Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الأحد، 12 سبتمبر 2021

4 إشكالية التجريب في مسرح السيد حافظ بقلم بنيونس الهواري

 

4

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

( 4)

 

إشكالية التجريب
في مسرح السيد حافظ
بقلم بنيونس الهواري

دراسة من كتاب

إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى

الســيد حــافظ

)نموذجاً(

 

 





إشكالية التجريب
في
مسرح السيد حافظ
بقلم
بنيونس الهواري

 

المقدمـة والمدخـل

* صعوبات البحث وأسباب إختيار الموضوع:

مما لا شك فيه أن أى بحث كيفما كانت طبيعته يطرح مجموعة من الصعوبات. وتتعقد هذه الأمور أكثر حينما نلج فضاء المسرح العربي، لاسيما وأن هذا المسرح لازال يطرح مجموعة من الملابسات يصعب تعيين مظاهرها. فهو يطرح أسئلة عدة تتناسل داخل رحم اإبداع العربي برمته. وإذا تجاوزنا مسألة البحث في جذور الظاهرة المسرحية وعلاقتها بميلاد المسرح العربي، فإن جل الأسئلة تعد مشروعة في سياق البحث عن الحركة المسرحية البديلة عبر مسالك التجريب.

فمع بداية السبعينات، إزدادت رغبة المسرحيين العرب في إيجاد صيغة مغايرة، تتوخي البحث عن أشكال ومقترحات جديدة. وتكشف بعمق عن الهاجس الذى أضحي يؤرقهم. وهكذا تعالت نداءات متعددة، وأنجزت أوراق تنظيرية كثيرة. وقد سعت إلي رفع التحدى بهدف تجديد سبل الابداع، وإثبات الهوية العربية التي كادت أن تعصف بها الظروف الإستعمارية، وعوامل الجذب الذى مارسته فترة المثاقفة. فكان من الطبيعي أن يصدر رد فعل من المثقفين العرب. حينما إزداد شعورهم بالعمل علي تجديد الأساليب المعرفية، وتطوير الأشكال الفنية قصد إمتلاك وعي فني لكافة مكونات الخطاب المسرحي العربي.

من هذا المنطلق، جاء التجريب المسرحي الذي بواسطته تتحدد هذه المهمة. مهمة البحث وإثبات الذات. ويمكن إعتباره ضرورة فكرية وجمالية قبل أن يكون حالة عرضية. وعليه، فإن التجريب جاء ترسيخاً لمبدأ التأسيس المسرحي العربرى إنطلاقاً من إعادة النظر في علاقته بالثقافة الغربية قصد تجاوز إنتاجها.

ولم يكن السيد حافظ بمعزل عن هذه الموجة الجديدة في محاولة تأسيس تجربة خاصة تعكس مواقفه وتصوراته. فالصورة الجديدة التي عرفها الإبداع المسرحي العربي ما هي إلا تمرد علي الواقع العربي أولاً، وعلي الفن الدرامي ثانياً. لذلك فقد ترسخت لديه فكرة التأسيس التي أعقبتها فكرة تأصيل المسرح العربي إستجابة لمتطلبات الفن، وظروف الحياة الإقصادية والإجتماعية والسياسية في العالم العربي. فقد إنطلق السيد حافظ يبحث عن مغامرة جديدة في مجال المسرح سعياً منه إلي التحرر من القوالب التقليدية والجاهزة، فكان التجريب قناة فعالة عبرها لتفجير المسكوت عنه في ثقافتنا العربية والإسلامية وإستنطاقه من جديد.

غير أن ظاهرة التجريب في الخطاب المسرحي العربي عموماً، والتجريب في مسرح السيد حافظ بخاصة، لا تمر دون أن تقض مضجع الباحث، ولا تعفيه من تجديد أسئلته، وتفكيك مرجعيات الكتابة وخلفيات الخطاب ومظاهره، وتمحيص دلالاته وأبعاده وضبط علاقة الإبداع المسرحي العربي بالإتجاهات أو المدارس العالمية. كل ذلك من أجل إبراز سمات التحول فيه، ومعاينة خصوصيات الخطاب ومميزاته.

لهذا كله، وجدت نفسي مدفوعاً إلي معالجة هذه القضايا إنطلاقاً من تجربة هذا المبدع المسرحي المتميز. وقد رأيت أن أحصر موضوع بحثي في جانب التجريب عنده. لذلك جاء العنوان كما يلي: لإشكالية التجريب في مسرح السيد حافظ.

أما دواعي إختيار هذا الموضوع المباشرة، فقد تحكمت فيها حوافز ذاتية وأخرى موضوعية، يستحيل الفصل بينهما. تتمثل الذاتية في تلك التجربة المتواضعة التي قمت بها في بحث الإجازة عن مسرح السيد حافظ. وهي عبارة عن دراسة سطحية، مضت وتركت في نفسي ألماً كثيراً، جعاني أعاود مراجعة أوراقي من جديد قصد تدارك ما فاتني سابقاً.

أما الموضوعية فتتعلق بالإغراءات التي تمارسها أعمال السيد حافظ علي المتلقي عموماً والباحث علي وجه الخصوص لتمحيص أعماله ومقاربة مكوناتها، والحفر في الإشكاليات المتمخضة عن الخطاب التجريبي في مسرحه.

أما إختيار الدكتور مصطفي رمضاني مشرفاً لي علي هذا البحث فله ما يبرره، لأنه كلما ذكر موضوع المسرح، إلا وحضر إسمه بصفته ممارساً وناقداً ومؤطراً كفؤا.

