3
دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 3)
اختراق المسرحية القصيرة
سردية السيد حافظ الروائية
أ.د جميلة مصطفى الزقاي
دراسة من كتاب
إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى
الســيد حــافظ
)نموذجاً(
اختراق المسرحية القصيرة
سردية السيد حافظ الروائية
أ.د جميلة مصطفى الزقاي
أستاذة دكتورة باحثة في النقد المسرحي والسينمائي والترجمة،
رئيس المجلس العلمي بمعهد اللغة والأدب العربي،
المركز الجامعي عبد الله مرسلي –تيبازة -الجزائر.
حملت "المسرحية القصيرة" العديد من الأسماء التي تدلي بقصرها على غرار الفقرة أو المقطع أو المسرحية القصيرة جداً. ويعود أصل هذه التسميات إلى المصدر الاسباني PASO هذا المصطلح الدرامي الذي يشير إلى قطعة درامية يجري حدثها في مدة قصيرة وتعالج موضوعا بسيطا بطابع كوميدي حيث كانت تتوسط فصول أو أجزاء المسرحية. وتعد المسرحية القصيرة التي أطلق عليها لوبي دي رويدا في القرن السادس عشر هذه التسمية بمثابة البداية أو المصدر الأول للفواصل التمثيلية التي كانت تمثل بين فصلي المسرحية في القديم. وهذا ما يشبه الاشهار الذي تستعين به قاعات السينما لحظة الاستراحة. ويتفرح من هذه المسرحية القصيرة في مصدرها الاسباني Follas وهي عبارة عن منوعات وعروض مسرحية مكونة من ثلة من المقاطع الكوميدية المفككة اي أنها غير متصلة ببعضها البعض ممتزجة بفصول موسيقية أخرى.([1])
هذا وقد كانت هناك بعض المحاولات التي قدمت مسرحية قصيرة وإن اختلفت شكلا ومضمونا من مبدع لآخر ومن مؤلف لغيره؛ حيث أن هناك مسرحية كوميدية وصفت على أنها قصيرة كتبت سنة 1963 تحمل عنوان "عشاء لشخص واحد" dinner for one([2])حتى أضحت لدى الألمان بمثابة سنة مؤكدة، إذ تعرض لديهم كل سنة بمناسبة إحياء ذكرى القديس سلفيستر sylvestere وتقدم في قنوات تلفزيونية كثيرة. يدور موضوعها حول امرأة بلغت من العمر عتيا 90 سنة وجرت العادة كل سنة أن تحتفل بعيد ميلادها بالطريقة نفسها؛ حيث تكلف الخادم بتجهيز مائدة العشاء بمعية أربع أصدقاء أموات أحياء بذاكرتها وقلبها، وتلزمه بوضع صحونهم وكؤوسهم وإن كانت كراسيهم فارغة، كما تأمره أن يسكب الخمرة على أنواعها بحسب كل صنف من أصناف الطعام. فيسهر على خدمتها وأصدقائها الخياليين، فيضطر إرضاء لها ونزولا عند رغبتها إلى شرب كل الكؤوس لكنه بآخر العشاء لا يقوى على صلب طوله من فرط الثمالة. مع العلم أن هذا العمل الكوميدي يدور حدثه وفكرته بمكان واحد وزمان وحيد ويشتمل على أغلب العناصر الدرامية الكلاسيكية التي يتطلبها النص الدرامي إلى جانب مرفقات العرض التقليدي من ديكور وإكسسوارات وتمثيل وغيرها. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هل يمكن تسميتها بالمسرحية القصيرة، مثلما سموها بالفرنسية petite pièce de théâtre؟؟
بالعودة لتسمية "المسرحية القصيرة"بمعجم إبراهيم حمادة، نجده قد أدرج "مسرحية من فصل واحد" وترجمها إلى الانجليزية one-actplay ويقول في تعريفها أنها "تمثيلية قصيرة الطول في العادة وتتميز بحبكة فردية، أو حوادث مركزة، وبتفاصيل قليلة، وحوار حي، وشخصيات محدودة العدد، وذروة قريبة من نقطة النهاية."([3]) يستشف أنه وسمها بالتمثيلية ذات الفصل الواحد قصيرة الطول مركزا على الدعائم والمقومات الدرامية من حبكة وحوار وشخصيات وذروة لكنها قريبة من النهاية لكون كل العناصر الدرامية السالفة مختزلة ومقتضبة.
