة والمكاشفة. فى حين أن الفصل قد يحيل على تغير المواقف أو الأحداث ، وهذا ما نظفر به ، أو لا يتوفر فى مجتمعنا عملياً.
فضلاً عن ذلك ، تبرز لنا النوايا الجديدة للسيد حافظ فى طريقة تقديم الأحداث. ويبقى الغرض الرئيسى هو إبراز مواقف شخصياته ، وصراعاته النفسية والاجتماعية من أجل إثبات ذواته بدلاً من التركيز على المستوى الحكائى أو السردى الذى كان من أولويات الدراما الأرسطية.
فبدلاً من أن تبرز المشاهد سير الأحداث، يعهد السيد حافظ إلى شخصياته للقيام بهذه المهمة.
علاوة على هذا التجديد فى عرض الأحداث، توضح لنا أمثلة أخرى لم يلتزم فيها المؤلف بالخط التصاعدى للأحداث. كما نجد فى مسرحيته "رحلات ابن بسبوسة فى البلاد الموكوسة"([10]). فهذا العمل يتحدث عن موضوع "الفرقة العربية" من خلال رحلة يقوم بها " أحمد"، أو " عبد المطيع " إلى الدولتين : الشرقية والغربية.
وقد يبدو ظاهرياً أن هذه المسرحية تسير وفق بناء تعاقبى للحدث . إلا أن تداخل الأحداث وتشابه وقائعها ، يصعب من تحديد نقطة البداية أو النهاية . وقد استطاع السيد حافظ أن يحافظ على البناء العام للمسرحية دون الإخلال بمعمار النص. وهذا ما يصوره أحد المشاهد فى الفصل الأول، حيث نقلنا المؤلف عبرلقطة ذكية من الفضاء الداخلى.
وعليه، صور السيد حافظ من خلال " ابن بسبوسة" حدثاً بسيطاً تشابكت فيه سلسلة من الأحداث . وفى واقع الأمر أن " ابن بسبوس " ما هو إلا جزء لحقيقة أمة بأكملها أرادت أن تعيش على الفرقة والصراع. وبهذا يتوجه هذا العمل إلى النقد السياسى من خلال مشكلل مفتعل ، يسمى بداء التأشيرة.
أما فى مسرحية " حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله" ، فتتجسد لنا صور عديدة شهدها العصر الفاطمى على عهد " الحاكم بأمر الله" . ففى حياة هذه الشخصية يتداخل السياسى والاجتماعى. وقد أظهر لنا المؤلف سلسلة من الأحداث الطارئة فى عهد " الحاكم" ، وما أحاط بها من ملابسات وشهادات أوردتها مصادر التاريخ فى حق السلطان. وهى شهادات كادت تجمع على الطعن فى سيرة الحاكم.
غير أن السيد حافظ حاد عن مثل هذه الآراء ، وقد موقفاً مخالفاً لها ، وأشاد بأعمال الحاكم . ولم تكن نية السيد حافظ تسليط الضوء على التاريخ فحسب ، - بالعودة إلى مصادره قصد تسجيل الحدث ، بل كان هدفه هو إيجاد التوازن السياسى والاجتماعى والاقتصادى للعصر الراهن من أجل تجديد تلك الصورة فى زمن فساد العقيدة وغياب الضمير الوطنى ، والنضج السياسى . وبهذا استطاع أن يقدم لنا مجموعة من الوثائق التاريخية، والسجلات الحية ، بدلاً من سرد الأحداث كما تحرص على ذلك مقتضيات الكتابة الكلاسيكية.
ومن ثم ، قد استوجبت ضرورة التجريب فى هذا النص تحويل الكتابة من نمط التسجيل التاريخى إلى تعميق الوعى الإيديولوجى لمتطلبات العصر الراهن.
غير أن ثمة نقطة سليمة يمكن أن نسجلها على هذا العمل ، وهى تناقض المؤلف فى تقيوم حكم السلطان حينما تحول من مناصر إلى مهاجم لسيرة السلطان. وقد خلف هذا التحول نوعاً من الارتباط والتراجع فى حدة الصراع الدرامى.
وبغض النظر عن هذه السقطات التاريخية ، والفجوات الفنية فقد كان لها جانب إيجابى فى ورود عنصر المفاجأة.
وإذا انتقلنا إلى مسرحية " إشاعة "([11]) ، فسنلاحظ أن أحداثها قامت على المزاوجة بين مرجعيتين تشتركان فى رسم الإشاعة : أولهما ، ملابسات العلاقة الجنسية المشبوهة بين الدكتور "مصباح الزمان" والطالبة الجامعية الفتاة، والثانية تتصل بتاريخ مصر وما لحقها من زيف.
وقد قدم لنا المؤل مجموعة من الأحداث التى لها علاقة بتاريخ مصر على الطريقة الملحمية المعروفة، إذ عمد تالى النقد الاجتماعى والسياسى كما هو واضح فى هذا المثال :
- الرجل المهم ما أنت عايزهم يعيدوا كتابة ثورة 1919 ، وبعدين ثورة 1952 وبعدين ثورة 15 مايو 1971 وبعدين ثورة إيه.
- مصباح الزمان : " ياريب الشباب يقدر يعيد كتابة تاريخ بلاده"([12]).
وقد استطاع السيد حافظ من خلال هذه النماذج التاريخية أن يكشف لنا مجموعة من المفارقات الغريبة فى التاريخ المصرى. ولأن هذا التاريخ مازالت حقائقه مجهولة، بل وملفقة فى بعض الأحيان، فإنع عمد إلى إعادة كتابته من جديد كما يلح على ذلك الدكتور "مصباح الزمان".
وعليه ، فقد تمكن السيد حافظ أن يُقيم نوعاً من التوافق بين حدث بسيط شخصه الدكتور "مصباح الزمان" ، عنوان التضحية والمبادئ الشريفة ، وخلفه الصالح " الطالبة الجامعية" وهى تمثل جيل الغد الطموح من جهة، وأحداث متصارعة يحكمها التعتيم ، ويستتر وراءها مجموعة من الأجسام الطفيلية. وهى تنخر جسد المجتمع المصرى (أبو المكارم – فهمان – الرجل المهم) . فى حين يشكل "مصباح الزمان" الوجه النقيض لهذه الشخصيات، بحيث يرفض ان يداس الشرف، وتباع الوطنية مقابل الحصول على تكريم أو تشريف كما يقول الدكتور: "مفيش حد بيحب بلده يستنى الثمن واللى خانوا واللى باعوا ياما"([13]).
من هنا يتضح أن المؤلف سعى إلى توظيف الحدث البسيط ليقدم من خلاه قضايا متعددة تهم المجتمع العربى عامة، أى أنه اعتمد تقنية تجريبية تتمثل فى عملية بناء الحدث المسرحى من داخل النص نفسه كما هو واضح فى هذا العمل المسرحى.
ونفس الكلام ينطبق على مسرحية " معزوفة العدل الغائب" ففى هذا العمل يقدم المؤلف مجموعة من الأحداث العالمية. ومن خلالها عالج فكرة العدالة الاجتماعية. والفن والديمقراطية. والنص ينطلق من حدث التشويش على الفنانين والمبدعين الذين يستطيعون فهم ما يجرى فى العالم حتى يتمكنوا من إدراك مهمتهم الحقيقية. وتحدد الإشارة الركحية فى بداية المسرحية صورة ضمنية للتمزق العالم، حيث يظهر "الخطاط" وهو يرسم لوحته الفنية، فما يكاد نتهى من عمله حتى مزقها. وهكذا تتكرر العملية حتى تنتهى بنفس النتيجة ، وكأن المؤلف ستغل ضمنياً "أسطورة سيزيف" دون الإشارة إلى ذلك وهى صورة بلا شك تصور تمزق العالم العربى، وانهيار القيم ككل بمشكل كاريكاتورى موغل فى الرمزية.
- الفتاة : (للفتى) كلمات النزيف الأبدية مقطوعة اليدين.. مغروسة فى الجزائر أصوات القتلى، وعلى جبال اليمن، وعلى أسواق بغداد، الرفض (يكتب) الخطاط إننى أحب ايزادورا وأتمرد.
- الفتى : القاهرة أرملة ، أرملة دمشق، أرملة بغداد، الكعبة عيون الأرامل (دقيقتان بطولة الخطاط) ينظر إلى الجمهور يكتب : "هتلر مازال يتقدم (يمحو اللافتة) يكتب اسرائيل تسجن مليون فلسطينى... يمحوها يكتب أمريكا تمحو بغداد موسكو تنهار على سندوتشات البيتزا... الأمم المتحدة تشرب بماء العرب فى فنجان القهوة...([14]).
وبهذا يتضح أن السيد حافظ عمل فى هذا العمل المركز إلى تصوير هموم فنان تنشطر أفكاره فى خريطة عالمنا الرهيب. وتظهر لنا هذه المسرحة القصيرة أو ذات الفصل الواحد تجريب المبدع الكتابة بأسلوب قريب من كتابة التلغراف فى إثبات الحدث نظراً لإيجازه ودقته، إلا أنه يجيب عن الشئ الكثير، ويحيل على دلالات عديدة.
ومن جهة أخرى، لم يكن السيد حافظ بعيداً عن مشاكل المرأة وهى تتعرض لمختلف أشكال الظلم والعدوان. فهى تعانى أزمات داخلية عدة، فضلاً عن الضغوط التى تؤثر على نفسيتها وشخصيتها. وهذا ما يرسمه المؤلف من خلال مسرحيتى "العزف فى الظهيرة" و"امرأتان"([15]). ففيهما تتربص بالمرأة خيبة أمل شديدة وإحباط داخلى مدمر. وبهذا يحل الصراع النفسى محل الحدث حيث تصبح أحداث المسرحية مجرد وسيط يبشر بنوع جديد من تجريب المسرح النفسى إذ صح هذا التعبير.
