دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(28)
البـنـاء الـفـنـى نـحو الـهويـة الـقـومـيـة
و مســـــرح الســيــد حـافـظ
بقلم الدكتور / مصطفى عبد الغنى
دراسة من كتاب إشكالية الحداثة والرؤى النقدية في المسرح التجريبي
الســيد حــافظ
البـنـاء الـفـنـى نـحو الـهويـة الـقـومـيـة
و مســـــرح الســيــد حـافـظ
بقلم الدكتور / مصطفى عبد الغنى
لا شك أن المسرح المصرى المعاصر تأثر تأثراً كبيراً بالتجريب الغربى، وعلى الرغم من أن جيل الستينات كان مهموماً بالقضايا والمضامين فى المقام الأول، فإن جيل الستينات فى مصر عرف أشكالاً درامية كثيرة أجملتها د. حياة جاسم بأنها : التراجيدوميدى والدراما الملحمية ودراما العبث واللامعقول والمسرح داخل المسرح والدراما التسجيلية، وذلك فى كتابها (الدراما التجريبية فى مصر، دار الآداب بيروت 83)
ولأن المسرح المصرى فى السبعينات كان قريب العهد بمسرح الستينات، فمن الطبيعى أن يتأثر به ويقترب فى أشكاله من أشكال هذا المسرح، وهو ما يطرح علينا السؤال الآتى :
هل المسرح المصرى فى السبعينات قد تأثر حقيقة بتجربة المسرح المصرى السابقة عليه فى عقد الستينات؟
وإذا كان ذلك كذلك، فإلى أى مدى كان هذا التأثر؟ وما طبيعته؟
هذه أسئلة لابد للإجابة عنها من كشف طبيعة التناول الفنى فى السبعينات..
إن الذى يمكن أن يحدد طبيعة التجربة وبدايتها إحدى الملاحظات التى أشرنا إليها سلفاً، وهى، أن تأثر هذا الجيل –السبعينات – اختلف عن تأثر الجيل السابق عليه.
وبمعنى آخر، إذا كان الجيل السابق عاش الأحداث السياسية عن قرب، وتناول قضايا المرحلة السابقة، الاجتماعية منها والسياسة من الداخل، فإن جيل السبعينات، فيما بعد وعلى العكس من ذلك، واجه زخم الأحداث ذات الطبيعة الخاصة، مما نتج عنه تركيز جهده على قضية أكثر بروزاً فى عصره من العصر السابق عليه، هى قضية الديمقراطية.
وتفصيل ذلك، إن قضية الديمقراطية، لم يكن الجيل السابق ليستطيع التوقف عندها قط، لانشغاله عن قضايا التجربة الاشتراكية فى الستينات، التى لم تكن تخرج بحال من الأحوال عن القضية الوطنية والهم الوطنى والاجتماعى وما إلى ذلك، فضلاً عن أن إنجازات جمال عبد الناصر فى الجانب الوطنى والاجتماعى دون جانب الحريات السياسة كان يأتى فى المقام الأول.
ومن هنا، كان غياب عامل التحرر السياسى الداخلى والممارسات الدستورية خاصة فى فترة التحديات الداخلية والإمبريالية قميناً بأن يدفع جيل السبعينات لأن يهتم بالديمقراطية أكثر من القيم السياسية الأخرى.
لقد فرضت القيمة السياسية الجديدة نفسها على الأفهام فى السبعينات، فاستجاب أبناء هذا العقد للأحداث الهادرة، وانعكس هذا فى الإبداع الفنى.
وقد كان التأثر بالقيمة السياسية الجديدة دافعاً ليتبلور هذا الجانب الفنى، فالتفرقة بين القيمة السياسية والتناول الفنى هنا هى تفرقة نظرية، ذلك لأن من البديهيات أن الممارسة الفنية تؤكد أن التناول الفنى لا يعدو أن يكون مضموناً متحولاً إلى شكل وفى التحليل الأخير لا يتبقى، كما يقول أصحاب أسس النظريات الأدبية،.. إلا العمل الأدبى بكامل وجوده وكينونته.
وعلى هذا النحو، فنحن الآن أمام محاولات درامية جديدة، يلعب الدور الأول فى تشكيلها الفنى هذا الواقع السياسى الجديد.