هذا وقد عمل إبراهيم حمادة على توضيح ماهية المسرحية ذات الفصل الواحد باعتبارها نصا إذ متى صعدت على الخشبة، فإنها لا تحتاج إلى استراحة أو تغيير كبير بالديكور، ويرى أن نصها يتميز بوحدة الأثر العام، وهذا ما جعله يشير إلى ما بين المسرحية القصيرة والطويلة منها يماثل ما بين القصة القصيرة والرواية من اختلاف بين.
يشير إبراهيم حمادة ضمن التأريخ لظهور هذا النوع من المسرحية فيرجعه إلى سنة 189.تقريبا وواكب ذلك ظهور حركة المسارح الصغيرة. كما أفصح عن أسماء كبيرة أقبلت على كتابة مثل هذه النصوص على غرار هوفمان واستندبرج وبرناردشو وأونيل وسينج وبرانديللو وتينسي وليامز وتوفيق الحكيم وسعد وهبة وغيرهم...
أنهى إبراهيم حمادة تعريفه بمفارقة قربت المسرحية ذات الفصل الواحد حين تصبح عرضا، فيفتح إمكانية كتابتها لعرض مدته قصيرة فإنها قد تكتب في صيغة طويلة ذات مشاهد لتشغل الحيز الزمني نفسه الذي تستغرقه مسرحية طويلة من ثلاثة فصول واستدل على ذلك بمسرحية " الآنسة جوليا"لأوجست استندبرج (1849/1912).([4]) وبهذا الاستنتاج الذي خلص إليه ابراهيم حمادة فإنه نأى بمفهومها عن المقصود ب"المسرحية القصيرة" لأن الفصل الواحد قد تتعدد مشاهده فتصبح المسرحية بذلك طويلة.
بالعودة لمباحثة مسألة اختراق المسرحية القصيرة لسردية السيد حافظ الروائية؛ فإن ذلك يستلزم الحديث عن دور هذا الاختراق بالبناء السردي لرواية"كل من عليها خان" التي استفزت الكثير من الدراسات قبل نشرها وبعد ذلك نظرا لأهميتها التي تتمثل فيما تطرحه من تساؤلات حمل همها المبدع نفسه ليستلمها الناقد بكثير من الحيطة والحذر؛ ذلك لأنه كلما وضعها في خانة إلا ويجدها تشرئب بخيوطها السردية وبناها اللغوية ونسيجها التاريخي الثر وشكلها الذي لا يشبه غيرها مضامين وبناء.
يضعها الناقد في خانة الرواية الجديدة بما تحمله من بنى الجدة والأصالة والتمرد؛ لكن بإعلانها عن الاختلاف من البداية وانطلاقا من تعدد العنوان الذي ما أنجب في الأخير غير عنوان واحد "كل من عليها خان" يجد النقد نفسه أمام كائن سردي يتنفس الصعداء لانه عاف أسمال الماضي دون أن يتخلى عن أساسياته بصفة نسبيه... فان هذا العمل آني بامتياز حيث أوجد لنفسه قالبا خاصا ينضح بالتجدد والحرص على راحة المتلقي من عنت سردية كلاسيكية مثخنة بسلسلة لا متناهية من الأحداث المتداخلة. فراح يتعين بالوصلات الغنائية لأعمدة الطرب العربي إلى جانب ما يعانق هذا السرد الروائي سردية درامية شديدة التكثيف...
لقد استعان السيد حافظ بلا قصدية منه بالروح الدرامية في الكتابة الروائية لأنك قد تلاحظ أن الفصول السردية نفسها كتبت بطريقة الكتابة السينمائية والمسرحية التي تحرص على الإشارة إلى زمكنية الأحداث بالدرجة الأولى لتنطلق في رصد الأحداث باحترافية الكتابة الروائية العالمية.