وعلى نفس نهج الدراميين الغربيين العبثيين فى الكتابة، يصور لنا السيد عملية اغتراب بطله "أحمد" فى مسرحية "إجازة باب"([16]) مما يجرى حوله فى هذا العالم ، وهى دراما فردية تجسد أقصى مظاهر العبث للإنسان فى هذا العصر.
وقد استطاع السيد حافظ أن يغلف عمله هذا بجو فنتازى لا يهتم بالحدث فى حد ذاته، بل يتعداه إلى سبر أغوار النفس البشرية من منطلق رمزى.
وكتنويعة أخرى تختلف عن أصحاب العبث، فإنه يفسر الواقع من منطلق منطقى محض لا من تفسير وجودى ميتافيزيقى.
ويظل القاسم المشترك فى مسرحيات هذه المجموعة " إشاعة" ، هو احترام الكاتب لانتظام الأحداث أو بالأحرى الحدث الدرامى الواحد ، لأنها جميعها تصب فى هموم اجتماعية خالصة . وفيها استطاع السيد حافظ أن يعكس الجو النفسى لخوالج الإنسان وصراعاته الداخلية.
أما فى عملية ، " حكاية الفلاح عبد المطيع" و"ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" ، فقد توسل المبدع فى عرض أحداثهما بعنصرى التراث والتاريخ العربيين والإسلامى.فأحداث " حكاية الفلاح" تعود إلى العصر المملوكى، بينما تنتطلق مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر" من التراث الإسلامى"([17]).
وما يمكن استنتاجه من هذين العملين ، أنهما يتوسلان بالتاريخ لفهم الحاضر بهدف إعادة التوازن لحياتنا المعاصرة . وعليه ، فإن تجريب التراث ، يعتبر وسيلة لتفسير الواقع . وإزالة مكامن الخلل فيه.
ومن ملامح التجريب الأخرى فى هذين العملين ، أنهما يشتركان فى الحفاظ على وتيرة التدرج فى عرض الأحداث . إلا أنهما يتميزان بخاصية تختلف عن مفهوم السببية – كما هو عند أرسطو – وذلك بأن هذا الجانب تحول لصالح تقنية أخرى هى التغريب " البريختى" . ففى عمله الأول وردت حكاية الفلاح على شكل قصة امتزج فيها المضحك بالمفجع ، وارتسمت فيها الصور الكاريكاتورية بشكل التغريب ، كقرار عبد المطيع بطلاء كل بيته باللون الأسوط ، بما فى ذلك حماره:
- عبد المطيع : "الصبغة السوداء مهند ، بثينة، صبغة أدهن لى البيت أصبغ لى الملابس ، الجدران ، الشجر ، منزل فاطمة ، الحمار حتى الحمار ادهنه أسود يا مهند وأزوجك بثينة فى الحال"([18]).
وبهذا صار "عبد المطيع " شخصية معارضة دون إرادتها أو حتى التفكير فى أن تكون كذلك. فقد ظل دائماً الوجه الآخر للسلطة الحامل لقميص آخر غير الذى يرتديه مختلف الناس.
فحينما فرح هؤلاء بشفاء السلطان ، ظل على حاله حاملاً للون الأسوط، راكباً على همومه دون وعى مسبق بفعل المعارضة . وبهذا استطاع السيد حافظ أن يعكس لنا تغريب هذا الحدث بشكل تلقائى وعفوى.
وفى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" ، يتبع نفس المنوال . فالبؤر الثلاث فى النص (التفسير – الادراك – الموقف) تترابط فيما بينما ترابط اتصالياً. إلا أن المؤلف كسر هذه العلاقة من خلال موت "أبى ذر" فى البؤرة الأوى، واستعادته للحياة فى البؤرة الأخيرة إيذاناً بالبعث وبصحوة ضمير الشعب ، ففى الماثل الأول نجد :
الكورس :
- يا " أبا ذر" تموت غريباً . هل تموت غريباً يا " أبا ذر"؟
(بعض ضوء على امرأة تجلس بجوار أبى ذر الغفارى الذى يبدو عليه أنه فى الحشرجة الأخيرة)([19]).
وفى المثال الآخر نجد :
- الكورس: لا يا "أبو ذر" لم يمت إنه حى بينكم أبو ذر "بينكم أيها الناس"([20]).
وقد مكن هذا التغريب فى الأحداث من إحداث نوع من التباعد بين الحقيقة والواقع . والهدف من وراء كل هذا هو زعزعة كيان المتلقى ، وإرغامه على التساؤل قصد تفسير هذه الحادثة الفريدة . وهى حادثة سبق فيها الاختفاء صفة الظهور، " لأن الاختفاء الذى يأتى بعد الظهور قد يفيد معنى استمرار أبى ذر"([21]).
والغرض من ذلك هو مواجهة المتلقى بنوع من المباغتة التى قد تدفعه إلى تقبل حقيقة هذا الحلم على أنه واقع ومعقول.
ومن النماذج الأخرى التى ساهمت فى عنصر التغريب، نجد حدث الحلم فى "العزف فى الظهيرة" ففى هذه المسرحية وظف هذا العنصر لتأكيد طابع الغرابة على شخصية "صبرية" بعد حدث الاستيلاء على منزلها – كما سبق الإشارة.
كما عمد السيد حافظ إلى تغريب أحداث التاريخ بما يلائم تصوره . وعمل تبعاً لذلك على إعادة كتبة التاريخ بهدف وضع المتلقى أمام حقائق جديدة لم يكن يتوقعها سابقاً ، كما هو الحال فى مسرحية " إشاعة" ، أو على نحو ما نجده فى مسرحية الحاكم بأمر الله".
والتغريب يعد مؤشراً إيجابياً فى التعامل مع المرسل إليه ، حتى يتحقق فعل الإدهاش ويزول التطهير ، لأن " تغريب حادثة ما أو شخصية ما ، يعنى وببسطة نزع البديهى والمعروف والواضح عن هذه الحادثة ، أو الشخصية . وبالتالى إثارة الاندهاش والفضول حولها "([22]).
وعلى مستوى آخر، يقترن التجريب عند السيد حافظ فى طريقة عرض الأحداث بمؤشرات جديدة تختلف جذرياً عن المسرح الأرسطى. فقد ظل هذا المسرح حريصاً على بناء الحكاية على وحدة الحدث وترابط فصول النص المسرحى.
ويمكن أن نحدد هذه الاختلافات فى مسرح السيد حافظ من خلال مظهرين، يتعلق الأول بالاستغناء عن الشكل الأرسطى وذلك بتقسيم مسرحياته إلى فصلين ، كما نجد ذلك فى مسرحيات " رحلات ابن بسبوسة فى البلاد الموكوسة " و" حكاية الفلاح عبد المطيع " . وتبلغ ثورة المبدع ذروتها على النماذج السابقة، حينما تتحول الفصول إلى عدد كبير من التصريحات المختلفة ، كما تحدده مجموعته المسرحية : " الأشجار تنحنى أحياناً" . وتقوم البؤرة بديلاً عن الفصل للكشف عن مستوى التوتر فى إبراز حدة الحدث.
وأما المظهر الثانى، فيقترن بتقاطع الحدث وتراجع تنامى الأحداث بشكل متصاعد . فالسيد حافظ يلجأ إلى حيل أخرى ، سواء عن طريق تقنية " الفلاش باك" أم عن طريق مكونات أخرى تؤدى وظيفة التغريب كالموسيقى والغناء أو الرقص مثلاً.
كما يشتد عود هذه المكونات ( السمعية والبصرية والحركية) بالإضافة إلى العناصر اللسينوغرافية الأخرى (كالديكور مثلاً) التى تساهم كلها فى بناء الأحداث.
وخلاصة القول ، فإن السيد حافظ استاطع أن يؤسس كتابة مغايرة تستند على التجريب فى عرض الأحداث مخالفاً بذلك آثار كتاب الدراما التقليدية الذين كانوا ينزعون فى الغالب إلى مبدأ السببية فى تدريج الأحداث وتسلسلها المنطقى القائم على نقطة البداية ، مروراً بالعقدة حتى الوصول إلى النهاية.
وفضلاً عن ذلك ، فإن تخلى السيد حافظ عن الموضوع الواحد يعد سمة فنية وموضوعية بارزة تجعله يتميز عن الكتاب الكلاسيكيين. باستثناء بعض المسرحيات الخاضعة لهذا الجانب ، من مثل " امرأتان" ، " العزف فى الظهيرة" ، و"إجازة بابا" فإن باقى أعماله تخالف هذه القاعدة . ويمكن أن نفسر هذه الطريقة بتداخل مراحل الحياة وتفاعلات أحداثها . وبتعبير آخر، فإن الحياة لا تخضع للبساطة ، بل إنها تركيب يمتزج فيه السياسى بالاجتماعى والاقتصادى.
ولإعطاء حركية الأحداث وديناميكية تركيبية، فقد لجأ السيد حافظ إلى طريقة التغريب البريختى لدفع المتلقى إلى المناقشة والمساهمة فى تركيب الحدث.
وبهذا استطاع أن يبنى أحداثاً متداخلة تعود بنا إلى الخلف حيناً ، وتسير نحو الأمام إنسجاماً مع نمطية الزمن المتدخل كما سنرى فى كيفية تعامله مع خاصية الزمن.