و بفضل دعمه المادى والمعنوى إستطعت أن أتجاوز مجموعة من الصعوبات : أهمها قلة المراجع المنجزة، وصعوبة الحصول عليها. لكن بعون الله، وبفضل تشجيعات أستاذى المشرف عزمت المضى في هذا الموضوع الذى أعتبره بكرا لحد الآن.

و قد قسمت هذا العمل إلي مدخل وبابين، كل باب يتضمن ثلاثة فصول فخاتمة. أما المدخل فهو بمثابة تقديم عام ومركز أشرت فيه إلي موقع السيد حافظ في خريطة التجريب المسرحي العربي.

وخصصت الباب الأول بمقاربة أهم القضايا والإشكاليات المتعلقة بالمسرح العربي عموماً. لذلك جاء عنوانه كما يلي: المسرح العربي وعلاقته بالتجريب المسرحي الغربي، وإشكالية الخصوصية.

وعنونت الفصل الأول من هذا المبحث ـ وهو عبارة عن فصل تمهيدى ـ ب : المسرح العربي بين وهم المكزية الغربية، وصدى الإتجاهات العالمية، وهواجس البحث عن الذات. ذلك بان مسألة التأسيس أو التأصيل في المسرح العربي لازالت تتأطر ضمن ثنائية الإنفصال عن الغرب أو الإتصال به. ويبدو لنا أن نفي مركزية الثقافة الغربية، وإخضاع حصيلة المعرفة الإنسانية لإرث مشترك تتعايش بمقتضاه هذه الثقافات يساهم في تثبيت مبادرات التجريب في المسرح العربي.

أما الفصل الثاني فتناولت فيه : أثر التجريب المسرحي الغربي وعلاقته بالتنظير للمسرح العربي. إذ إن التنظيرات المسرحية تعد ضرورية، كما عكست مجموعة من التطلعات الساعية إلي الإنفلات من حصانة النموذج الغربي قصد الإنطلاق بالمسرح العربي نحو آفاق معرفية وجمالية جديدة. وبالرغم من أن هذه التنظيرات مازال التنافر فيها سائداً بين ما تقدمه من مقترحات، وبين ما تقدمه علي المستوى التطبيقي، فإنها مع ذلك إستطاعت ترشيد مجالات الإبداع المسرحي العربي علي مستوى النص والإخراج معاً.

أما الفصل الثالث، فتصديت فيه لعلاقة التجريب بالتراث في المسرح العربي. فمن المعلوم أن التراث أصبح الرافد الأساسي الموصل إلي الخصوصية، بيد أن ألإشتغال بالتراث يقتضي وعيا نقديا تاريخياً، يحور مواده، ويستثمر طاقاتة قصد المساهمة في بلورة الصراع ضد الواقع من جهة، وقصد إمتلاك وعي فني وجمالي مستمد من أشكاله وتقنياتة من جهة ثانية. لذلك سعيت إلي الكشف عن هذه الإشكالية من خلال بعض النماذج المسرحية العربية.  

أما الباب الثاني فبعنوان : خصوصيات التجريب ومظاهره في مسرح السيد حافظ.

ويعد إستمرارا للباب الأول، بل إنه من الناحية النظرية والتطبيقية لا يمكن أن نتحدث عن تجربة السيد حافظ المسرحية دون أن نواكب الحركة التجريبية في المسرح العربي. فهي سند فكرى وفني، ومرجع يسلط الكثير من الأضواء علي هذه التجربة التي تحاول أن تطور ما إنتهي إليه خطاب التجريب في المسرح العربي عبر نماذجه المتميزة والرائدة.

و قد جاء الفصل الأول منه تحت عنوان : التيمات الأساسية في مسرح السيد حافظ وعلاقتها بالتجريب. وقد إفتتحته بمقاربة مفهوم التجريب، وإبراز عناصر الإئتلاف والإختلاف بين التجريب في المسرح الغربي وبين المسرح العربي. وإنتقلت بعد ذلك إلي تناول أهم القضايا المتصلة بإنشغالات المؤلف، نحو قضايا الإنسان وتحديات العصر من خلال إنعكاسات النكسة، ومسائل الوحدة الوطنية والعربية. وقضايا الحرية والعدالة الإجتماعية، وما إلي ذلك مما يتصل بأزمات الإنسان المعاصر. ثم تناولت بعد ذلك الجوانب السياسية في مسرح السيد حافظ. وعلاقة كل ذلك بقضية إستلهام التراث في مسرحه. وختمت هذا الفصل بالتعرف إلي مظاهر العبث وملامح التجريب عند الكاتب، وتحدثت عن علاقتة الكوميك بأهم التيمات التي عالجها هذا الكاتب في جل مسرحياتة.

أما الفصل الثاني، فعالجت فيه قضية التجريب في الجانب الفني في مسرح السيد حافظ، وحاولت أن أتناول أهم العناصر المكونة لهذا الجانب، ومنها: الحدث، الزمن، المكان، الحوار، الصراع، الدرامي ؛ الشخصيات، اللغة.

في حين ركزت الحديث عن ملامح الإخراج في مسرح السيد حافظ في الفصل الثالث. فالإخرج يعد لغة تتحقق عبر قنوات أخرى نحو الديكور والإكسسوارات، والإنارة المسرحية، كما تتحقق من خلال فاعلية الجسد وتأثيره علي باقي العناصر فوق الركح إلخ. فهذه الأدوات التعبيرية، أو المكونات السينوغرافية تساهم كلها في تشكيل قنوات لغوية وتعبيرية تحقق وظيفتها ضمن نسيج الخطاب المسرحي. 