ورغم تباين محاولات التجريب الفنى هنا، فإنها جميعاً لم تجاوز هذه الدائرة، دائرة التعبير عن قيمة سياسية فى المقام الأول.
ومما سبق ذكره يتبين إننا أمام مواجهة التجريب الغربى بارتفاع خطوط الإسقاط السياسى الذى لا يجاوز المستوى الدرامى، وإذا بنا أمام المستوى الملحمى، وإذا بنا أمام المستوى التجريبى، وإذا بنا بعد ذلك كله أمام مستوى الإفادة من الظواهر التراثية وإن جاء هذا فى مرحلة تالية، وإذا نحن أمام بقية عناصر هذا المسرح السياسى من تلمس الأسطورة، واستعادة خطوط التاريخ واتساقه، والإفادة من المفردات اللغوية فى الإناء الفكرى، وتلمس الرمز والتجريد وتأكيد التكرار فى التيمات والرؤى المتشابهة.
وباختصار، نحن أمام تشكيل فنى اقتضاه التشكيل المعنوى المعاصر.
وهنا نصل إلى حيرة السؤال:
فما هى إذن أهم عناصر الرؤية الفنية وأبعادها؟
وسنحاول هنا الاقتراب من هذا العالم.
التجريب الغربى :
نحن لا نستطيع الآن تصديق الرأى القائل أن كتاب السبعينات –من الدكاترة الأربعة – كانوا (متفقون على أن شكل المسرحية التى عرفها الإغريق القدامى والغربيون المحدثون هو الشكل النموذجى الذى يجب أن يحذوا حذوه ويصوغوا رؤاهم فى إطاره).. ذلك، لأنه إذا سلمنا جدلاً بذلك، فسوف نجد الشكلين متجاورين فى آن واحد : الدراما والملحمية.
إن د. عبد العزيز حموده فى أول أعماله راح يبعث روح الملحمية فى نص (الناس فى طيبه) فى وقت حرص فيه على اتباع قواعد أرسطو مثلاً فى وحدة الحدث ووحدتى الزمان والمكان وما إلى ذلك.
لقد حرص د. حموده على الشكل الدرامى، هذا صحيح، ويظل صحيحاً أيضاً، أنه حاول أن يجاوز العناصر الدرامية فى الوقت نفسه أكثر من توفيق الحكيم قبل ذلك.
ويزيد هذا أكثر بين أول أعماله وآخرها. إذ يلحظ أنه فى آخر أعماله حرص كثيراً على أن يجاوز روح أرسطو والإفادة كثيراً، من روح بريخت وبيتر فايس وغيرهما.
ترى، ماذا يعنى هذا.. ؟
يعنى، إنهم، فى الفترة الأولى اقتفوا أثر القواعد الأرسطية والتجارب التقليدية بتراثها الذى يمتد إلى الوراء إلى ما قبل ميلاد المسيح، وهو ما يمكن أن نوافق عليه، وخاصة أن أعمالهم يمكن أن تؤكد أنهم آثروا التركيز على ثلاثة أشكال درامية تعود – فى جميعها – إلى الغرب المعاصر على الأقل فى شكلها الظاهر. وهذه الأشكال يمكن إجمالها على النحو التالى:
- الشكل الدرامى
- الشكل الملحمى
- الشكل التجريبى
لقد آثر كتاب السبعينات الشكل الدرامى، وأهم قيمة خاصة عندهم هى قيمة الإسقاط السياسى، وهى من أبرز القيم الفنية التى حرصوا عليها.
والإسقاط السياسى هو من أرفع أنواع هذا المسرح –السياسى – إذ يضمن شيئين، أحدهما، تلك الحرية المطلقة فى معالجة القضايا، وما يتبعه من الهروب من الرقابة.. والتخفى منها فى ثوب شفيف، أما الشىء الآخر، فهو، الابتعاد عن المباشرة السياسية فى التعبير، وهو ما يصل بالفنية إلى أعلى درجاتها.
وقد حرص كتاب السبعينات على هذا النوع فى محاولة التعبير عن القضايا الآتية، فى وقت لم يجاوزوا فى هذه المرحلة إطار الوحدات الأرسطية المعروفة.