قد يعود هذا التلوين المتماوج في الكتابة الروائية عند السيد حافظ إلى ممارسته العتيدة لشتى الكتابات؛ من شعر ومقال ومسرح وسيناريو، لكنه في ثنايا"كل من عليها خان" نجده لأمانته للمسرح وعشقه له لم يستطع تركه بمنتصف الطريق منتقلا للرواية أو قد يبدو ذلك للوهلة الأولى، لكن مع استحضار سيرة المبدع والانصات لخلجاته الإبداعية ندرك تمام الإدراك أنه تبنى خطة بنائية واستراتيجية روائية يريدها حافظية بامتياز !!!!
استنادا إلى ما سبق نلفيه يصرح بلحظة الاستراحة والتريض التي يهديها للقارئ أنه سيقدم له وجبة درامية خفيفة سماها" المسرحية القصيرة جدا" ليجد القارئ نفسه أمام نكوص يعود به إلى الكاتب الألماني فريدريش هيبل Friedrich-Hebbel (1813-1863) في مسرحيته "دراما أصيلة" التي لم تتعد سطرين وتخلو من الشخصيات، وبالمثل لدى الكاتب الروسي أنطون تشخيوف Anton-Tchkeoff (1886-19.4) في مسرحيته "لا" التي لا يتجاوز حوارها خمسة أسطر.
فإذا تعلق الأمر بالمسرحية القصيرة باعتبارها جنسا إبداعيا فهي ضاربة بجذورها في مسيرة تاريخ المسرح العالمي، لكن إذا تعلق الأمر بإدراجها بالفن الروائي؛ هذا الفن العابر للأجناس فإن السيد حافظ برهن على أمانته في التأليف لمختلف الأجناس بإدراجه لها ضمن السردية الروائية وحرصا على استراتيجيته السردية التي تبناها بزمن الاختلاف الإبداعي الصارخ فيما بين الروائيين على اختلاف انتماءاتهم الجغرافية. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هو ما نوعية المسرحيات القصيرة التي وظفها الروائي بعمله هذا؟؟ ثم ما علاقتها بالبنية السردية التي تسبقها أو تليها؟؟ وماهي الخصائص الدرامية التي تتميز بها هذه المسرحيات التي على قصرها إلا أنها قد تشعر بالتيه وهي بين أحضان رواية جريئة شكلا ومضمونا؟؟؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد من تفكيك التمركز البنائي السردي الذي قدمها بها المبدع؛ ثم العمل على تقويض بنائها الدرامي إلى أدق بناه الصغرى. بدءا بأول مسرحية قصيرة جداً([5])– كما سماها الكاتب- حيث استهلها بوصفه للمسرح وما يؤثثه من إضاءة يصفها بالتدريجية ثم المنتشرة وسرعان ما يشير إلى الشخصية التي تحمل موضوع المسرحية وهو رجل يبدو بلا هوية لكن من ردة فعل الشخصيات الخيالية المختبئة وراء الصور يصير رجلا بهيبة ووقار لأنه جدير بالخدمة أو أنهم مجبرون على تلبية طلباته... رجل يقدر الوقت بدا في بداية الأمر صباغا أو رساما للجداريات نظرا لحمله جندل االألوان والفرشاة الكبيرة، لكنهيصبح شخصية أخرىحين يقبل الرجالمن خلف الصورالأربعة يشترون رضاهبتقديمهم له الهداياوالملابس والطعام وكأنهاحملة انتخابات ترافقبشراء الرقاب والذممعهدة بعد عهدة. وما لم يناوئواالنصرة المنشودة يقابلرضاهم بالهبات، ومتىعارضوا بضراوة وأدارواظهورهم لنصرة الكباركان مآلهم الموتوالنهاية الحتمية، وهذاهو المصير الذيلقيه رجل المسرحيةالقصيرة الذي قديمثل أيضا المثقفالذي يرضى بالعيشالبسيط في سبيلتبليغ أفكاره ومبادئهالتي تلقى الإعراضفيدفع ثمن ذلكحرمانا وتهميشا وتقصيرامن قبل السلطة.