أما الـخاتمة؛ فستكون عبارة عن تركيب عام لما جاء في البحث في عمومه. 


الــمــنــهــج:

بحكم أن عملي ينكب علي دراسة النصوص وتفكيك بنياتها، فإن المنهج التحليلى في نظرى هو الأكثر قابلية للتعامل مع هذه المسرحيات، لكن ذلك لا يعني إلغائي للمناهج الأخرى، كالمنهج النفسي والإجتماعي ؛ فلأول يقوم بإستغوار خلجات النفس البشرية والظروف المحيطة بها، أما الثاني فيقترب من العلاقات السوسيولوجية وعلاقتها بالمحيط الثقافي والتاريخي. بالإضافة إلي إعتمادى علي المنهج المقارن ولاسيما في المبحث الذى قمت فيه بمقارنة التجريب في المسرح العربي وعناصر الإئتلاف والإختلاف في تجارب رجال المسرح العربي من جهة، وبين التجريب في مسرح السيد حافظ، بالإضافة إلي إستفادتي مما تحقق في مجال السيميولوجيا علي وجه الخصوص عند مقاربتي للعرض المسرحي ومكوناته.

الــمــدخــل:

يشكل المسرح العربي واجهة أمامية في سلم الأجناس التعبيرية التي تعرف إهتماماً متزايداً. وتعود هذه الأهمية لإعتبارات متعددة، في مقدمتها النشأة المتأخرة لهذا الفن. وهي نشأة لا تزيد عن قرن ونيف، إذ يمكن أن نعتبر محاولة مارون النقاش في مسرحية البخيل  خطوة أسست البذرة الأولي للممارسة الدرامية الحقيقية، بصرف النظر عن الزوابع المضادة التي أثيرت حول تجربة موليير العرب

وقد تابع الرواد ـ إلي جانب النقاش التأليف عبر الإنفتاح علي قنوات الترجمة والإقتباس من الأثار الغربية. ومن المؤكد بعد هذه المرحلة أن خلفيات الصراع مع الأستعمار جسدت حضورها في كتابات الدراميين العرب، فتوجه أغلبهم إلي التراث ليتلقفوا مصادره ويحولوها إلي أعما لدرامية، كما إنتقوا شخصياته التاريخية ليستمدوا منها المواقف البطولية ؛

كل ذلك من أجل مقاومة المد الإستعمارى. وبذلك أصبح المسرح منبرا سياسيا تلقي منه الدروس الوطنية والقومية.

ومن الواضح أن التجارب المسرحية العربية حتي نهاية النصف الأول من القرن الحالي، ظلت متشبثة بالمواضيع السياسية أولاً، وبالقضايا افجتماعية ثانياً. وتبعاً لذلك فإن توظيف التراث في المسرح العربي لم يتجاوز حدود المضامين، كما أن جل الأعمال لم تستطع تحويل مواد التراث وتثويرها.

ومع إطلالة الستينات، حصلت جل البلدان العربية إستقلالها، فسعت الإبداعات المسرحية العربية ومعها الإرهاصات الأولي للتنظير لإلي البث عن أشكال فرجوية أصيلة تكون قادرة

علي إحتضان الدراما العربية من أجل تقريبها إلي الجمهور العربي العريض. غير أن هذه الرغبة في الإنسلاخ الجزئي عن المسرح الأوروبي لم تتحقق بعد، إذ ظلت هذه المحاولات أسيرة الخطاب المسرحي المستورد، كما هو الشأن عند يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وعلي الراعي، ذلك بأن البحث عن صيغة درامية عربية لم يتجاوز إعادة بعث قالب فني فحسب.

من هنا يمكن القول إن مفارقات الخطاب المسرحي العربي ظلت قائمة عبر عدة مستويات : بين عجزه عن خلق إنسجام بين المضمون والشكل من جهة، وبين رغبتة في تحقيق الخصوصية، وبين حتمية الإتصال بالريبتوار العالمي من جهة ثانية.

بيد أنه ليس من باب الصدفة عقب هزيمة يونيو، أن تحدث قطيعة بين المسرح السائد وما أنجز بعده. فالمناخ السيلسي الجديد الذى أفرزته الحياة السياسية، والتقلبات الإجتماعية، فضلاً عن تفاعل خطاب المسرحيين العرب مع أصداء الدعوات الفكرية، وهي مؤشرات قادت المبدعين العرب إلي ممارسة فعل التجريب

و من هذا المنطلق، فإن مهمة التجريب تستهدف زعزعة البنيات الهشة في المجتمع من أجل إعادة تأسيسها باعتباره يعكس مدى تطور هذا المجتمع ويسعي إلي تحقيق ثورة في الجانب الفني إنطلاقاً من محاولة إعادة ترتيب معادلة الأنا والآخر وفق ما تمليه المعطيات السوسيوثقافية وخصوصيات المجتمع وتحولاته.

لذا يبدو أن التجريب يعكس إختياراً مضبوطاً، ويتطلب منهجاً نقديا واضحاً يتصدى لقضايا الواقع من جهة، ويسعي إلي التحرر من قيود الأشكال القمعية من جهة ثانية. فهو ليس إستنساخاً لنظرية سابقة، أو تبنياً إعتباطياً لمذاهب مهيأة سلفاً، وإنما هو إعادة تفكيك ميكانيزمات الثقافة الوافدة ووضعها موضع النقد، بل وإلغاء يقينياتها كما تقتضيها عملية التجريب نفسها. وهو بذلك يتوسل بالمغامرة ومبادرة الإكتشاف عبر حلقات مفتوحة غايتها تحقيق حرية الإبداع.