إن مراجعة النصوص التى كتبت حينئذ، يرينا أنها تكاد تذهب فى أغلبها إلى تقليد تلك الدراما، ذلك أن النص المسرحى يقسم إلى فصول، والفصل يقسم إلى مشاهد، وبينما يهيئ الفصل الأول الحدث الرئيسى فإن الفصل الثانى يطوره، حتى إذا ما انتهينا إلى الفصل الثالث يكون الحدث قد وصل إلى ذروته فيقدم الحل الذى تكون دائرة الإسقاط السياسى قد اكتملت عنده.
ورغم ظهور بعض الأصدقاء التجريبيين فى السبعينات يمكن القول إن كتاب السبعينات آثروا فى بعض الأحيان أن يكونوا (أرسطيون) أكثر من أرسطو نفسه، فلم يكن التحول الذى حدث فى النصف الثانى من الخمسينات فى مصر فى شكل المسرح ليغير كثيراً من أولئك الكتاب من الجيل الثالث..
إن أول أعمال فوزى فهمى (عودة الغائب) كان يستلهم الشكل الاغريقى استلهاماً تاماً، سواء فى طبيعة المضمون أو التناول الفنى، وهو ما لا يمكن تجاوزه كثيراً فى بقية النص.
لقد حرص الدكاترة محمد عنانى وسمير سرحان وعبد العزيز حموده وفوزى فهمى وأيضاً عبد الله الطوخى.. على اقتفاء أثر الدراما التقليدية فى وقت لم يجاوزوا فيه الإسقاط السياسى.
ولا يعنى هذا أن الإسقاط هنا كان ملتزماً بالشكل الفنى فقط، فمن التجنى أن نعتقد فى هذا الجيل نمطية (القالب) وحسب، وإنما الالتزام ببعض الأنواع الأخرى فى التعبير.. إن عبد العزيز حموده، وكما أسلفنا، كان أقل التزاماً بالشكل الدرامى منه بالنسبة إلى الحكيم وباكثير من قبل، وفوزى فهمى، استخدم بعض التقنيات البريختية فى أكثر من موضع، وإن جاء هذا أحياناً من قبيل تلمس (الموديل) البريختى، ومع ذلك، فإننا لا نلبث أن نلحظ تداخل خطى الدراما والملحمة.
ربما كان عبد العزيز حموده وفوزى فهمى أكثر أبناء جيلهما تلمساً لهذا الشكل وإيثاراً له، فعند عبد العزيز حموده نلحظ الخطوط الملحمية بما فيها من وسائل كسر الإيهام الأرسطى واستخدام الراوى استخداماً متكرراً خاصة منذ أول أعماله (الناس فى طيبة)، ففى الوقت الذى حرص فيه على استخدام هذه الحيل البريختية لم يبتعد قط، عن شكل البروسنيوم الأوروبى، وتتناثر الخطوط البريختية أكثر فى نص مثل (الرهائن) حيث تزيد درجة استخدام كسر الإيهام خاصة منذ بداية الفصل الأول، حين تقف جيزيل على يمين مقدمة المسرح لكى تخاطب المتفرجين، فتقول :
جيزيل : مساء الخير.. اسمحوا لى أقدم لكم نفسى.. اسمى جيزيل اسم العيلة مش مهم.. من سكان جزيرة.. (تتوقف) إحدى الجزر فى الميحط الـ.. برضك مش مهم.. خطوط الطول والعرض؟ اللى تهمه المعلومات دى كلها يقدر يدور على جزيرتنا فى أى أطلس كويس.. حيلاقيها بقعة صغيرة فى موقع فريد بين قارات العالم الخمس.. عدد السكان؟ اعتقد أن العدد مهم.. علشان كده لازم تعرفوه.. الخ.
وفى هذا الوقت الذى تستطرد فى حديثها الموجه إلى المتفرجين.. فإن الممثلين المشتركين فى المشهد الأول يبدأون فى الدخول وهم يدفعون شجرة بسيطة من الإسفنج الأبيض دون دهان، وتبدأ الإضاءة على جيزيل فى الخفوت كما تؤكد إرشادات الفصل الأول، وحينئذ توجه جيزيل الحديث إلى الممثلين ثانية :
استنى يا أخينا إنت وهو.. خلينا نقدم الموقف.