- الزمن :
لم يعد فى تصور الدراما الحديثة القبول بالتتابع الكرونولوجى للزمن. وبما أن الماضى لا ينفصل عن الحاضر، فإن عنصر الاستمرار يظل ملازماً لرصد العلاقة بينهما. لهذا يظل مفهوم الدراما باعتبارها تجربة معرفية أساسية لحياة الإنسان تقوم على الجدل بين لحظة ماضية ولحظة آنية " وبين عالم الواقع . وعالم الاحتمال مفهوماً عائماً ودائماً ، يرتبط بطبيعة نشأة الدراما من الحاجة الإنسانية التى تلبيه، وهى الحاجة إلى المعرفة"([23]).
وعليه تبقى علاقة الماضى بالحاضر أمراً ضرورياً، لاستشراف المحتمل. وفى هذا التمازج بين الأزمنة، ما جعل من الدراما تتجه نحو اللازمن، وهو ما تعكسه بعض مسرحيات السيد حافظ. ففى "طفل وقوع وقزح" يتحدد الزمن بالصيغة الموالية: "الحضارة طفل فى القرن العشرين"([24]). وفى مسرحية : تعثر الفارغات فى درب الحقيقة"، نجد : (الزمان : صباح الذباب ظهيرة الكلاب مساء الاندماج بالإضافة إلى العراء"([25]).
وفى سياق هذا التجريد الغريب يبرز مفهوم الزمن مقروناً بموقف يحدد حياتنا ككل. ففيه تصبح النكسة جزءاً من هذه الحياة فى تاريخ الأمة العربية، تضافرت على وقوعها أسباباً ترتد إلى الماضى، وتتصل بالحاضر.
وعلى الرغم من أنه زمن كتابة المجموعة المسرحية : " الأشجار تنحنى أحياناً" يقع بين 1967 – 1972م ، فهى تتساءل عن المستقبل الذى لازال مجهولاً.
وفى أعمال السيد حافظ تغيب سلطة الزمن المحدد. ويصبح التاريخ غير محدد بدقة تاريخية، هذا بالرغم من أن المؤلف يعتمد فى كثير من نصوصه على زمن الماضى، حيث يؤرخ للتاريخ العربى والإسلامى ، فيما يعرف بـ"التحيين" Actualisation . نجد أن المؤلف اعتمده فى كثير من أعماله : كما فى مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع" ، حيث تعود بنا إلى العصر المملوكى.
وفى مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" يذكرنا المؤلف بشخصية إسلامية عاشت مرحلة الرسالة المحمدية. ومن جانب آخر عاد بنا إلى تاريخ الدولة الفاطمية فى مسرحية "الحاكم بأمر الله" . ولم يكن هدف الكاتب التأريخ لهذه الأزمنة التاريخية، وإنما كان يسعى بالأساس إلى إضاءة جوانب تتصل بعصرنا الحاضر. وعلى العموم فإن السيد حافظ كان يرمى بهذا التحوير الزمنى إلى " تأريخ الماضى للزمان الحاضر" ([26]).
فالشخصيات التراثية التى نبتت بذرتها فى الماضى ، ليست بريئة من الرؤيا المعاصرة، لأن مثل هذه الشخصيات " لا تستمد وجودها الآنى فى المسرح إلا بمدى استثمارها . ومما لا شك فيه ، أن شخصيات الماضى تمثل أفعال العصر وحركيته"([27])
ولتحطيم الزمن المتتابع ، يستعين المؤلف بما يعرف بالاسترجاع : "الفلاش باك" ، كما هو مبتوت فى مسرحية : " إشاعة " التى يستعيد فيها الدكتور "مصباح" أحداث الثورة المصرية لسنة 1919 وما تلاها من وقائع وثورات.
وباستثناء مسرحية " واله زمان يا مصر"([28]) التى استعاد فيها المؤلف بعض من أحداث حرب أكتوبر 1973، حيث التزم بوحدة زمنية معروفة ، فإن الزمن فى جل مسرحياته يظل مفتوحاً، ولا يعرف نهاية حقيقية . وهذا الأمر مقصود من الكاتب، لأنه يسعى إلى جعل هذه الوحدة تمتاز بتركيبات حدثية ، تزاوج بين زمن الكتاب المنفتح ، وزمن العرض المتوقع تنفيذه من لدُن المخرج. ولا ننسى دور حركات الممثل فى تشكيل هذا الزمن عن طريق " حركاته الفزيائية (الجسدية) والديالكتيك السوسيوثقافى" ([29]).
وصفوة القول إن الزمن فى مسرح السيد حافظ متعدد فى وجهه التجريبية. إنه زمن مستمر ومتقطع فى نفس الوقت ، لا يخضع فى معظم أحيانه لانتظام عقارب الساعة . وعليه يصبح زمناً كاسراً للحظته، منتجاً لأزمنة متصارعة.
كما أنه زمن مجهول المستقبل حينما يتيه أفراده فى لغز حياتهم كما تحدده مسرحيات " إشاعة" ، "إجازة بابا" ، و"امرأتان" على سبيل المثال. فهو زمن يتميز بالقلق الإنسانى والوجودى. فضلاً عن ذلك فإنه زمن مرجعى يتكئ على التاريخ والتراث الإنسانين . كما يستند على مكونات الخطاب المسرحى ذات الأبعاد الرمزية والدلالية كالمأثورات أو الحكم ، وتحوير الأسطورة فى إضاءة الزمن.
ولم يغب عن السيد حافظ دور المستوى السينوغرافى فى إقامة أزمنة أخرى تنتجها عملية التمسرح. وتفجرها لغة الجسد. لهذا نجده يستغل مكونات أخرى كالإضاءة فى تحديد الزمن.
إلا أن الحديث عن الزمن يفرض الانتقال إلى المكان لمعرفة علاقة الفضاءين.
- المكـــان :
وهو فضاء لا يختلف فى خصوصياته عن الزمن فى مسرح السيد حافظ. وكما يقول عبد الكريم برشيد : "فالمكان فى مسرح السيد حافظ ، هو مكان مسرحى خاص، مكان مرتبط بالمسرحية كعالم جديد وكون جديد. وبذلك فلا مجال للبحثعنه فى خرائط العالم. إنه المكان خارج الجغرافية"([30]).
ففى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى"([31]) التى تدور أحداثها فى " فردوس الشورى" ، يتحدد المكان بصورته الكلية. فهو يتمثل فى كل بقاع العالم. فكل مكان يجسد الديمقرطية والعدالة الاجتماعية يمكن أن يكون فضاء لهذا النص المسرحى.
وهو أيضاً – المكان – الظل المنعكس لهذا الواقع الموسوم بالفراغ ، إذ يصبح " أحد أجزاء الفراغ الكونى فى الأيام المذهلة للواقع "([32]).
وحتى فى حالة تعيين المكان ، إنه يظل متعدداً ، ومتنقلاً عبر عدة مستويت من الأركاح. فالسيد حافظ يتجول بنا إلى عوالم كثيرة (رئيس قسم الشرطة – المقهى – منظر عبد المطيع مدهوناً باللون الأسود) فى مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) . غير أن هذا الانتقال السريع بين الأمكنة أدى " بكمال عيد" إلى الاعتقاد بأن تعدد المكان " لا يمكن بأية حالة من الأحوال أن يمسك بتلابيب المتفرج ، أو يحافظ على انتباهه أمام الأحداث المسرحية"([33]).
ونحن نرى خلاف ذلك ، إذ أن تعدد المشاهد يوفر وظائف فنية وجمالية تدعم دلالات الحدث، وتساهم إلى حد كبير فى خلق عنصر المفاجأة . وينقلنا عبر التاريخ إلى فضاءات أخرى جابها "الحاكم بأمر الله" (القصر – السوق – دكان فتحى... إلخ) وذلك بهدف إبراز دلالاتها التاريخية ودورها فى وضع القارئ أمام معرفة أبعادها الفكرية المتوخاة.
كما يطلعنا فى مسرحية " رحلات ابن بسبوسة " على معاناة هذا الأخير بين سفارات الدول العربية.
وينقلنا بين الحين والآخر إلى أمكنة أخرى (السوق – مطار القاهرة ...) وعلى العموم فإن " المكان المسرحى المعاصر بأشكاله المختلفة، مكان استكشاف يختبر امكانياته وحدوده ، فهو يستكشف أبعاده ، ويستخدم الاتجاه الأفقى .. كما يستخدم العمق"([34]).
ففى هذه المسرحية ، لا يقدم لنا السيد حافظ هذه الأمكنة باعتبارها موجودات مادية فحسب ، بل باعتبارها علامات لها وظائف دلالية. لذا يقرن المؤلف بين رحلات "ابن بسبوسة" فى مستواها الأفقى ، وبين ما تقدمه من أبعاد عميقة وهى تعكس مأساة بأكملها.
ومن ثم ، فإن السيد حافظ لا يقف عند حدود المفهوم المادى للمكان ، بل يتعدى هذا الجانب ليصبح المكان مرتبطاً بموقف معين. وهو موقف يعكس استحالة لمصالحة بين ابن بسبوسة وعوالم أماكنه الخارجية. وهى نفس وضعية العالم العربى.
أما المكان المنغلق ، فهو العاكس لشخصيات المسرحيات تبعاً لحالتها النفسية التى لا تتعدى حدود الغرفة . ففى مسرحيات " العزف فى الظهيرة" "امرأتان" و"إجازة بابا " تتحرك الشخصيات فى مكان يمثل "التجسيد الدرامى المادى لكنه الساكن للأفكار والأحداث. وأما البشر والأبطال، فهم التجسد المادى الحيوى للدراما"([35]).
وكتنويعة تجريبية لوحدة المكان ، نجد السيد حافظ يحافظ على هذه الوحدة ، غير أن نظرته تختلف عن الدراما الإغريقية ، بحيث يصبح هذا الحرص على تحديد المكان يؤدى وظيفة دلالية تعكس نفسيات أبطاله الذين يبقون سجناء فضائهم المتمثل فى (الغرفة).