ضمن هذه المسيرة التحررية أو التصحيحية تندرج إبداعات كاتبنا السيد حافظ. فبواسطة التجريب إستطاع أن يقتحم مجالاً فسيحاً وصعباً في الوقت نفسه. فقد خاض تحديات مريرة إعترضت سبيله الإبداعي، ذلك بأن دخول مجال التأليف يعد مغامرة في حد ذاته، أو دائرة محرمة علي الهواة الطموحين من أمثاله، مادام المسرح حكراً علي رواد مخضرمين من أمثال يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ونعمان عاشور وغيرهم ممن أسعفهم الحظ في الحصول علي هذا الإمتياز !…

ومع ذلك، أصر علي البقاء في ساحة الإبداع، فأكد جدارته بدءاً من أول عمل له سنة 197 من خلال مسرحيته الفريدة كبرياء التفاهة في بلاد اللامعني. وقد واصل هذا الخط التصاعدى، فطور مواهبه وتناول قضايا عدة، نحو فلسطين، وقضية الحرية والعدالة الإجتماعية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومسألة الميز العنصرى وغيرها. كما نهل من معين التراث الإنساني من منطلق تأصيلي، وعبر منهج نقدى، وأخضعه للتطورات الحديثة في مجال الممارسة المسرحية. وقد جرب المسرح العبثي، فتعرف إلي مختلف عطاءات إتجاهاته الحديثة. وجسد من خلالها قضايا نفسية وإجتماعية وتاريخية تتغلغل في خبايا الذات. وتتصادم باواقع العربي المعقد.

وحتي يطور ملكاته الفنية، إستقطب السيد حافظ عصارة المدارس الحديثة، كما إستجمع كثيراً من النظريات وجعلها تتصاهر ضمن إنسجام أنساق الخطاب المسرحي التجريبي.

وخلاصةالقول إن مسرح السيد حافظ وإبداعات كوكبة من الدراميين العرب نحو عبد الكريم برشيد وعز الدين المدني، وعبد القادر علولة، وروجي عساق، وسعد الله ونوس وصلاح القصب، ويوسف العاني، وغيرهم إضافة إلي الجماعات المسرحية ساهمت جميعها في بلورة الوعي التجريبي المثمر. ويمكن أن نلخص جهود هذه الطاقات فيما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمن بن زيدان حينما أكد أن التجريب في بعده الإبداعي العربي يعد قفزة حققها المبدعون المسرحيون في الوطن العربي للعصف بالقناعات الكسولة. وبالخطابات السطحية، خصوصاً بعدما أصبح إستيعاب الثقافات ضرورياً، وأضحي التمثل الحقيقي للتجارب العالمية محركاً للأسئلة المقلقة حول المفاهيم الرائجة. وحول الأساليب المستعملة في الكتابة .

فبفضل هذا الإحتكاك تستطيع هذه التجارب إيجاد أرض خصبة تحتضن كفاءاتها. وهذا التجاور مرهون بإستيعاب التجارب الكائنة قبل الثورة عليها، وتحقيق المغاير.

ويمكن القول بكل إطمئنان إن حركة التجريب في المسرح العربي إستطاعت أن تراكم خلفها حلقات متسلسلة

 تبدو لنا موفقة معنوياً، بالرغم من أن بعض هذه الأعمال لازال يشكو من تضخم المواضيع السياسية، وإنزلاقها في سلبيات الأسلوب الشعاراتي والتحريضي، كما أنه مازال مصاباً بتخمة التراث.

فهذه القضايا وغيرها من الإنشغالات المطروحة مازالت تؤرقنا، لذا سنحاول ملامستها في المباحث التالية.


البـاب الأول

الفصل الأول

تمهيد :

المسرح العربي بين وهم المركزية الغربية وصدي الاتجاهات العالمية:

لقد سبقت الاشاره الي ظروف نشأة المسرح العربي، وما واكبها من اهتمام متزايد عغلي الساحة الثقافية في سياق التحولات التي شهدها هذا الفن، فمنذ الفجر الاول لميلاده، والجدل مستمر حول تطور هذه الظاهرة التي رأي بعضهم أنها (ولدت غريبة عن المركز الذاتي والجوهري للثقافة العربية الشاملة او الثقافات الاقليمية التي تتشكل منها في الوقت الحاضر)

وبهذا المفهوم صارت هذه التجربة مجرد صورة باهتة او بداية خاطئة لثقافة هجينة طرقت باب المسرح العربي حسب مناصري هذا الاتجاه الذين فجروا أعتي سؤال. وقد افضي هذا السؤال الي التشكيك في كل انجازات المسرحيين العرب التي انبثقت ضمن ما سموه " بالمشكلة الدرامية الاوربية، و(عليه فإن المسرح العربي) هو الآن ينمو داخل هذه المشكلية والخلل اذن مزدوج، خلل بداية، وخلل نمو."