وحين يخرج الممثلون من حيث جاءوا تنفيذاّ لإرشادات جيزيل/ الراوى، فإنها تعود لتوجه الحديث من جديد إلى المتفرجين، ليبدأ الموقف من جديد، وحين تصيح بهم ليدخلوا، لا تلبث أن تنضم هى إلى بقية الممثلين لتندمج فى هذا الموقف الذى يسيطر على أمامية (الكادر).
وإذا كان هذا السرد (= المخاطب) يتقطع لتبدأ الدراما طيلة النص، فإن ذلك السرد، ينتهى به الموقف كله حين تعود جيزيل ثانية، ولكن فى نهاية النص لتصيح فى الجمهور فى وقت يبدأ فيه الإظلام التدريجى وتتناثر فى الوقت نفسه حركات البانتوميم ويضاء (الافاتسية) وما إلى ذلك من علامات المسرح الملحمى، تخاطب الجمهور، فتقول :
جيزيل : ابتسموا.. نعم.. ابتسموا أيها السادة.. ما تخلوش رؤية المؤلف تزكم أو تمثيل فى تمثيل.. اذن.. روحوا ارجعوا بيوتكم وناموا مستريحين.. لأن الواقع غير كده خالص.. إذا كان الناس فى الجزيرة الوهمية بيبيعوا.. وإذا كانوا بيحولوا إلى رهائن من غير ما يحسوا أحياناً.. وبارادتهم أحياناً.. فالواقع اللى بنرجع له.. غير كده.. غير كده خالص.. موش كلنا بنبيع.. وموش كلنا رهائن.
ويمعن المؤلف فى رؤيته، فإذاً جيزيل (= الحاكى) تتجه إلى صالة المسرح ولا تلبث أن تخرج مع الجمهور.
وعلى هذا النحو، المسرح هنا يجاوز الدراما إلى الملحمة.. بقصد أن يكون له دور فعال ليولد بطريق مباشر أو غير مباشر فى جمهوره الإحساس بالغرابة والدهشة لما يجده أمامه، وهو يمنع المتفرج، كما هو الهدف فى المسرح الملحمى، من الاغتراب، فيحوله إلى متفرج غير سلبى، يفكر، ويحمل عقلاً، ويستخدمه أيضاً.
وما يمكن أن يقال عن (الرهائن) يقال عن (الظاهر بيبرس) آخر أعماله المخطوطة.. سواء فى استخدام (اللعبة المسرحية)، أو فى ظهور الراوى منذ الفصل الأول، ليبدأ فى إنشاد وسرد جزء من السيرة الشعبية مستخدماً فى هذا العديد من مظاهر المسرح الملحمى.
وأيضاً (المسرح الشامل) من شعر وغناء وحركة وتشخيص وإضاءة وبقع ضوئية عديدة.. لتبدأ أشباح الماضى فى الظهور على صفحة المسرح المفتوحة.
وهنا يدخل الراوى بربابته إلى الخشبة ويعتلى دكة أعدت لهذا الغرض كما تشدد الإرشادات المسرحية، ويعلو صوته :
الراوى : قال الراوى يا سادة يا كرام، هذا ما كان من أمر السلطان، أما ما كان من أمر مصر المحروسة (يكتمل الإظلام) ففى مقهى الأسطى فرج فى حى الحسينية كان الحال غير الحال.
وتعود مظاهر (المسرح الشامل) التى يعمد المؤلف إلى اثباتها، والتى نعمد نحن أيضاً هنا إلى نقلها لدلالاتها نرى الخشبة على النحو التالى:
(تبدأ أشباح خيال الظل تظهر على الشاشة الأمامية التى تسد فتحة.. البروسينيم.. وهى شاشة ينزلق نصفاها إلى اليمين واليسار حينما ينتهى الغرض من وجودها إيذاناً ببداية الأحداث على الخشبة ذاتها، موسيقى تصويرية حزينة. تتضح أشباح الخيال، رجل جالس فوق كرسى أو دكة عالية، أمامه مباشرة خيال لرجل آخر ينحنى بصورة مبالغ فيها تحية للجالس، يمد الجالس يده للثانى الذى يقبلها فى تواضع شديد، فجأة وبينما يقبل السيد يستل خنجراً ويطعن به الجالس طعنة ثم أخرى، صرخة ألم يسقط معها الجالس من فوق الدكة يتبع هذا المشهد مباشرة، وقبل أن تنتهى صرخة القتيل، صرخة أخرى لا نعرف مصدرها)
وعلى هذا النحو، يكون الراوى قد هيأنا للدخول إلى الموقف فى بداية الفصل بعديد من الظواهر التراثية التى سنعرض لها فى موضعها، مشيرين هنا إلى دلالة هذه الإشارات فى النص الذى بين أيدينا.