وخلاصة القول ، إن تجريب العديد من التقنيات الغربية قد بدا واضحاً فى أعماله المسرحية. وتجلى حضور هذه التقنيات فى الوحدات الثلاث، منها تغريب الأحداث على الطريقة البريختية ، واعتماده على السرد بدل عرض الأحداث ، بهدف إشراك القارئ ودفعه إلى المناقشة. ثم استفاد من إنجازات المسرح التسجيلى فى توظيف مجموعة من النصوص التاريخية كما هو الحال بالنسبة إلى مسرحية " الحاكم بأمر الله".
وعلاوة على ذلك وظف السيد حافظ مجموعة من الرموز فى إضاءة مجموعة من الأحداث على مثل ما نجده فى أعمال " تشيكوف".
وعلى مستوى وحدتى الزمن والمكان تبدو مؤثرات مسرح العبث واضحة من خلال تقنيتى الزمن والمكان اللتني تأخذان بعداً هلامياً مطبوعاً بطابع عبثى. وهذا ما نلاحظه فى مجموعته – السيد حافظ – "الأشجار تنحنى أحياناً " . فعلى مستوى تظهر هذه الملامح من خلال " الزمن الدرامى " للنص المسرحى أولاً وثانياً من خلال " الزمن المتخيل لإرشادات النص"([36]).
أما المكان ، فهو الآخر لا يخضع لتقييد مضبوط أو حيز منغلق . فقد أبان السيد حافظ عن معرفة تامة بخصوصية الفضاء المسرحى ، وتدخل مختلف العناصر السينوغرافية الأخرى فى تشكيله ، ومنها حركات الجسد ومتغيراته . وهى "حركات ليست منظمة. كما أن استغراقها الزمنى لا يبدو محدوداً"([37]).
ويمكن أن نربط عدم تحديد الزمن والمكان عند السيد حافظ بمجموعة من الظروف العامة طرأت على التاريخ العربى ، حولت أوطانه إلى مجرد قرية صغيرة لا نعرف وجودها بالضبط. فهى فضاءات توحى بالغرابة. وهذا يدفعنا إلى القول بتشابه أعمال السيد حافظ من حيث طريقة عرض الأحداث وزمنها ومكانها عند كتاب العبث من أمثال "صمويل بيكيت" و"يوجين يونيسكو" و"آداموف" . غير أنها لا تفيد فكرة اللامعقول ، وإنما هى استجابة للمسرح الجديد والذى لا يوجد فيه زمان أو مكان محدد تدور فيه أحداث المسرحية والأحداث قليلة ما تكون، وتكاد تكون منعدمة أحياناً . والخاتمة لم تعد مثلما فى الماضى ، حل المشكلة بعينها بل تظل مفتوحة ، يفسرها كل متفرج كيفما شاء([38]) من هنا تبرز براعة السيد حافظ التجريبية فى اختراق قواعد المعلم الأول، إذ قدم لنا الوحدات الثلاث برؤى مغايرة ، فوظفها توظيفاً ذكياً ، تكاثفت فيها مجموعة من الدلائل والغايات، فلم يعد الزمن تتابعياً أو نمطياً ، بل أصبح متداخلاً ومتقاطعاً.
أما المكان فلم يحفل به السيد حافظ به كثيراً ، إذ لم يعد له وجود محدد ، كما فى مسرحيات " الأشجار تنحنى أحياناً" ، ومسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" ففى هذه المسرحيات يبرز التجديد فى تحديد المكان. وهى طريقة تجريبية تطابق الإطار العام لهذه النصوص.
وكتنويعة أخرى فى تحديد المكان، يعكس لنا السيد حافظ فراغ المكان حالة الإحباط النفسى لشخصياته وهى تصطدم بحجرة العالم الخارجى. على نحو ما نجد فى مسرحيات "إجازة بابا" و" العزيف فى الظهيرة" و"امرأتان" . وبذلك تبرز تجريبية السيد حافظ للمكان. وهو يوظيف المكان ليس باعتباره وجوداً مادياً فحسب، بل باعتباره معادلاً إنسانياً.
أما الحدث، فهو الآخر لم يتقيد فيه السيد حافظ بالنمط التقليدى، إذ عمد فى بناء مسرحياته على تقاطع بنية الحدث العام مع تركيبات حدثية أخرى داخل العمل الواحد.
فضلاً عن ذلك، فإن أدل تجريب السيد حافظ للتراث والتاريخ فى ضوء علاقتهما بالحدث المسرحى. تنطلق من رؤية جديدة ضمن تقديم تصور قادر على استيعاب مشكلات العصر الراهن.
ومن ثم ، فإن توظيف السيد حافظ بما يصرف بالوحدات الثلاث جاء بوعى تجريبى خاص ، لأنه يجعل من الأحداث تتجاوز إطارها الزمانى والمكانى الثابت. وهى صفة تنسجم مع الإطار العام لمسرحياته، لاسيما وأن السيد حافظ لا يتعامل مع التراث أو التاريخ باعتبارهما مجموعة من المعارف والأحداث. ولكنه يوظفهما باعتبارهما خلفيات تاريخية تتغلغل فى رصد الحاضر وتستشرف المستقبل.
وبمقتضى ذلك ، ينفلت الزمن والمكان من أسر إطارهما الزمنى والمادى ليصبحا مجموعة من المدلولات المساهمة فى خدمة الأبعاد الجمالية والفكرية.
وقد وظف السيد حافظ مثلاً شخصية "الحاكم بأمر الله" فى مسرحية " حلاوة زمان..." باعتباره رمزاً تاريخياً يتجاوز حدود العصر الفاطمى، ليقدم لنا شهادته على العصر فى زمن الفساد السياسى.
كما استطاع المؤلف أن يلائم بين المقهى باعتباره فضاء مفتوحاً يستجيب لأشكال الفرجة الشعبية ، ويساهم فى خلق التشويق داخل حكاية الفلاح.
وبذلك أعطى السيد حافظ لهذه الوحدات شحنات جديدة ساهمت فى بلورة نزعته التجريبية.
- الحـــوار :
يعتبر الحوار أهم سند للنص المسرحى فهو الخيط العام الذى يشد كل الأجزاء. وتكمن قيمته فى هذا النسيج لكونه يتيح التعريف بعلاقة الشخصيات فيما بينها من جهة ، ويخلق الصراع الدرامى من جهة ثانية . ومن مميزات الحوار فى مسرح السيد حافظ تنويعاته الكثيرة ، وعدم خضوعه لنمطية خاصة. فهو يجمع بين التركيز حينما يصبح تكميلياً لحديث شخصيات تتقاسم فيه النفوس التصور. وهذا ما نجده يتكرر باستمرار فى مجموعة : "الأشجار تنحنى أحياناً" . فالشخصيات يجمعها مصير واح، يتميز بطابع انهزامى. وقد يستغرق هذا الحوار فى أحيان أخرى وقتاً طويلاً ليتحول إلى مناجاة مغلقة بالحيرة والتساؤل ، لكنها تتوسل بطابع الوضوح فى التصريح بحقائق العصر. وقد تتراوح أحياناً بين الشعر والنثر والرموز الأسطورية المولدة للفضول ، وهذا حينما تبرز أمور مستعصية على الفهم، ويطبعها الغموض المفرط، كما هو الحال فى مسرحيتى "الأشجار تنحنى أحياناً" و"معزوفة للعدل الغائب".
وتحاصرنا حوارات السيد حافظ بالأسئلة الكثيرة التى لا تتوقف. وهذا ما يتكرر كثيراً فى كلام "الكورس" أو "المؤدى" فى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" . فكلما تكرر الأسئلة فى الحوار، إلا واستفزت القارئ ، وخاطبت عقله ومشاعره.
وعلى العموم فإن "الحوار فى مسرح السيد حافظ يتصل اتصالاً وثيقاً بموضوعات الساعة وكلها تقريباً تدور حول محنة الإنسان المعاصر... وحواره يؤثر مباشرة فى المتلقى ، لأنه حوار يبدو أغلبه بين كل من وبين نفسه عندما يشعر أنه موزع بين الرغبة والخوف"([39]).
ولإظهار هذا الشعور الموزع بين الرغبة والخوف فى حسم مواقف شخصيات السيد حافظ ، يتحول المونولوج إلى إحباط داخلى كبير. وهنا تبرز تجريبية الحوار لدى المؤلف ، على عكس ما هو متداول عند اغلب الدراميين التقليديين، حيث ترد الحوارات بشكل مندفع وصاخب.
هذا من حيث النفس ، أما الأخرى التى نلاحظها على الحوار ، فتبرز على وجه الخصوص فى استعمال تقنية التغريب البريختى. وهذه التقنية تهدف إلى كسر الإيهام المسرحى ، من خلال محاصرة المتلقى بالفنتازى . ويمكن أن نشير فى هذا الصدد إلى بعض الترنيمات الصوتية الآتية بداية من مجموعته : "الأشجار تنحنى أحياناًَ" :
- المرأة 1 : الحب يحترق أخرس.
- المرأة 2 : يحيا الزيف أصمت.
- المرأة 3 : يحيا الاستبداد والديكتاتورية هل هو هذا هو الواقع ؟
- المرأة 4 : المسجد دون مصلين ... إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء...([40]).
وفى مسرحية " إشاعة " نقرأ ما يلى :
- مصباح الزمان : لازم نعمل مجموعة جديدة من الشباب تعيد كتابة التاريخ من ثانى. ثورة 1919 مثلاً مين اللى ظلم، واللى اتظلم، من القيادة الحقيقية والقيادة الرسمية([41]).