إذن فالمسرحية القصيرة كلها رمز وسريالية وعلى قصرها وكثافة أحداثها إلا أنها تطول فكرا وإيديولوجية من شأنها أن توضع بفضاء التكفير؛ أي تكفير المبدع. ولعل هذه الأفكار القابلة للتأويل مواتية للسيرورة السردية التي سبقتها أو على أقل تقدير السياق السردي الذي وضعت فيه حتى وإن اعتبرت استراحة فهي الاستراحة الملغمة البعيدة عن كل إدراج بريء...
وبالمسرحية القصيرة الثانية([6]) نجد الكاتب قد عزم على تعيين وحدتي المكان والزمان ليجعل نواة المسرحية او محورها رجل هو في ما تنطق به الحروف نادل بمقهى؛ يبدو وكأنه دائري الشكل لفسح المجال لدلالات الحيرة والقلق والتشتت الذي يحس به الرجل وهو يحاول إرضاء أهل الحل والرد وهو كالمعلق من عرقوبه لصبري موسى وهو مشدود بحبال هؤلاء الذين يقوم بخدمتهم، لا حول ولا قوة له غير الانصياع لرغبة المحيط الجائر الذي همه الأوحد قضاء حاجاته ورغباته ومآربه ولو على حساب راحة الآخر. وحين يضيق درعا بأنانية هؤلاء يقرر إيقاف المهزلة التي يعايشها رغما عنه، يفك الحبال وسرعان ما يستعيدون الطوق برقبته بعدما هجموا عليه وضربوه، فينصرفون ليسقط الرجل على المسرح فيغشاه سجن وقد كتب عليه "وطن".
هي مسرحية متكاملة وإن كانت كل عناصرها مكثفة ومختزلة بذكاء للتعبير عما تعانيه الشعوب بقبضة أصحاب السلطة الغاشمة التي تنعم برغد ما توفرها لها الرعية وتسافر متى لم تتمكن من كبح جماح غضبها وإخماد ثورتها. وقد يكون التأويل على الأجدى حالة المثقف الذي يعاني من الضغط والرقابة ومتى كتب ما يناوئ مصالحهم تعرض للسجن وهو أهون، لكنهم ينزلون عليه بلائمة تضييق الخناق إلى أن يصبح الوطن سجنا مقيتا على الرغم مما وهبه من دمه وروحه ونومه ووقته وراحته.
كتابة تشي بالرؤية الإخراجية، إذ تجعلك من حروفها وكلماتها وبناها التركيبية تشاهد عرضا على قصره يحمل الأيقونات المشهدية المركبة والأحداث المكثفة التي يبقى أفق انتظارها متقدا ومفتوحا على التأويل المتباين.
وبالمسرحية القصيرة جداً الثالثة([7]) التي ارتكزت على الإرشادات الإخراجية، وعملت على ترميز موضوع يمس المثقف سياسيا، واحتفت بفكرة المسرحية وموضوعها وزمانها الذي يبدو ليلا بهيما لا بياض فيه غير ما يدعي ذلك لتضليل عقيدة المثقف. أما مكانها فخشبة المسرح وهي الحياة بما تشتمل عليه من غرائب ووقائع تحفل بها عادة لكن من فرط فظاعتها تبدو أسطورة من الأساطير الخرافية الغرائبية.