ويتحول الراوى فى بداية النص إلى (أراجوز) له شخصية مميزة، لكنه يتحول، فى نهاية النص، إلى (أراجوز) فاقد هذه الشخصية، إذ يردد بانصياع شديد لما يمليه عليه ممثل السلطة بالقسر والعنف الشديدين، وما بين البداية والنهاية تتناثر هذه الخطوط التى لا نخطئ فيها، قط، هذه الخطوط الملحمية التى يجهد صاحبها فيها للافلات من قبضة أرسطو، وإن كان لا يقلب له ظهر المجن شأنه شأن هذه المحاولات التجريبية الجامحة.
الأهم من هذا كله إنه إلى جانب العناصر الملحمية تظل إمكانية طرح الكاتب لآرائه الخاصة من أهم هذه العناصر الملحمية التى تسيطر على جو النص العام، إذ يناقش آراءه التى يرغب فى إثارتها والتأكيد عليها والتى لا تخرج فى أعماله كلها عن المحورين :الحكم أو الشعب.
وهذه القضايا تهم المتفرج الذى يكون مهيأ للاستجابة معها، فى حالة واحدة، هى أن ينجح هذا الكاتب أو ذاك فى استخدام (التشكيل) الفنى بقصد التجاوب أو التراسل الطبيعى والصحيح مع الجمهور.
أما فوزى فهمى فإن اتجاهه إلى المسرح الملحمى بدأ أكثر وضوحاً فى أعماله الأخيرة، خاصة فى النص (لعبة السلطان) أكثر أعماله نضجاً وتبلوراً.
إننا فى هذا النص نجد كل الخطوط التى تزيد من التغريب، كما تعمل على استخدام حيلة (اللعبة المسرحية) لتغذية الحكى الدرامى، كما يحرص على تسلسل الأحداث دون ما ارتباط كبير بالزمان والمكان (وإن كان لا يغفلها لاقتراب الشكلين الدرامى والملحمى)، كما يحرص على تتابع الفصول بشكل واع مما يترك فرصة للمتفرج للتأمل وإصدار الأحكام فى المقارنة بين شخصياته من أمثال (جعفر/ الأشرس/ العباسية/ بهلول..) ثم مفردات هذا العصر السياسية الكثيرة من أمثال (الشورى/الكرامة/الإنسانية /المساواة / الفكر الضائع) وما إلى ذلك من سمات هذا العصر..
ويمكن أن يضاف إلى ذلك حرص فوزى فهمى على أحكام (الحكاية) الدرامية وهو ما يذكرنا بحكاية بريخت الذى يحرص فيها على أن تكون هذه الحكاية أو (الحدوته) هى جوهر العمل ومركزه الأساسى، كما يمضى فى هذا السياق لتلك الحيل التراثية الأخرى التى حرص عليها (لاحظ تلازم الحيل البريختية والتراثية لارتباطهما معاً كما سنرى) .. ومن هذه الحيل تأتى العناصر الفنية من أمثال (البلياتشو/ صاحب الصندوق/ الراوة..) وما إلى ذلك لإعطاء الحكاية هنا طعماً خاصاً يمكن ارجاعه إلى تقنيات المسرح الملحمى أو التراثى سواء بسواء.
وقد يكون من المفيد أن نشير بعد ذلك إلى هذه العلاقة الأكيدة بين المسرح السياسى والمسرح الشعبى، وهى علاقة يمكن أن تعود إلى تعريف (يونج) المعروف للاّشعور، الجمعى.. بما يعنى براعة بعض ممثلى السبعينات فى استخلاص اللاشعور، ثم محاولة اللعب على وتره لتوكيد الدلالة المعرفية التى يريدها..