ومن بين الصور الحية لتغريب الحورا ، ما نجده فى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر".
- السلطان : الوالى العاقل يفعل ما يشاء فى الخفاء، وأمام العامة يخرج فى ثوب شفاف كالضوء يتصدق ويصلى. ويبنى المسكن والمسجد....
- ................ هل تفهم يا بنى ؟؟ حين تزور بلداً مسيحياً ابن كنيسة، وبارك المسيحية ...([42]).
ولتكسير تعاقب الحوار ، يستغل المؤلف بعض الأغانى للمساهمة فى نزع الإيهام عن الجمهور. وهى أيضاً من التقنيات المعروفة فى المسرح الملحمى. وهذا ما يتجلى فى مسرحية إشاعة، عندما قرر الدكتور "مصباح الزمان" منح جائزته إلى مصر، إذ تخرج المذيعة مقاطعة كلام الدكتور:
- المذيعة : نعتذر عن هذا الخلل الفنى الذى حدث عبر الأقمار الصناعية والآن نقدم لكم أغنية "تخرج أغنية آه.. آه... أغنية محمد فؤاد"([43]).
وتتكرر الأغنية فى مسرحية "إجازة بابا؟" التى تأتى رداً على المظاهرات الصاخبة تتويجاً للنصر العربى :
- أم كلثوم : راجعين بقوة السلام راجعين نصر والحمام راجعين. كما رجع الصباح من بعد " ليلة مظلمة"([44]).
والأغنية فى مجملها تعبر عن الموقف المراد تبليغه كما تؤكد الإشارة الركحية : "تنزل أغنية تعبر عن الموقف"([45]) وعليه ، فإن استفادة المؤلف من المسرح فى توجيه الأغنية الملحمى نحو هذا النهج، يكون "بهدف التعليق على الحدث لا يهدف إبراز وتأكيد المعنى"([46]).
ومن التنويعات الأخرى فى الحوار ، نجد إقحام المكالمة الهاتفية فى مسرحية "إجازة بابا" . وقد أخذت حيزاً كبيراً فى هذا العمل. وهى تهدف إلى إبراز نوع من القلق الذى يزاحم "أحمد" فى كل مرة، إذ تتحول إلى مشاحنات أو معاكسات تزيد من محنة هذه الشخصية، وتقحمها فى عالم أخر من مجريات الأحداث لمشاكل الناس، قد يكون البطل فى غنى عنها. ومن المعلوم أن كتاب العبث من أمثال "آماموف" ممن عرفوا باستعمال المكالمة داخل النص المسرحى. فالمكالمة كيفهما كان نوعها، "تحل كخيط قيادى ، على الرغم من أنها لا تشكل النواة. لأن الحوار يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، العلاقة الجدلية التى تتأسس بين الشخصية والكلمة الموجهة مباشرة"([47]).
وإيماناً منه بالدور الذى يحظى به الجمهور فى المجال المسرحى ، وحتى يشده إليه بالتأمل وإعمال عقله ، يشرك السيد حافظ جمهوره بكسر الجدار الرابع . ومن مظاهر هذه العلاقة الحميمية ما نجده فى هذا الحوار :
- شاب 5 : (يدخل يحمل سبوتاً قوياً فى يديه يتجه به للجمهور) بالطبع حريتكم التى حلممتم بها ، منذ كل العصور كانت محدودة (يركز على أحد المتفرجين) أيها السيد أغمض عينيك الكريهة([48]).
وعملية تكسير الجدار الرابع أصبحت تقنية توظف فى كثير من الأعمال الطلائعية التى تهتم بالمتلقى فى المقام الأول. ومثل هذه الأعمال أصبحت تعتبر أن المشاهد "لم يعد مدعو إلى الانفعال بما يحدث أمامه. ولم تعد وظيفة المسرحية – وفق هذه النظرة - ، التخفيف من وطأة ما يعانى المتفرج من هموم وتطهير نفسه بالمفهوم الأرسطى للكلمة . أذ أضحى المتفرج ذاته معنياً بما يشاهده موضوعاًَ فيه"([49]).
على أن هذه العلاقة لا ينبغى أن تحجب عنا حقيقة مفادها أن ما يقدم مجرد تمثيل لا غير، بخلاف ما تقوم عليه التعليمات الأرسطية ، فى حرصها على خلق نوع من الإيهام فى ذهن المتلقى.
وتظهر تقنية البريختى فى حوار مسرحيات السيد حافظ بشكل لافت عامة، وفى مجموعته " الأشجار تنحنى أحياناً" على وجه الخصوص. وهذا الأمر يعطى نوعاً من التناغم بين مواقف الشخصيات كى تتماثل أو تتعارض مع حدث الهزيمة.
بالإضافة إلى ذلك ، فإن الحوار لم يُغيب تناقضات الواقع وقضايا الإنسان بصفة عامة، بل ظلت قضايا الواقع حاضرة باستمرار. وقد اعتمد المؤلف فى ذلك على "حوار مكثف غابة فى الكثافة يطرح معان ومعان للمعنى. إنه حوار عبثى وفلسفى ساخر وجودى وكونى"([50]) فهو حوار يخفى الكثير من المعانى، ويستتر عديداً من العلاقات. كما أنه حوار متصل بالواقع.
وخلاقة القول ، إن علاقة الحوار بالتجريب المسرحى عند السيد حافظ تتعدد أوجه تنويعاته. فلم يعد الحوار مجرد مؤشر منذر ببداية المسرحية كما هو الحال فى الدراما الكلاسيكية([51]). فضلاً عن ذلك فإن وظيفته لا تقتصر على دور ثانوى فى الفعل المسرحى([52]). حسب منظور المسرح الطبيعى . فالحوار فى مسرح السيد حافظ أعمق بكثير من هذه الحدود ، لأنه حوار يشكل جزءاً من الخطاب المسرحى. فهو – حوار – يتعدى الكلمة أو المنظور – ليشمل الفعل أيضاً ، وتصبح الحركة الجسدية فاعلية حوارية . كما تتآزر مكونات سينوغرافية (كالديكور مثلاً) فى مد قنوات الحوار.
ولم يقفز السيد حافظ أيضاً عن دور الحوارية فى كشف تناقضات الواقع وتفاعلات الحياة المعاصرة كما ذكرنا. فقد جاءت الحوارات محملة بالعديد من الأفكار الإيديولوجية. ولهذا الغرض ، فقد استدعى المبدع مجموعة من الوسائط التاريخية والتراثية والرموز الأسطورية قصد إغناء سبل الحوار، وتدعيم بلاغة الخطاب المسرحى.
ومن السمات الفنية فى حوارات السيد حافظ ، غلبة جانبة الحكمة فيها على الاندفاع مع ملامح حيرة وجودية فى فلسفة الحياة ، وعبثية الواقع ككل ، على نحو ما تجد فى مسرحية " تكاثف الغثاثة على الخلق موتاً" :
شاب 6 : حين أبدعت لم يكن لى صليب ولا أكتب الصعب ولا زحام المدينة قاتلنى، ولا زيف الساحة أخجلنى، ولا الوحدة ذبحتنى... لذا حين أبدعت كانت الحوادث مثل مرحاض لى . والخطيئة محبرتى ، خطيئة عمر الإنسان ، والخلق أوراقى وذاتى كلمات...
شاب 6 : رجال قريتنا ... يتميزون بالوساطة زجاجيو التكوين... والنساء بويضة شرهة للامتصاص الدائم... إذا رجال قريتى مدعون القدرة . بالرغم من أصواتهم العالية وأسرتهم الغرقى بالماء والصابون دليل الرجولة المقود .. رجال قريتى يهزمون فى الأسرة.. لذلك يهزمون فى المعارك.([53])
أو كما نجد فى مسرحية " معزوفة للعدل الغائب" فى هذا الحوار الحامل للكثير من المعانى :
الزوجة : يبدو أن الأفق به ملامح سخيفة .. توجد حدائق القزع فى لبك أيتها العجوز.
النجار : (لزوجته) ذراعك أجراس كنيسة ومئذنة .. كتب عليها اسم النبى الذى عاد من ثلوج الأغانى الجديدة البيضاء.
الفتى : ( للفتاة ) أعطيك صدرى كنيسة ترتلين فيها معزوفة اسم البنى الذى عاد من الأغانى البيضاء الجديدة. أعطيك ، صوتى مئذنة للخرس فى هذا العالم المضلل([54]).
كما ترد هذه الحوارات على شكل مونولوجات تجسد تلك الحيرة الوجودية فضلاًَ عن ذلك ، المونولوج يكثف درجة الصراع الداخلى والخارجى. وفى كل حالة، فهو خطاب موجه إلى الجمهور. وقد جاءت مسرحية " إجازة بابا" مستفيضة بهذه المونولوجات قصد تكثيف الفراغ فى المسرحية ، وخدمة موضوعها الرئيسى .
ولا تغل هذه الحوارات علاقة المتلقى ، إذ نجدها تتخطى هذه العلاقة الداخلية حتى يتسنى لها مخطابة الجمهور، وتأكيد كثافة الصراع الدرامى كما سنبين.
- الصراع الدرامى : يعد الصراع الدرامى الشحنة الأساسية فى كل عمل مسرحى. فكلما اشتد الصراع إلا وظهرت علاقة الشخصيات ، وتحددت مواقفها بصورة واضحة ويمكن للصراع الدرامى أن يكون مفتاحاً لإضاءة جوانب متعددة من أحداث المسرحية.
ففى الدراما الإغريقية كان الصراع مقتصراً على مواجهة البطل لقوى غيبية أو اسطورية. ومع مرور الزمن أصبح هذا الصراع يتسع مع ظهور الملاحم فى العصور الكلاسيكية والوسطى.