لئن انتقى الكاتب الخشبة فضاء لأحداث مسرحيته القصيرة فإنه يرفقها بحركية الإضاءة فيصبح النص الدرامي مرآة عاكسة للخشبة وفق إرشادات إخراجية طلبا للاختصار؛ فتسير الإضاءة بسلطتها في الإيضاح والبيان شخوص العمل وهم هذه المرة ست نساء بلباس أبيض، يقفن بيمين الخشبة ويسارها فيتوسطهن رجل بلباس أحمر فيمسكن بيديه من الجهتين ويسحبنه بكل ما أوتين من قوة في الاتجاهين المعاكسين، فيصرخ ألما، وإذا بشبكة تسقط عليه من أعلى الخشبة، فتبتعد النسوة خوفا وهلعا ويسعين لتخليصه من شراكها فيفلحن ويفرح الرجل الذي يعبر عن سعادته بالتنقل من يد إلى أخرى حتى توافيه المنية وتحمله النساء خارج الخشبة.
ترمز النساء إلى الاتجاهات السياسية من يمين ويسار تتجاذبن الرجل المثقف الذي يجد نفسه بينهما في مد وجزر، وما اللون الأحمر إلا دلالة على المذهب الشيوعي فينتهي به الأمر متهما من الاتجاهين إلى أن يلقى حتفه، فتشيعه وتحضر جنازته بعدما أسهمت في نهايته وينطبق عليهم المثل القائل"يقتلون الميت ويسيرون في جنازته". وتبقى التيارات المتجاذبة لتفعل الأمر نفسه مع الرجل بلباس أصفر، وهذا مذهب سياسي آخر لا يسلم من قبضتها، وحتى المثقف المسالم المتفائل على الرغم من ترفّعه عن الانتماء لأي مذهب سياسي يلقى حتفه لا لشيء إلا لزاده الثقافي. هو السيف الذي يشهر في وجه الثقافة والمثقفين.
إذا كانت المسرحيات السابقة غارقة في الرمزية والسريالية فإن هذه المسرحية الرابعة([8])عافت طلسميتها وأبت إلا أن تصرح بانتمائها لسردية "كل من عليها خان" وتأريخيتها الجريئة في تسمية الأشياء بأسمائها حبا ورهبة واحتواء للوطن بكل حيثياته الواقعية والتاريخية التي عصفت بالأخضر واليابس زمن المستنصر بالله مخلفة آثارها التي وإن نالت من بعض القيم فإنها رسخت على النقيض قيما عرفت بها مصر بلد الحضارات ولا تزال التحاما عند المحن والإحن وتصديا للويلات متى وجدت الفرصة سانحة لقلب موازين قوى الطغيان والخطيئة السياسية التي تنال من حق الشعب المصري في العيش الكريم الذي ينتزعه بشراسة. "صوت نسـائي:أرجوك لا تلمس يدي ويدك ملوثة بالرشوة وغسيل الأموال والخيانة" هذا صوت مصر المتأففة من أيادي الإجرام الاقتصادي والسياسي بشتى أشكاله وأطيافه؛ وهي تتقزز من تلويثها بالرشوة وغسيل الأموال التي أنهكت كاهل الاقتصاد المصري وخيانة بعض إطاراتها وحكامها للأمانة التي أوكلت لهم...أمام هذه الخيانة العظمى تتحرك الآلاف من الشفاه العاشقة للحب والمؤمنة به؛ شفاه الكتاب والصحفيين والمبدعين بصفة عامة لتندد بتلك الأعمال المشينة ولذلك تسلط عليها الأضواء وسطوة السياط التي تنال من أجسادهم بالسجون والمعتقلات، بينما صوت المواطنين مغيب في خبر كان، مع أنه هو من منح السلطة والسيادة لهذا والشهرة والجاه لذاك" صوت من الشفايف: الوطن غائب والمواطن فعل ماض معتل" وعلى إثر تغييب المواطن بالضرورة يغيب الوطن أيضا. وبمرارة عبثية يماط الغطاء عن تاريخ مصر بالاشارة الى الأنبياء الذين تعاقبوا عليها ولم يجدوا الحظوة لدى أهلها وفي ذلك يقول الكاتب"ضوء على الأتوجرافات: سجل أن الله أرسل لمصر ثلاثة أنبياء.. يوسف وموسى وعيسى.. ولكن المصريين لم يستجيبوا لهم" وهو إقرار بالخبر ورغبة دفينة لدى الكاتب لاستنكاره ذلك لانه جزء لا يتجزأ من هذا الوطن الذي يستفزه طالبا صلاحه.