   ويتجلي بطلان منطلقات هذا الحكم لامرين اثنين، الاول ينطلق فيه صاحبه "ادونيس" من مواقفه المعادية للتراث. لا سيما وأن الاهتمام بهذا العنصر قد بدأ ييشتد عوده في هذه الفتره اما الامر الثاني الذي نراه اكثر خطورة، فيتجلي في التشكيك في مختلف التجارب العربية ولم يكتف الباحث بالطعن في تطور المسرح العربي وتمسكه بسيقان الدراما الغربية، وانما جاوز الحد بالحكم "بعدم وجود مسرح عربي حتي الآن " وهذا ما يدفعنا الي رفض هذا الحكم جملة وتفصيلاً وفي كل الاحوال فإن التجارب المسرحية العربية قد بدأت تخلق فعلاً مشكليتها الدرامية.

و في مقابل ذلك، فان الاحاطة بتطور المسرح العربي لا يمكن ان نحدد مظاهره وآفاقه الا بعلاقته بالحقل الفكري الذي اتاح مجموعة من التصورات. ومن هنا انبثقت عن هذه النظرة ظهور قطبين متضادين : الاول ممتلك للمعرفة وفاعل فيها، والثاني مجرد مستهلك لثقافة الاول.

و قد تضافرت عوامل عديدة في ترسيخ هذه الثنائية المؤسسة علي فكرة المركزية، منها الاستعمار الغربي باحتوائه لأنماط المعرفة وافرازه لدور ابهاري ضمن ما يعرف بصدمة الحداثة او كما يسميها ادوار الخراط "الحساسية الجديدة" وهي حساسية بدلاً من أن تكون " حداثة ابداع، استحالت الي حداثة افزاع. كان من المتوقع أن تكون حداثة فن وعلم، فانحرفت لتكون حداثة جمود وحلم " وبذلك سار مفهوم الحداثة يرتبط بإنجازات الغرب، فغاب الاتجاه الصحيح الساعي الي تحديث ابداعي لفنون القول يراعي تطلعات العصر الراهن، في حين أن الرجوع الي الاصل يعد مظهرا من الردة، ومسلكا منافيا لكل مستحدث.

و من تفاعلات هذا الاعتقاد الزائف ظهور فكرة خطيرة اسمها "المركزية الغربية " فماذا نقصد بالمركزية ؟ وهل هي حقيقة ثابتة نسلم بها ؟ واذا كانت كذلك، ما هي حدودها وأبعادها ؟ وبمعني آخر هل هي صفة كونية تنضوي تحت لوائها جل الثقافات الانسانية ؟ أو أنها مجرد منارة يهتدي بها المريدون بالمعني اللغوي لا بالمدلول الصوفي وأين يمكن أن نحدد علاقتها بالآخر، فهل هي علاقة ذات صفة عدائية ؟ أو تصالحية.

ان التعريف الذي تدور حوله كلمة " مركزية " ينم عن الطابع المشاكس لهذه الكلمة، ويضعها قيد التمحيص والاستقراء فإذا عدنا الي معناها اللغوي فنجدها ترمز الي " منابت الاسنان " او مركز الجند، الموضع الذي أمروا أن يلزموه وأمروا الا يبرحوه، ومركز الرجل موضعه والركز هو غرزك شيئاً منتصباً.

فالمعانى المرتبطة بها تشير كلها إلى معنى الثبات والرسوخ فى المكان. وبذلك فهى لا تفترق عن المدلول الاصطلاحى بأن : المركزهو " المقر الثابت الذى تتشعب منه الفروع. والمركزية نظام يقضى بتبعية البلد لمركز رئيسى واحد".

وعليه فإن المركزية تمثل الأصل بالمفهومين اللغوى والاصطلاحى الذى تتوزع عنه الفروع. أو بتعبير آخر، إنها النموذج المرجعى الذى يحيل جدليا على العلاقة بين "المركزية الغربية " بإعتبارها قطبا يوطوبيا يفيد معنى التمكن والامتلاك.

ونظراً إلى علاقة الترابط بين المسرحين الغربى والعربى وتأثر الدراما العربية بصدى الاتجاهات العالمية، فقد تقوت بمقتضاها هذه الصلة. غير أن هذا القارب الثقافى لا يمكن أن يجيز قبول فكرة المركز والمحيط، لأن " تفاعل الثقافات فى العصر الحاضر ضرورة قومية إنسانية بآن واحد. فما من ثقافة إنسانية يمكن ان تقوم إذا لم تكن هناك ثقافات قومية تعترف ببعضها بعضا وتتلاقى تلك هى ديالكتيك الأخذ والعطاء".

وفى ضوء ما يحققه الحوار الثقافى من توازن فكرى، وتنمية لكافة المواهب وصقلها بأطوار معرفية كثيفة، فإن نجاحه لن يتحقق إلا فى سياق التكافؤ الحاصل بين المتحاورين، من أجل تحقيق نوع من التبادل. من هنا وجب التميز بين " مفهوم التبعية الثقافية، والتبادل الثقافى "

فالأول مرتبط بذوبان الشخصية المحلية فى قطب الآخر. أما الثانى، فيبدو أكثر توافقا مع فكرة عالمية الثقافة عن طريق ما يسمى ب " المثاقفة " ACULTURATION" وهى نتيجة تطور لعلاقة التلاقح بين أجناس مختلفة، يحدث بموجبها تماثل جزئى أو كلى بين ثقافة هذه الأجناس"

وإذا ما عدنا بهذا المصطلح إلى المعاجم القديمة، فإن أبرز معنى يتضمنه هو " ثقف: لاعبه بالسيف، والثقافة: العمل بالسيف، يقال فلان من اهل المثاقفه وهو مثاقف، حسن الثقافة بالسيف. ومن المجاز:التأديب والتثقيف".