غير أن مقومات الصراع الدرامى الحديث لم تبرز بشكل واضح إلا مع الاتجاهات الطلائعية فى القرن العشرين، ولا سيما مع المسرح الملحمى. وقد تميز الصراع الدرامى فى هذه الاتجاهات بتعدد صوره وظهور اطراف جديدة فيه.
أما الصراع فى مسرح السيد حافظ ، فيظهر على عدة مستويات . ويأتى الصراع ضد السلطة فى مقدمة أنواع الصراعات . يقول عبد الله هاشم : " ومسرح السيد حافظ مسرح الإنسان فى واقع اجتماعى معين يموج بالصراع. وهو مسرح يقترب من المسرح السياسى"([55]).
ويظل الصراع السياسى جوهر هذا الصراع ، ويأتى الصراع العربى الإسرائيلى وهزيمة يونيو فى مقدمة هذه الصراعات . وقدم لنا المؤلف خلفيات الصراعات العربية من خلال مسرحيتى "الأشجار تنحنى أحياناً" و"رحلات ابن بسبوسة".
غير أن الحيز السياسى فى إبداعات السيد حافظ لم يمنعه من التطرق إلى ما هو اجتماعى ، كما هو الشأن فى مجموعته "إشاعة". وقد تضمنت هذه المسرحية صراعاً يندرج ضمن الصراعات الذاتية . وتجسد هذا النوع من الصراع فى مسرحيته الأخرى " إجازة بابا" . ففى هذه المسرحية تمثلت معناة "أحمد" النفسية. وظهر الصراع على شكل صراع بين القيم ، وبين ما هو قديم ضد ما هو جديد.
ومما يسم الصراع بطابع الحدة فى مسرح هذا ا لمبدع كثرة الأسئلة . وهى اسئلة مقلقة مستفزة تساهم فى تبلور جوهر الصراع بين تلك القوى المتصارعة، يقول " أمين العيوطى" عن هذا الصراع بانه " صراع بين قيمتين خلقيتين متعارضتين ونقطة الصراع أو الالتحام بين القوتين المتعارضتين. هو فى الواقع المحور الأساسى الذى تدور حوله الأحداث فى المسرحية كعمل فنى"([56]).
وصفوة القول إن السيد حافظ جرب العديد من أنواع الصراعات المتحققة فى الفعل الدرامى . وتمثل شئون الوطن العربى المادة الرئيسية التى تحرك هذه الصراعات لا سيما وأن جل مسرحياته ظهرت على إثر التطورات السياسية والعسكرية والاجتماعية التى عرفها.
وينفلت الصراع من أسر الزمن والمكان ليصبح صراعاًَ بين الخير والشر ، وإن اتخذ مظاهر معينة من خلال شخصيات أو قوى محددة بدلالاتها الرمزية ، وهذا ما نلمسه فى مسرحيتى "حكاية أبى ذر الغفارى" . فمأساة كل من "عبد المطيع" و"أبى ذر الغفارى" تتكرر فى عصرنا، لأن صراع المواطن ضد السلطة السياسية صراع أزلى ودائم.
إلا أن الصراع الداخلى هو الآخر يبقى حاضراً فى حياتنا المعاصرة. ويقوم السيد حافظ بمتابعة المعاناة النفسية لإنسان هذا العصر فى مجموعته "الأشجار تنحنى أحياناً" وغيرها. وعلى العموم ، فإنما يميز الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ هو تعدده وتنوع مظاهره وسماته.
فهو صرع يستجيب لكل مقومات الدراما التجريبية المعاصرة ، حيث تحول من صراع الميتافيزيقا الإغريقية تحددها تصرفات البطل إلى صراعات الشخصيات فى أفكارها ، من أجل قيمها وفى طموحاتها . وبمعنى آخر ، إنه صراع بين الذات والموضوع (صراع عبد المطيع من أجل العدالة الاجتماعية).
وفضلاً عن ذلك ، تحرر الصراع من أولوية الحدث فى تحديد جوهر الصراع فى بنية الحكاية الإغريقية ، ليشمل مكونات أخرى تحددها الشخصيات ، كما تساهم فى بلورتها جوانب الإخراج كحركة الضوء ، والموسيقى ، والعناصر السينوغرافية الأخرى (كالديكور والاكسسوارات) وغيرها مما يشكل فى عمومه لغة العرض المسرحى كما سنرى.
- اللغة : تمثل اللغة المسرحية وعاء لمجموعة من الدلالات التى يحدده السياق . وتدخل مجموعة من المكونات فى تحديد ماهية اللغة . فهى ترتبط بمجموعة أخرى من العلامات ، قد لا يستطيع المنطوق على إبرازها . لهذا يستعين المخرج بلغات أخرى كالديكور والمكياج والإنارة والموسيقى والاكسسوارات إلخ...
فضلاً عن ذلك تتحقق اللغة المسرحية عبر مجموعة أخرى من الأيقونات المرئية قد تظهر بواسطة مجموعة من الإحالات الركحية ، أو الإرشادات المسرحية الواردة فى النص. وقد تبرز مجموعة أخرى من المؤثرات السينوغرافية خارج النص المكتوب. وهى كلها تشكل مجموعة من العلامات أو الدلالات اللغوية ، لأنها توفر شبكة تواصلية تندرج فى سياق الخطاب المسرحى.
وتمتاز اللغة المسرحية عن غيرها فى كونها تزخر بمجموعة من الرموز العلاماتية تتحدى حدود الأدبية . فبإمكان اللغة المسرحية أن تتخطى هذه العلاقة الميكانيكية بين الدال والمدلول، بفضل تعدد شفراتها. ويقتضى التجريب من الفنان ضرورة الغوص فى جوف اللغة بغية الوصول إلى اكتشاف دررها الثمينة. فكلما اجتهد – هذا المبدع – فى اختيار لغته المناسبة ، وإبدع فى استلهام جديد المعانى ومتخيراً الألفاظ ، إلا وتحقق الإيحاء المطلوب.
وعلاوة على ذلك ، فإن اللغة المسرحية توفر تعدداً لغوياً تتنوع ملامحه من خلال مجموعة من العلامات والمحددات التشكيلية يقوم الفضاء السينوغرافى بتنظيمها. ولغة السيد حافظ المسرحية من هذا النوع الذى يأخذ بهذا التعدد الوظيفى للغة ى جوانبها المنطوقة والمكتوبة وتشيلاته السمعية والبصرية.
وفيما يتعلق بالمتن اللغوى ، فإن لغة السيد حافظ أيضاً لا تخضع للفصل بين الفصحى والعامية كما هو وارد فى جل مسرحياته ، باستثناء بعض منها ، على نحو " حكاية الفلاح عبد المطيع " و " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" و" معزوفة للعدل الغائب" ، التى جاءت باللغة الفصحى ، وقد رأى بعضهم - فى هذه المزلوجة – نوعاً من "القصور فى درجة التذوق (وحائلاً) دون تماسك الحدث الدرامى ... وهو ما ينال كثيراً من غرابة التجربة وغربتها"([57]).
ونحن نرى خلاف ذلك ، لأنه توافرت للمؤلف امكانيات لغوية وظفها ، ضربت جانب القصور هذا ، ولم تنل درجة من الإسفاف فى أحد مكونات العمل المسرحى، أى الحدث الدرامى لأنه جزء من الكل وحتى إذا افترضنا ضجة هذا الحكم ، فلا يمكن أن يخفى ظلال المقومات الفنية الأخرى التى استغلها السيد حافظ بطريقة إيجابية. ومن أمثلة ذلك ما قدمه المؤلف من أمثال شعبية متداولة كما فى مسرحية "رجل ونبى وخوذة" ، حيث يقول على لسان المجموعة 2 :
" الثعلب فات وفى ذيله سبع لفات والدبة وقعت فى البير وصاحبها راجل خنزير"([58]).
لا نجد معادلاً لغوياً لهذا المثل الشعبى يمكن أن يؤدى مثل هذه الوظية البلاغية . ومما يزكى الإمكانيات الفنية اللغوية للكاتب، وعدم لجوئه إلى اللغة المبتذلة فى إقحام العامى منها ، استعمل مجموعة من النصوص الشعرية التى تضفى على العمل جمالية خاصة ، وايحاءات طافحة بدلالات تعبيرية مؤشرة بقدرات عالية. والأمثلة كثيرة لا يسعنا المجال لإيرادها كلها. وسنكتفى بهذا النموذج :
شاب 3 : (يلقى القصيدة) : مصر فانية وأنا الباقى تتأرجح فى نهد الفجور المبتذل قسوة مقعرة فى عين الخلود.. صعلوكة التكوين... مقززة التفكير، عبقرية الفضاء ، الموت تفرز فى لحظة.. خنسة صرصاراً.. سبعاً وتنتهى عند سجادة الصلاة وصورة فى الميدان غلاف زيف وعقرب ساعة مشوهة المدار ، ونظرة احتقار تلفحنى فى دربها حين انتزع من صدرها أشواك الجمود والضحالة مصر قاتلتى([59]).
وتتحدد بلاغة اللغة الشعرية من خلال ما تمنحه من صور شعرية موجبة تكاد تقترب من لغة الشعر نفسها ، ومن تأثير فى نفس القارئ وتشويق لمتابعة باقى الحوارات.
كما أنها توفر حمولة معنوية مفتوحة على عدد كبير من القراءات والتأويلات. يقول سعد أردش عن البناء الشعرى فى مسرح السيد حافظ : " إن البناء الشعرى لا يقوم على موسيقى اللفظ ، بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى. الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ"([60]).