المسرحية ضرب من الرمز والعبث لانهما يوائمان طريقة عرض هذه هذه الحقيقة التاريخية الموجعة. ولا أرى الكاتب بريئا من رغبته في التأكيد على الحقائق التاريخية المؤلمة التي أراد لها البعض أن تتدثر تحت تراب المخادنة التاريخية المؤقتة والموقوتة بالانفجار اليوم أو غدا. شخصيات المسرحية بلا أسماء تذكر دائما وهمية لكنها تحمل الحقيقة اليقينية "شفاه" وقفازات حريمي" وهي بكل تأكيد مضللة لانها تحوي أياد قد تكون بشعة بفعل التعب أو بفعل أثر السنين أو بفعل الجريمة...فيختفي هؤلاء المضللون تحت قفازات أو أقنعة مستعارة...إذن المسرحية من ضرب العبث واللامعقول الذي يخاطب العقل والمنطق ويقرص الآذان الموهومة بالموسيقى العالمية الشادية بأصواتها الغريبة !!!!
احتفت المسرحية القصيرة جدا الخامسة([9]) بعنصر درامي يعد البنزين المحرك للنص الدرامي ألا وهو الصراع؛ غير أنه صراع بين الألوان التي لها دلالاتها بحسب ما عايشته الشعوب من ثورات تفاعل معها النص الدرامي ومنه النص السردي الروائي ومصر من بين تلك الدول لا حظ للسلم والسلام بها، وما كان من مصير اللونين الأخضر بدلالات الخصب والنماء والعطاء والتفاؤل إلا أن أفل نجمه واندثر تحت باقي الألوان وهي نظرة الكاتب الخبير بتركيبة المجتمع السياسية ومن خوفه وقلقه على موطنه يرى الأسود في البياض لذلك يختفي الضوء الأبيض ويتلاشى مع طلقات الرصاص التي لم تكن بحسبان من أشعلوا الثورة وتمنوها سلمية مسالمة تحمل رياح التغيير وعلى الرغم مما شهدته الساحات ما كان من مصير تلك البلدان إلا أن خضعت للأقوى تحت سلطة الرشاش والقنابل المسيلة للدموع والدبابات التي استقلت بالشوارع... لعل هذه المسرحية تعكس ثورة النساء بكل من عليها خان لكن نهايتها مخالفة لما عرفته الثورات وسميت بالربيع العربي وهو خريف حالك عصف بخيرات كل الفصول. فاندثرت معه كل معاني النماء والتطور والتفاؤل بغد مشرق...
المسرحية القصيرة جدا وهي السادسة([10]) في السيرورة السردية لرواية"كل من عليها خان" سادها التكرار على مستوى اللفظ والرقم والجنس واللون بل حتى الفعل وهو تكرار ليس لتأكيد المعنى وإنما للفت انتباه القارئ إلى حيثيات يود الكاتب الإشارة إليها بطريقة عبثية ساخرة ومعتدة بمجهودات المرأة ودورها الناجع الذي أدته بالثورات العربية بكل بسالة وجرأة ولذلك ألبسها الكاتب اللون الأحمر خلافا للرجال الذين ارتدوا لباسا أبيض قد يكون لباس الظلاميين الذين يناقض لون زيهم جرائمهم الشنعاء باسم الدين... صور الكاتب المرأة بفحولة الرجال ايمانا منه بالدور الخلاق الذي تؤديه في الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها مستعملة كل الأساليب المنوطة بتحقيق كرامتها والحفاظ على كينونتها وبتكرار الرقص الهادف ينلن ممن يبغي عليهن فيتوجن ثورتهم بالزغاريد والصراخ. هن نساء أسطوريات لسن من هؤلاء اللواتي يشقن الجيب ويلطمن الخدود ويلزمن السواد حزنا وكمدا، نساء هذه المسرحية يخلعن السواد ويعدن لحياتهن الطبيعية ولمهامهن بوعي، هن نساء كل من عليها خان في مسايرتهن للرجال بكل ما يملكن من أسلحة إلا أنهم ينتصرن عليهم في الأخير.