فلنرجئ الحديث عن هذا بعد تناول الشكل التجريبى فى مسرح السبعينات.
إذا كان التجريب فى بعض درجاته يتحول إلى مسرح ملحمى، فهو عند درجاته الأخرى، الجامحة، يمكن أن يتحول إلى مسرح آخر، لا يرتبط بالملحمية، بقدر ما يرتبط بالقاعدة الشهيرة أن (القاعدة هى اللاقاعدة فى الفن)..
وهذا يعنى بالمفهوم البسيط أن الفن يمكن أن يكون فى ممارساته الفنية تنظيراً لأية نظرية، ولا يكون من الضرورى دائماً أن ترتدى هذه الممارسة ثوب الفن (الضيق) فى بعض الأحيان.
غير أن التجريب بدون وعى فنى يصبح جموحاً طائشاً.
ومن هنا نرى حركة التمرد على الشكل الدرامى، فى اتجاه المسرح الملحمى، لوناً من ألوان (الفن) الواعى، وقلما نجد الجموح بدون وعى فناً بأى مقياس..
وعلى أية حال فإن التمرد عند عبد العزيز حمودة وفوزى فهمى جاوز الحد عند كاتب آخر عرف فى نفس العقد – السبعينات – هو السيد حافظ..
فلنر حدود هذا التمرد فى اتجاه التجريب عند هذا الكاتب.
إذا كان يوسف إدريس فى الستينات حاول الخروج من إطار المسرح الأوروبى بمحاولته فى (الفرافير)، فإن المخرجين عندنا كانوا أكثر من غيرهم تواصلاً مع حركة التمرد على شكل (البروسنيوم) الأوروبى أكثر من الكتاب فى هذا الوقت، فإذا جاوزنا الستينات إلى السبعينات فسوف نرى فى محاولات السيد حافظ احدى هذه المحاولات التى جاوزت حد التمرد إلى حد الثورة على كل التقنيات المعروفة وغير المعروفة.
وربما تعود جذور التجريب عند السيد حافظ إلى المناخ الذى عاش فيه، والذى يصفه سعد أردش فى مقدمة دراسته التى ضمنها عدة نصوص صدرت للكاتب بعنوان (أميرة السينما) يقول سعد أردش أن هذا الكاتب ينتمى إلى جيل "عاش حياته ويعيش شبابه ملتاعاً يكتوى بسلسلة من الهزائم الوطنية والقومية، وكان من الممكن أن يعيش عصر التحرر، والاشتراكية، والعدالة، والضيق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة، وما حاربت من أجل الخلاص منه أجيال 1919/1946، وما قامت من أجله ثورة يوليو 1651 وما تلاها.
وهذا الجيل لم يعان وحسب فى مجال السياسة، أو فى مجال المجتمع، وإنما أيضاً فى مجال الثقافة، فقد كان محظوراً عليه – كما يقول الكاتب – الاقتراب من هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية.. إلى غير ذلك من المؤسسات الثقافية (السياسة 30/6/1984) كما كان محظوراً عليه أن يتعامل مع مثقفين حكم عليهم إمّا بالصمت أو الرحيل إلى دول (البترودولار)، ومن ثم، فبقدر وطأة المناخ وعسفه، بقدر ما كان التمرد على الشكل الفنى والثورة عليه.
ومن هنا، فبينما اقترب بعض كتاب جيله بحذر شديد من المسرح التجريبى، اقترب هو منه بشكل حاد، محاولاً إعادة تركيب جماليات الشكل المسرحى ليعيد توزيعها تبعاً للمضمون الذى كان يحتوى على قدر عنيف من المرارة والغضب.