وبمعنى آخر " رجل ثقف وثقف : حاذق فهم. وهى بذلك تقترب من المهارة والحذق.

وبهذا تكتسى الصيغة النهائية لكلمة " مثاقفة " نوعا من الخصام بين الطرفين، هذا من حيث المعنى اللغوى، أما المدلول الاصطلاحى، فمعناه التهذيب والتاديب الذى يتسنى بمقتضاه للمهذب أن يحتك ويتعلم من الآخر حتى ولو كان المعلم عدوه، لأن من طبيعة التصادم ان تعلم الانسان وتهذبه.

من هنا وجب تأكيد ضرورة النظر إلى المثاقفة بوصفها إستئناسية لا عدوانية كما كانت عند المفكرين السلفيين العرب، إذ غلب عليها "دائما منطق المواجهه مع أوروبا". وهذا الموقف هو الذى أفقد هذه الرؤية قدرة اللحاق بالركب الحضارى بعدما أغلقت قنوات التواصل، فى حين انه لا مفر من ثقافة فسيفسائية، فهى تعرض كل الموضوعات وتعبر عن كل القضايا التى تمكن أن تشغل الناس، ولأنها تقوم على إستراتيجية خاصة للاغراء، وتجذب الاهتمام وتنشط المخيلة.

وبالمقابل، لا يمكن لهذا الاقتناع أيضاً أن يكون هو الآخر مبرراً لتمرير فكرة مركزية الثقافة الغربية " لأنها أسطورة نخدع بها الضعفاء.

ومن شأن هذه الأسطورة أن تضمحل. بيد أننا لا ننفى صفة التمايز بين العقليات والذهنيات، ولكنه "تباين من حيث المستويات، لا من حيث الطبيعة".

فقد تبدو هذه الفكرة مؤسسة على شعور قومى محض، غير أنها تكتسى شرعيتها لتنفى صفه الكمال التى تلحق بالغرب. ولا يخفى ما لهذا الاحتكار من أبعاد مدمرة تسربت إلينا نتيجة فلسفة قائمة على سلطة ضاغطة تجعل المغلوب مولعا بتقليد غالبه حسب الفكر الخلدونى.

وقد تبلور بمقتضى هذا الموقف وهم تجزيئى للفكر النهضوى العربى، إتخذ مظهرين متناقضين " مظهر يمثل العدوان والغزو الاستعمارى، ومظهر يمثل الحداثة والتقدم ".

وما يهمنا من إثارة هذه المزاوجة هو الشق الثانى لما له من صبغة تفاضلية يشوبها خلط بين نموذج ك " رفيق الاستئناس، ونموذج ك " أصل يقاس عليه فيصبح سلطة مرجعية ضاغطة قاهرة، تحتوى الذات إحتواء وافقدها شخصيتها وإستقلالها.

على ان حدة الصراع ضد السلطة "المركزية الأوربية قد ضعفت مع بزوغ الحركات التحررية فى العالم العربى. وساهم فيه شعور المسرحيين العرب بضرورة خلق فن مسرحى عربى يستجيب لمتطلبات الجماهير العريضة التى بدات إرهاصاتها الأولى تتبلور مع نهاية الخمسينات وبداية الستينات"

لذلك خف شد الحبل على عنق المسرح العربى. غير أن بداية التحرر هذه لم تمنع من ورود أصداء كثيرة للمسارح العالمية بمفهوم أدق إذ حملت صوتها المتردد فى تجارب المسرحيين العرب. وقد كانت هذه المرحلة بداية حقيقية لما يسمى بالتجريب المسرحى فى الوطن العربى. فكان من طبيعة التجريب بان يطعم بإنجازات الاتجاهات الأوربية، والمدارس الفنية المتشعبة عنها.

ترى ما هو نصيب المسرح العربى من هذه الانجازات ؟ وما هو الأثر الذى تركته على أعمال الدراميين العرب ؟ وكيف تقبل هؤلاء صدى تراكمات المسارح العالمية؟.

لقد كان شغف المسرحيين العرب بإنجازات العرب فى البداية واضحا، فلاحت مؤثرات كبيرة تشعبت بها الدراما العربية. غير أن هذا الاعجاب شابته حيرة وتردد، تجلت بصماته فى أعمال المجربين الأوائل. والسبب فى ذلك يرجع إلى أننا " أخذنا الأصول الفنية الأوربية التى لا يمكن للعمل المسرحى أن يتم إلا بها، وأخذنا معها أشكالها ووضعنا فى تلك الأشكال واقعنا العربى فلا نحن إستطعنا الحفاظ على الشكل الفنى ولا نحن عبرنا عن واقعنا، لأنه بحاجة إلى أشكال فنية جديدة خاصة به، منبثقة عنه، ولا يمكن للأشكال الأجنبية أن تحل محله.

ويعزة هذا الضياع إلى طبيعة التصورات الهاشة، والأقدام العرجاء التى وقفت عليها مثل هذه المحاولات، ولكنها وقعت بذلك على شهادة وفاتها دون أن تعمر طويلا، من خلال تقمصها لقناع مسرح الصلة بحركية الابداع العالمية.

ولم تسلم التنظيرات العربية فى بداية الأمر هى الخرى من تصيد الأفكار الجاهزة، وإرتياد الثوابت المحنطة فة محاولة " لاكتساب جواز المرور نحو الحداثة حينا، والعصرنة حينا آخر.