استنادا إلى ما سبق ذكره أن السيد حافظ لم يدرج المسرحيات القصيرة جدا ببراءة وإنما فعل ليواصل في عملية التشظي والتفكيك السردي التي خاضها منذ بداية سلسلته الروائية الملحمية مستعينا بثلة من الأجناس التي تفاعلت وتعايشت مع السرد الروائي في حميمية ومخادنة أضفت جمالية وتعبيرية هتكت حجاب تلك النظرة الكلاسيكية التي تومن بفردانية الجنس الأدبي، لذلك نلفي عند السيد حافظ ذاك التشظي الجميل المستعين والمحتفي بالشعر والأغنية والمسرحية والقصة القصيرة جدا والسيرة والسيناريو وغيرها وهو تلاحم توليفي أدخل السرد الحافظي في خانة الرواية الجديدة والآنية؛ إذ تلهج بالفكر والايديولوجيا المتفحصة للتاريخ والسرد بعين الكاتب التي لا يغيب عنها أدق تفاصيل هذه الذاكرة التاريخية التي ابتذلها البعض لسبب أو آخر فكان ذلك معينا خصبا لتلوين التركيبة السردية الروائية لدى السيد حافظ.
([5]) مسرحية قصيرة جدا..... المسرح مظلم.. اضاة ضعيفة تدريجية.. يظهر مكتب على قلب منتصف المسرح.. وفى اليمين رجل ينام على سرير متواضع.. يقوم الرجل ويتحرك عند دقة الساعة.. يقوم ويتحرك تبدأ الإضاءة فى ازدياد فى أرجاء المسرح يحمل الرجل جردلا به الوان.. وفرشاة كبيرة وحول المسرح فى كل الأرجاء أربع صور لرجال كبار السن وبجانبهم أعالم بيض غريب ضخم حول كل صورة يذهب ويكتب تحت كل صورة نعم نعم نعم نعم..يدخل رجال من خلف كل صورة يحملون له الطعام والهدايا والملابس.. يجلس الرجل فرحا يأكل ويغير ملابسه.. أظلام..ثم يعود الضوء.. تتغير الصور الأربعة لرجال آخرين.. ويفعل الرجل نفس الشيء.. ويكتب نعم نعم نعم.. يخرج من خلف كل صورة امرأة تقدم للرجل الطعام والشراب.. اظلام على المسرح ثم يعود الضوء... تظهر صور أربعة رجال آخرين.. يقوم الرجل ويكتب تحت كل صورة لا.. لا.. لا..لا... يخرج من خلف كل صورة رجل يحمل بندقية ويطلقون الرصاص عللى الرجل فيموت فى الحال.. ستار
([6]) السيد حافظ، كل من عليها خان، ص58 مسرحيةقصيرةجداجدا
المكان : مقهى الزمان : نهار
يجلس مجموعة من الرجال فى المقهى يشربون القهوة والشاى والشيشة..
يدخل الجرسون وينحني أمام كل مائدة.. نلاحظ أن الجرسون مربوط من عنقه كالكلب.. وبها حبال تشده كل مائدة تجاهها بالتناوب يحمل لهذه ماء ولأخرى شاي ولأخرى شيشة وأخرى مثلجات.. تزداد سرعة الطلبات وكل طرف يشده حتى يسقط على الأرض من الإعياء.. يخلع الطوق من عنقه ويلقي الحبال التى تشده.. يهجم عليه الجميع ويلقونه ضربا.. يضعون الطوق فى عنقه مرة اخرى.. وينصرفون.. يسقط على المسرح سجن خشبى يسجن الرجل.. كتب على القفص الوطن.... ستار
([7]) ص 103 مسرحية قصيرة جداً...