ولتكثيف الأبعاد الجمالية فى التعبير اللغوى، يلجأ الكاتب إلى توظيف مجموعة من التلميحات التى تبتعد عن المباشرة التعبيرية . وهذا ما يجعل منها "لغة الإيحاءات والتلميحات والتكثيف ، لغة التشبيهات والاستعارات والكنايات لغة المحسنات البديعية"([61]) ، إلا أنها تخدم المعنى لأنها : " لغة التوتر فى الكلمة" . ومن أمثلة تلك الإيحاءات ما نجده فى مسرحية : " امرأة وزير وقافلة".
المرأة : يا ولدى عندما تلد السحب أطفالاً وتصبح النساء عاقرات وتبيض الأرض سمكاً، ستعود لى ... وعندما يصبح القمر ذبابة بيضاء كسولة، ستختلج فى صدرك ورقات التوالد والإنبات.. وستعود لى، ستعود لى([62]).
وتحدد هذه السطور الشعرية جانباً من خرق اللغة العادية ، والاجتهاد فى اقتناص أبلغ الألفاظ وأقدرها على تشكيل الصورة الشعرية بأسلوب معبر يغنى عن كل تعليق.
ويحلق بنا السيد حافظ نحو عالم الرمز والإيحاد ، لنكتشف كواكب جديدة متوهجة بمتخيل الكتابة المسرحية الاستعارية ، اقتربت عنده – كما عند العديد من الكتاب والأدباء بوظائف فنية تحمل مجموعة من اشارات والتكثيفات الدلاليلة التى تنتجها السياقات الأسطورية . ويقوم التوظيف الدرامى للأسطورة عند المؤلف على مستويين ، الأول يرتبط بالجانب الفكرى السمتمد من عصور مختلفة ، منها العهد الفرعونى حين وظف شخصيتى "إيزيس" و"أوزوريس" لتصبح الأسطورة عنده إضاءة لفهم الواقع ، ومساعدة على تفسيره.
وعلى المستوى الأخير ، تؤدى الأسطورة دلالة رمزية تخدم اللغة من الناحية الجمالية بإيحاءات جديدة. فهو مثلاً فى مسرحية " تكاثف الغثاثة" ، يصور "إيزيس" وقد ضحت من أجل عشيقها، وهى لا تزال تبحث عن "أوزوريس جديد" ليبعث فيها الحياة مرة أخرى. ولكن أين هذا الأوزوريس فى العالم الدنيوى؟ . " وهنا أدركت إيزيس الصباح، فسكتت عن الكلام المباح وعرفت أن حذاء سندريلا لم يدخل قدمها"([63]).
كما يوظف أسطورة "أدونيس" من رؤية جديدة ، إذ يقدم هذه الشخصية على أنها لم تسترد حياتها، "أدونيس والنجم الدفين، وهذا القدر السجين . أبى مازال كلمات"([64]). فمازال الصوت بلا معنى ، لم يكذب حدث "زرقاء اليمامة" وكانت الهزيمة "قتلت زرقاء اليمامة لأنها رأت الحقيقة"([65]).
وكما ذكرنا سابقاً ، فإن أسطرة اللغة تؤدى وظيفة بلاغية تقترب من الاستعارات لتتلاءم مع طبيعة المسرح.
وتفوح لغة السيد حافظ بنفحات إسلامية بواسطة "لتضمين" ، سواء عن طريق الآيات القرآنية الكثيرة، أم المأثورات الكلامية فى أغلب المسرحيات من ذلك ما ورد فى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" . وما جاء على لسان "عمرو بن العاص" فى مسرحية " تكاثف الغثاثة..." يوظف الحكمة على لسان الشاب "مصر نساؤها لعب ورجالها مع من غلب"([66]).
فحين تغيب المواقف الشجاعة والقرارات الحاسمة تصير الأمور على ضدها. وللاقتراب من الوجدان الشعبى ، ضمن الكاتب لغتة مجموعة من الأمثال الشعبية التى ترددها العامة. ومن أمثلة ذلك ما نجده على لسان المجموعة 2 : فى مسرحية "رجل ونبى وخوزة"
قال إيه الثعلب فات وفى ذيله سبع لفات والدبة وقعت فى البير ، وصاحبها "راجل خنزير"([67]) أو قولله وهو يستغل الأغانى التى تهدهدها الأمهات للأطفال كى يناموا : " خذ البزة واسكت، خذ البزة ونام"([68]).
وفى هذه المأثورات من المعانى ما لا يحتاج فيه المرء إلى تعليق. وبعد، فإن اللغة التجريبية فى مسرح السيد حافظ معبرة ورصينة مشبعة بالإيحاء، بعيدة عن التعقيد والإيهام . ويمكن أن نقول بأنها لغة غنية بإيحائاتها المتنوعة ، ومنمنماتها المختارة. فمن حيث التركيب ، نجدها لغة منفتحة على كل فئات المجتمع الشعبى منها والنخبوى على حد سواء.
وعلى مستوى البناء الفنى، لهى لغة تزاوج بين اللغة النثرية والشعرية، إذ يصبح الشعر دعامة أساسية فى تلوين المعنى . وما يميز لغته المسرحية كذلك طابع الشفوية. وفى هذا يختلف عن كتاب المسرح الشعرى العربى ، من أمثال أحمد شوقى. فلغته الشعرية تقترب أكثر من المعانى الرمزية ، وتبتعد عن الغنائية. وفيها من التشويق ما يجعل منها لغة غير عادية.
وخلاصة القول إن اللغة فى مسرح السيد حافظ تشكل لوحة تشكيلية أحسن مبدعها فى اختيار ألوانها وتفتن فى تجسيد صورها التعبيرية. فهى لغة الكلمة المعبرة، والصور الناطقة امتزج فيها المحسوس بالمجرد، فاستطاعت بذلك أن تنفلت من أسر الكتابة لتعانق شاعرية الفضاء السينوغرافى وحركية الجسد المفتون بفعل التمسرح. إنها لغة التجريب بكل مقاييسه المتميزة.
الشخصيات :
تتميز شخصيات السيد حافظ بتعددها وتنوعها وبعدها عن النمطية. مما يبعدها عن الإطار التقليدى، ويقربها من الفعل الحركى النابض . وهى سمة تنسجم مع كل أجواء الحياة التى تعيش فيها . ووفق ذلك فهى لا تتصرف تلقائياً، وغنما تخضع تصرفاتها لضغوط الحياة. فهى شخصيات تتحرك على إيقاع الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بها، وصراعاتها الداخلية.
ومن سمات التنويع فى مسرح السيد حافظ ، التكثيف اللكبير لعدد من الشخصيات، وهو ما يقترب من طريقة " تيشخوف – فى – أول خروج على المسرح الأرسطى – فقد قدم لنا مسرحاً جديداً اعتمد فيه توزيع التركيز على عدد كبير من الشخصيات، متجنباً الأنماط الشخصية المسرحية السائدة"([69]).
وقد بلغ التوزيع للأدوار فى مجموعته "الأشجار تنحنى أحياناً" درجة قصوى بهدف خلق توتر فى الأحداث ، وتوسيع بؤر الصراع.
وعلى نهج المسرحيين العبثيين فى الغرب، من أمثال "بيكيت" و"آداموف" ، "تصبح الشخصيات أحياناً غير محددة ، بلا هوية، ولا جنس، حيث لا تقدم لنا الشخصيات تقديماً مادياً وتبرز مظهرها الخارجى وملامحها الخلفية المميزة ووضعيتها الاجتماعية وما إلى ذلك"([70]). وهذا ما سلكه المؤل فى كثير من أعماله. ففى مجموعته الأشجار تنحنى أحياناً تتحدد هذه العينة عبر مجموعة من الجوانب، منها مثلاً جانب تحديد الشخصيات عن طريق الألوان (أخضر – أحمر – أصفر – أسود) ، أو ذات قسمات شاحبة (الشايب – العملاق – الشمس – الأسود – الأصفر القصير - ...) . وبهذا تبتعد عن نمط الشخصيات " فى المسرح التقليدى التى تتميز بعمقها النفسى، وتوقها إلى تحقيق رغباتها الظاهرة أو الباطنة. فالشخصية فى المسرحيات الطليعية، تبدو بوجه عام فاقدة هذا المدى، خالية من تلك الرغبات، تتصرف وفق ضرب من العفوية"([71]).
هذا عن التكوين الخارجى للشخصية ، أما عن طوابعها الداخلية ومواقفها الاجتماعية والفكرية ، فنجد أنها شخصيات : "ضائعة فى خضم الحياة تبحث عن القيمة التى زيفتها أصابع الحضارة الحديثة وتعيش وحشة رهيبة فى طريق سعيها إلى تلك القيم، والمثل السامية ، سواء كان ذلك على الصعيد الاجتماعى الإنسانى، أم الأصعدة الأخرى كالدين والسياسة والأخلاق"([72]).
وهذا ما ينطبق بالخصوص على شخصيات مثل "ابن بسبوسة" و"أحمد" فى مسرحية "إجازة بابا" و"صبرية" و"ليلى" فى مسرحية "العزف فى الظهيرة" و"هدى" و"سنية" فى مسرحية " إمرأتان".
وعلى العموم ، فهى شخصيات تعانى فى رحلتها قساوة العذاب السيزيفى، ولا تستطيع أن تقاوم صخور الواقع. وهذا ما نلمسه فى شخصيات "مصباح الزمان" أو "الدكتور" فى مسرحية "إشاعة" ، و"الخطاط" و"النجار" فى مسرحية "معزوفة للعدل الغائب". أو حتى "عبد المطيع" الذى يبقى حالماً فى مسرحية " حكاية عبد المطيع" ، فبالرغم من أنه يريد أن يقتحم السلطة ويتحدى قراراتها، "يظل على العموم بطلاً بونوبياً لا يصنع لنفسه. يتكلم أكثر مما يتصرف... بمعنى أنه متردد سلبى أو متحرر مثقف سلبى. لا يخطب ولا يحمل سلاحاً، لا يقتل ولا يسفك الدماء،ـ يستخدم سلاح الكلمة التى يراها أشد فتكاً من الرصاصات، يهادن بالسلم أكثر من حبه للحرب"([73]).