بيد أن التطابق النظرى للمقترحات المسرحية العربية مع الأوراق التنظيرية الغربية لا يمكن ان يسوغ فكرة " المركزية الغربية " ليضعا مجرد قطعة على صفيح ساخن، للأننا لا يمكننا التقليل من أهمية ماتحقق حتى الآن من أعمال مسرحية عربية.

تركيـــب :

إن تعايش المسرح العربى مع ما تحقق فى الغرب، أو بالأحرى تطابق الكثر من الآراء التنظيرية بين هذا القطب أو ذاك، لا يعفينا من تحديد نوعية هذه العلاقة وضوابتها وشروطها الموضوعية.

وعليه، كيف يمكن لنا التعامل مع الغرب - أو الاتجاهات العالمية المسرحية تحديداً؟

من المؤكد أن أى ثقافة وكيفما كان تاريخها، وإنتشار صيتها لا يمكن أن تكون مؤسسة على تأييد مطلق. ولأجل هذه الغاية، وجب " الدخول مع ثقافة الغرب التى تزداد عالمية فى حوار نقدى، وذلك بقرائتها فى تاريخها، وفهم مقولاتها ومفاهيمها فى نسبتها. وأيضا التعرف على أسس تقدمها والعمل على إستنباتها فى تربتنا المحلية.. فالتعامل مع ثقافة الغير يقتضى ممارسة وعى نقدى إزاءها. وترشيد إنجازاتها قصد بلورة الخصوصية والاختلاف.

   ومن هذا المنطلق، فإن الاستنبات لا ينبغى أن يجوز مشروعيه تقديس ثقافة معينة ومنها الغربية. ومن شأن هذا الاقتناع ان يعقد السؤال: " كيف أعرف نفسى بإزاء الغرب؟ ومثل هذا السؤال يزيف المشكلة، بدلا من ان يساعد على حلها " لأن السؤال الحقيقى الذى يعد جوهريا هو كيف أعرف نفسى بنفسى؟ وكيف يمكن للمسرح العربى ان يكيف أعماله إنطلاقا من الاحتكاك ببعض المدارس الفنية التى تعد ممونا رئيسا لتكامل الزاد المعرفى، ونضج المستويات الفنية والجمالية القادرة على إغناء الحقل التجريبى المسرحى العربى.

وحتى تكتمل الصورة فى أذهاننا عن أعمال المسرحيين العرب، سواء من خلال ما تقدموا به من أوراق تنظيرية، أم من خلال عدم توظيفهم للتراث وعلاقته بالتجريب سنتحدث عن جملة من القضايا المرتبطة بهذه المواضيع فى المباحث التالية.


 

الباب الأول

الفصل الثانى

 

أثر التجريب المسرحى الغربى وعلاقته بالتنظير للمسرح العربى :

تأسيساً على ما سبق يمكن غعتبار الغرب إشكالية تتقدم كل الانشغالات المتعلقة بدراسة المسرح العربى وتحديد سمات التحول فيه.

ولا تخلو نظره تتكفل بهذا الجانب دون أن تشير إلى الإطار التاريخى الذى ربط الغرب بدول العالم الثالث على وجه الخصوص. فقد تأتى لهذا القطب المحورى أن يمسك بناصية هذه البلدان، وترشيده لمختلف الفنون الحديثة. ومن بينها المسرح لصالح إنجازات المدينة الغربية مستغلاً فى ذلك الوضع السياسى والاجتماعى العربى المنهار.

   غير أن هذه الظروف كلها لم تطمس تلك المواجهة المفترضة بين الشرق والغرب ولو أنها تراوحت بين العدوانية وبين النظرة الإعجابية بإنجازات القطب الغربى ونتج عن ذلك ظهور تيارات ومذاهب ومناهج غربية تحولت إلى " دينامية للخلط وتراكم التصورات التى أفرزتها الثقافة الغربية منذ القرن الثامن عشر"

   وقد تم هذا فى غياب شرط المواجهة الحقيقية المستندة نظرياً على فكرة نقد المناهج والمذاهب الغربية التى لا زالت تترك بصمات واضحة على الإبداع العربى وما يرتبط به من إشكاليات كبرى كالحداثة "لأن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخيا بوجود سابق للحداثة الغربية. وبإمتداد قنوات التواصل بين الثقافتين".

   وعليه فإن الحداثة الغربية أصبحت إمتداداً طبيعيا للحداثة العربية. غير ان هذا الوحه الفاتن للدوحة الغربية ما أنفك يتحول إلى مأزق حقيقى او ما يطلق عليه بمفارقات الأصالة والمعاصرة. وهذا الأمر ولد نوعا من الحيرة لدى المسرحيين العرب بين الاخلاص لفكرة الرجوع إلى الأصل، وبين المراهنه على ومضات العصرية. وقد عبر توفيق الحكيم عن هذا المأزق بقوله :-( لست إدرى أمن سوء حظى أو من حسنه أن أعيش الآن فى أوربا وسط هذا الاضطراب الفكرى الذى ليس له مثيل.. فأنا موزع الآن كما ترى بين " الكلاسيك والمودرن " ولا أستطيع ان أقول مع الثائرين فليسقط القديم لأن هذا القديم أيضاً جديد علىّ فأنا مع هؤلائك وهــؤلاء.

   ويمكن ان نربط أسباب هذه الحيرة عند الحكيم بتكوينه الموزع بين مؤثرين مختلفين :- الشرق بمثاليته المحافظة وروحانيته، والغرب بماديته المغرية.