المسرح مظلم يتسع الضوء قليلا قليلا.. يُضاء المسرح بأكمله.. يظهر ثلاث نساء يرتدين ملابس بيضاء.. من اليمين.. يظهر ثلاث نساء يرتدين ملابس بيضاء من اليسار.. يظهر رجل من قلب منتصف المسرح يرتدي اللون الأحمر.. تشده النساء اللائي فى اليمين.. وتشد يده الأخرى النساء فى الشمال.. الرجل يصرخ لا.. يسقط من سقف المسرح شبكة على الرجل.. تبعد النساء.. بهلع.. ثم تهجم المجموعتان على الشبكة لتحرير الرجل.. عندما يتحرر يفرح يتنقل بين يد واحدة واحدة.. حتى ينهار فيموت.. تحمله النساء فوق الأكتاف ويخرجن به.. خارج المسرح.. يظهر رجل آخر يرتدى الزى الأصفر يرحبون به.. فيتم مع الرجل الثانى نفس الشئ.. يظهر رجل ثالث باللون الأخضر لا يقترب من النساء فتبكى النساء.. ويخرج من المسرح وقبل الخروج تهجم النساء عليه وتقتله.. ستار
([8]) السيد حافظ، كل من عليها خان، ص215 مسرحيةقصيرةجدا
يفتح الستار في اليمين صور لشفا.. حوالي مائة شفاه.. في اليسار أوتوجرافات على كل الجدران في الخلفية قفازات حريمي (صوت مجموعة نساء ورجال ): الحب.. الحب (ضوء على صور الأوتوجرافات).. أصوات: وقع لي للذكرى.. ذكرى.. ذكرى (ضوء على القفازات الحريمي) صوت نسـائي: أرجوك لا تلمس يدي ويدك ملوثة بالرشوة وغسيل الأموال والخيانة (ضوء على الشفايف) صوت من الشفايف: الوطن غائب والمواطن فعل ماض معتل.. ضوء على الأتوجرافات: سجل أن الله أرسل لمصر ثلاثة أنبياء.. يوسف وموسى وعيسى.. ولكن المصريين لم يستجيبوا لهم.. ضوء على القفازات... صوت من القفازات: لا تضع يدك في يد من خانك مرة أو باع لك الوهم.. أم من جلدك.. أو من.. ومضى.. ومضى.. ومضى
([9]) السيد حافظ، كل من عليها خان، ص 255 مسرحيةقصيرةجدا
يظهر على المسرح ثلاث بقع حمراء.. تقترب بقعة الضوء الخضراء بجوارهما.. يحدث ارتجاف وصراع بين الألوان ينخفض الضوء الأخضر حتى يختفي مع أصوات طلقات الرصاص..يظهر الضوء الأبيض.. يقوم الضوء الأحمر الثلاثي بنفس الصراع.. حتى يختفي الضوء الأبيض وينقرض.. ويختفي.. مع صوت إطلاق الرصاص.. تسقط لافتة من أعلى المسرح كتب عليها البقاء للأقوى.. ستار
([10]) السيد حافظ، كل من عليها خان، ص306مسرحيةقصيرةجدا
يفتحالستار
على المسرح فى اليمين مجموعة نساء تتكون من 10 نساء تجلس ترتدى ملابس حمراء..
على المسرح فى اليسار يجلس مجموعة من الرجال تتكون من 10 رجال بملابس بيضاء..
يسقط رجل منهم وهو يسكر يحمله الرجال تصرخ النساء وتبكى وتولول عليه. وترتدى ملابس سوداء ثم تخلعها حين تعود.. يسقط رجل آخر وهو يلعب الطاولة يحملونه خارج المسرح وتبكى النساء وتولول علية وترتدى ملابس سوداء ثم تخلعها حين تعود..
يتكرر المشهد وسقوط الرجال حتى يختفى 9 رجال ويبقى رجل واحد.. تبدأ موسيقى راقصة تقوم واحدة بالرقص معه.. تقوم الأخرى فالأخرى حتى يسقط الرجل من الإعياء يحملونه للخارج وهن يولولن ويصرخن عليه.. ستار
0 التعليقات:
إرسال تعليق