ومما يميز شخصيات مسرحيات السيد حافظ عامة، أن البطل يظل دائماً يصارع دون أن ينال من أعدائه . وحتى حين يحاول أن يجهز بكلامه لا تتردد صيحته إلا فى واد. وكأن المؤلف يؤكد بذلك أن عصر البطولة قد انتهى، "فلا أهمية للتراجيديا التى تحاول أن تجمع الحقائق عن أخطائنا شعورياً كأبطال"([74]).
فعندما تغيب البطولة الفردية المنتصرة ، ينشأ "امتصاص المتفرج اللواعى للآلام التى تعانى الشخصيات الأمر الذى يزيد من إدراكه لحقيقة آلامه النسية. وهكذا يزداد المتفرج وعياً وفهماً وإدراكاً من خلال المعاناة والمقاساة والآلام"([75]).
فحتى "أبو ذكر" لا يحمل صوته وحده ، بل يعبر عن شرائح المجتمع.
ومن سمات التجريب للبطل التراثى أو التاريخى فى مسرح السيد حافظ، أن البطل يتخطى بطولته الفردية، ليلتحم بالجماعة، ويعبر عن همومها وآمالها. فشخصيات "أبو ذر" و"والحاكم بأمر الله" كلها رموز ووسائط يستغرقها البحث عن وجود زمكانى فى خريطة هذا العصر، وهذا الأمر ينطبق أيضاًعلى "ابن بسبوسة" باعتباره لسان حال هذه الأمة أو شاهداً عليها.
علاوة على ذلك ، يقدم لنا السيد حافظ شخصياته بطريقة تجريبية بارعة. فشخصياته قادرة على حمل اللعديد من الأقنعة ، وتجسد مفارقة الواقع للحقيقة. وبذلك يرتبط الوهم بالحقيقة والتمثيل باللاتمثيل. وهى خصائص تساهم فى تعميق وعى الجمهور بما يجرى أمامه.
ولإعطاء دينامية جديدة لمفهوم "الكورس" أو"المؤدى"، يحور السيد حافظ وظيفتهما برؤية مختلفة عن استعمالهما عند المسرحيين اليونانيين، حيث كانت "الجوقة عندهم مجرد وسيط محايد، تقوم بتفسير أقوال الممثلين، والتعليق على الأحداث الجارية، أمام المشاهد دون أن ترجح كفة طرف على الآخر"([76]). فمهمة "الكورس" يتحدد عنده فى المشاركة فى الأحداث والتدخل فيها، كما فى مسرحية "ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى".
ومن ثم فإن عمل " الكورس " أو "المؤدى" يصبح غير محايد فى عملية الصراع، فاعلاً فى الأحداث وتطورها ، ومعبراً عن إيديولوجيا الكاتب، خلا لما كان "يحدث عند بريشت يظل الرواية والجوقة خارج نطاق الحدث، يحكيان عنه ولا يلعبان دوراً فى تطويره"([77]).
ومن مظاهر التجريب الأخرى فى انتقاء شخصياته، يستعين السيد حافظ بنوع آخر من أنواع الأبطال عن بنى البشر ، وفى مسرحية "امرأتان" ، يقوم الكلب بدور البطل بدل الإنسان. فقد اختارت المرأتان هذا الحيوان رفيقاً لهما بعد موت الإنسان. وفى خذا الاختيار أكثر من دلالة. ثم إن المؤلف تجاوز مفهوم الشخصية الحيوية ليمتد إلى الأشياء المادية المحسوسة كالاكسسوارات مثلاً.
وخلاصة القول إن السيد حافظ قد قدم لنا من خلالل أعماله "مسرحاً تجريبياً استخدم فيه أغلب حيل التجريب التى عرفت فى المسرح الغربى بدءً بالإغراب والتغريب، ومروراً على حرفيات المسرح التغييرى، وعلى وسائل المسرح الوصفى، واستخدام الأصوات المتقاطعة ، وأسلوب المسرحية النفسية فى تعرية العلاقات الاجتماعية والشخصيات الإنسانية، وطريقة النقلات السريعة والتوازى لإبراز حدة المفارقات فى الحدث والشخصيات ، وأسلوب التمسرح والارتجال"([78]).
غير أن اقتناءه مجموعة من التقنيات الغربية لم يصرفه عن "خلق مسرح يمتلك أسساً قوية تميزه بخطابه الأدبى والفنى بعيداً عن الإتباع. قريباً من الإبداع... من خلال تجريب واع بشروطه الاجتماعية والحضارية والإنسانية"([79]).
ومن خصائص هذه الأسس القوية التي قدمها المؤلف ، مراعاته لأفضل شرط فى التجريب، وهو التحرر من أسر التعاليم الجاهزة، وامتطاء الأشكال الفنية والجديدة المنفتحة على انجازات الثقافات العالمية. ثم إن التجريب عنده يسعى إلى تأسيس مسرح معاصر لا يقطع صلته مع الذاكرة العربية والإسلامية، ويستجيب لمتطلبات الواقع المعاصر. وبالرغم من أن المؤلف استطاع أن يقدم لنا نماذج مسرحية تستجيب لعملية التجريب ، وتجيب عن مجموعة من الإشكاليات الفنية والفكرية، فإن ما يميزها أكثر هو كونها قابلة للقراءات والتأويلات. وهى مهمة يتكفل بها كل من المخرج والمتلقى معاً. سنبحث مكونات الإخراج عن السيد حافظ لنرى كيف تساهم فى إثراء النص المسرحى، وإغناء عملية التلقى معاً.
([1]) السيد حافظ : مقدمة مسرحية " الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء" ورد المقال فى كتاب السيد حافظ : مسرح الطفل فى الكويت . سبق التعريف به . ص : 95.
([2]) صبرى حافظ : " التجريب والمسرح : دراسات ومشاهدات فى المسرح الانجليزى المعاصر" الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1984. ص : 7.
([3]) فرحان بلبل : المؤلف العربى وتأثره بالتيارات المسرحية العالمية . الحياة المسرحية. ع : 3 . خريف 1977. ص : 123.
([4]) مسرحية : "بنات تراخيس" تأليف سوفوكليس. ترجمة وتقديم : د. أحمد عثمان . مراجعة محمد حمدى إبراهيم. عن سلسلة : المسرح العالمى (الكويت) يونيو 1990 . عدد 249. ص :18.
([21]) د. مصطفى رمضانى : "جدلية الخفاء والتجلى فى مسرحية ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى" . سبق التعريف بهذا المرجع. ص : 187.
([23]) د. نهاد صليحة " المسرح بين الفن والحياة والفكر " الهيئة العامة للكتاب. القاهرة. الطبعة الأولى 1986. ص : 17.
([33]) " حكاية الفلاح عبد المطيع ممنوع أن تضحك، ممنوع أن تبكى" . ورد المقال فى مجموعة السيد حافظ المسرحية : " الأشجار تنحنى أحياناً " ص : 284.
([34]) سامية أسعد : " مفهوم المكان فى المسرح المعاصر" مجلة عالم الفكر (الكويتية) المجلد 15. العدد 4 يناير – فبراير – مارس – 1985.
([37]( Paul louis Mignon : Panorama du théâtre au XX (20 e) siècle. Gallimard. (Editions) 1978. France . p. 292.
([38]) سامية محمد أسعد : " الاتجاهات الرئيسية فى المسرح الفرنسى المعاصر" مجلة الأفلام (العراقية) السنة 15. العدد 1 – أكتوبر 1979. ص : 6
([39]) د. شريف الحسينى : "تحولات فى المسرح العربى ابداعات مسرح السيد حافظ لماذا نغتالها ؟! ورد المقال فى كتاب السيد حافظ مسرح الطفل فى الكويت . ص : 97.
([50]) د. أحمد العشرى : بين التجريب والالتزام وهموم الإنسان . مقال ملحق بمجموعة السيد حافظ المسرحية إشاعة سبق التعريف بالمرجع. ص : 262.
([60]) مقدمة مسرحية : " حبيبتى أميرة السينما للسيد حافظ" سلسلة الوطن العربى "رؤيا" الاسكندرية . الطبعة الثالثة. 1983 ص : 18.
([61]) أحمد فضل شبلول:" اللغة الشعرية فى مسرح السيد حافظ" كتاب السيد حافظ ، بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى . مرجع سق ذكره. ص : 34.
([70]) محمد ا لناصر العجيمى : المسرح الطليعى فى مصر (1962 – 1974) سلسلة آداب عربية . منشورات دار المعلمين العليا. سوسة – تونس 1991 ص : 180
([72]) حسن عبد الهادى : قراءة لأعمال السيد حافظ المسرحية . مجلة صوت الخليج الكويتية. نوفمبر 1981. ورد المقال فى كتاب السيد حافظ بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى. ص : 130.
([73]) محمود قاسم : "ملامح البطل فى مسرح السيد حافظ " مجلة الباحث اللبنانية – السنة الخامسة. العدد 3-1983م – دراسات فى مسرح السيد حافظ ج 1 – ص : 105.
([74]) أحمد العشرى : "البطل الحديث فى المسرح المعاصر" مجلة المسرح – القاهرة – السنة الأولى – العدد 3 1981 ص : 75.
([75]) فوزى فهمى : "فى مفهوم التراجيديا والدراما الحديثة" الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1986 ص : 83.
0 التعليقات:
إرسال تعليق