وهذه المحاولة التجريبية نجدها عنده بدءاً من العنوانات الغريبة التى اختارها لنصوصه من أمثال (كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى/ الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء/ حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث/ حبيبتى أنا مسافر والقطار وأنت والرحلة والإنسان/ هم كما هم ولكن ليسوا هم الزعاليك/ الحانة الشاحبة العين.. الخ)
ويمتد الجموح من العنوانات إلى الشكل الذى اختاره؛ إذ نلحظ أنه يهجر فترة تقسيم المسرحية إلى ثلاثة فصول أو أربعة فصول فى أغلب الأحيان، فإذا هو يحكم بوضع الموقف والخروج منه بحيلة فنية جديدة، إنه فى نص مثل (6 رجال فى معتقل 500/ب شمال حيفا) يقسم النص إلى جسور (الجسر الأول/ الجسر الثانى)، أما فى (أميرة السينما) يقسم نصه إلى لقطتين (لقطة أولى/ لقطة ثانية)، ثم هو فى نص (الخلاص) يقسم نصه إلى ثلاثة حدود (الحد الأول/ الثانى/ الثالث).. إلى غير ذلك.
كما يبدو هذا الجموح فى تحطيم عناصر الشكل المركب واتساق اللغة الواحدة والقوالب التقليدية والشخصيات والحوار إلى غير ذلك من المفاهيم التقليدية.. إن دلالات نصوصه تتوزع فى اتجاهات عديدة منها الدرامى والملحمى والتجريبى، وتتداخل الحدود حتى يصعب منها تحديد هذا الشكل أو ذاك، إننا فى أحد نصوصه يتوزع النص فى اتجاهات هذا الشكل أو ذاك، وفى أحد نصوصه الأخيرة نجد أنه لا يكاد الممثلون ينتهون من غناء أغنية لها علاقة حميمة بالنص، حتى نرى عمال المسرح يخرجون بعد الانتهاء من الأغنية، والأضواء ساطعة ليخاطبوا الجمهور، صائحين:
إحنا مش ممثلين.. احنا شيلنا الديكور وجيبنا ديكور جديد.. كل واحد فيكم عليه أن يغير الديكور اللى جواه الديكور القديم احنا بنهد وبنبنى لكن فيه ناس بتهد وبس.. بتهد وبس.. واحنا مش ساكتين لها.. واحنا يا إما حانقف لها يا إما تغير طريقها يا إما ندمجها.
وفى الوقت الذى يستطيع فيه عمال الإضاءة تغيير مستلزمات الإضاءة أمام الجمهور، فإن المخرج يخرج ليحادث الجمهور، فيقول:
احنا كلنا معاكم مخرج وكاتب وعمال مسرح وممثلين لأن الحرب فى رأينا ما انتهتش وما بتنتهيش، لأن العدو يرجع ثانى زى ما كان قبل حدود 48 الحرب مستمرة خليكم معانا.. (حكاية الفلاح ص 197).
وحين يخرج المخرج وعمال الإضاءة يعود الممثلون ليكملوا تمثيل الموقف.
وعالم السيد حافظ بعد ذلك هو عالم تجريبى يختلط فيه الحلم بالاسطورة، الواقع بالتاريخ، وتمتد غرابته من العنوانات إلى التشكيل الفنى إلى أقنعته المتباينة ومباشرته وعبثيته التى تترجم حال عدد كبير من الشباب المصرى الذى عرف هزيمة 67 وذاق مرارتها..
غير أن محاولة السيد حافظ التجريبية، الجسورة، تترك أثاراً سلبية لا يستطيع قارئة ( = متفرجة) الخلاص منها، إن الغلو فى التجريب ينال كثيراً من غرابة التجربة، إيجابياتها وبواعثها الحقيقية، كما إن محاولاته للخروج من الإطار الكلاسيكى إلى التعبير التجريبى لا يتردد عن استخدام أية وسيلة وأية حيلة.
وبمعنى آخر، إن تجربته التى جاءت لتشير إلى التمرد على الشكل الأوروبى، وربما العربى(من حيث المؤثرات الأوروبية فيه).. تلك التجربة لم تأت بالبديل الفنى من واقع هذه المحاولات لدية، فلدينا فى التراث العربى العديد من الظواهر التراثية التى نستطيع، لو أردنا، إعادة صياغتها فى المسرح العربى المعاصر، أو نعيد تركيب مفرداتها الفنية، لنخرج بها إلى مشارف المعاصرة بغرض (تأصيل) مسرح عربى خاص بنا..
وليس إلى تخوم مسرح (غائم) لأنه (غاضب) ولا يستطيع استخدام أدوات (التراسل) الفنية بينه وبين جمهوره أهم عنصر فى المعادلة الدرامية..
0 التعليقات:
إرسال تعليق