   وقد عمل هذان العاملان جنبا إلى جنب لاغناء مصادرة المعرفية والفنية، وهوما تجلى بوضوح فى أعماله الكثيرة التى حملت إرهاصات توفيقية تحكمت فى سائرإبداعاته إنطلاقامن أعماله الأولى (أهل الكهف – شهرزاد – بجماليون) وغيرها

   وقد ظل فيها وفينا لنزعته التوفيقية القائمة على التفاعل بين الماديات والروحيات وهذه النزعة التوفيقية نفسها هى التى أصلت عنه مصطلح التعادلية كما روج لها النقاد أولا، وهو نفسه بعد ذلك فى كتابه الذى يحمل نفس العنوان وقد إعتمد الحكيم هذه التعادلية مبداً إنسانيا عاماً " تطلق على قوتين : هما العقل والقلب أى المنطق والايمان بإعتبارهما متبعين للمعرفة الانسانية... فالتعادلية ترمى كل منهما موازيا الآخر كما يتوازن كوكبان يدور كل منهما حول نفسه ثم يسيران بعد ذلك معا إلى الأمام فى عين المجرى "

   وبهذا الانقلاب من التردد الذى أبداه الحكيم فى بادىْ المر إستطاع بعد ذلك أن يحل هذا الاشكال مما ساعده على التجرد من كافة المغريات والنزوات العابرة للمدنية الغربية. وهذا ما يلخص تلك الفكرة التى ذهب إليها البعض من كون الحكيم لا يعكس قناعه شخصية نشأت عن تطور فى ممارسته الفعلية لهذا الفن. وبذلك سمح لنفسه وللمسرح العربى من ان يتطعم بإيقاعات ممزوجة وغنية مكنته من إجتياز عتبات التقليد والاقتباس، إذ ما إستطاع أن يستوعب المسرح الغربى ويتمثل تقاليده وإتجاهاته تمثلا واعيا ويمزجها بثقافته العربية مزجاً أصيلاً وذكياً يتلاءم مع طبيعته الخاصة. وحالة المجتمع العربى الذى نشأ فيه.

   وبفضل المواهب الفنية التى توافرت للحكيم ومنها إشتغاله بالرمز المكثف إستطاع ان يرفع الفن إلى درجات كبيرة من الايحاء ولو ان هذا الجانب قد جنى عليه كثيراً إذ ذهب كثير من الدارسين إلى إتهامه بالنخبوية وبأنه كان بعيدا عن مشكلات المجتمع المصرى يعيش وحيداً مع تأملاته فى برجه العاجـى

   ومما تميز به الحكيم كذلك هو طول نفسه فى التأليف فقد إتسمت مسيرته الابداعية بغزارة فى الانتاج وهذا ما سمح له بإكتساب حسى تنظيرى تجلى فى كتابه (قالبنا المسرحى).

   وقد ضمن هذا الكتاب الشكل المقترح للمسرح العربى إنطلاقا بما تجود به التربة المحلية من أشكال فرجوية وبذور شعبية مختلفة مزج بينها وبين قدرة الممثل فى التشخيص لذلك بنى نظريته هاته على تعدد الشخصيات إنطلاقا من فعل التشخيص نفسه.

   اهذا إقترح صيغ ( الحكواتى والمقلداتى والمداح والمقلدتية) وهى صيغ رأى أنها تعتمد مبدأ الاختصار أى إختصار عدد الممثلين والممثلات مهما بلغ فى أى نص مسرحى إلى ثلاثه فحسب فيما يسميه الحكيم بالمسرح " المركز " أو " المسرح التشريحى ".

   إن هذا النوع من المسرح فى نظر الحكيم يتناغم مع التكوين الفنى للمؤدى أو الممثل وهذا ما قد يشجع على الاقبال عليه بكل سهوله محليت وعالميا. ولكن مع ذلك فإن نزعته التوفيقية ظلت حاضرة فى هذا النظير، ولا أدل على ذلك من انه فى ظل هذه الدعوة المحلية أقترح عدم التخلى عن الأشكال المسرحية الأوربية المألوفة. وقد برر ذلك بالرغبة فى مواكبة الركب الفنى العالمى حتى لا ينفصل عن الركب الحضارى العام فى جميع خطواته وتصوراته.

   ولكن هذه الدعوة ظلت صيحة فى واد لا سيما حين تخلى عنها الحكيم نفسه ولم يتمكن من تطبيقها فى أعماله المسرحية التى كتبها بعد ذلك. ومن ثم بقيت دعوته هاجسا تنظيريا رواده فترة من الزمن، ثم توارى بعد ذلك بالتدريج حتى إنطفأت شعلة تلك الرغبة الفنية الجامحة.

   وبنفس الرغبة جاءت دعوة يوسف إدريس القائمة على مسرحه " شكل السامر " بإعتباره أحد الأنماط المستمده من الريف المصرى وكانت هذه الدعوة تعد بالكثير لأنها لم ترد تحت تأثير فكرة أو شخصيات مسرحية فحسب، وإنما بتأثير رؤيا ذات فهم مختلف فى الأداء والتصور والاخراج.

   غير أن مبالغتها فى التهريج والتصوير " الكاريكاتورى " لشخصية الفرفور جعل مشروع " السامر " محتجا إلى إغنائه بالحركة الفنية لأن الهذر والاستطراد وتوالد الحوار يفقد العرض الاحساس بالايقاع ولا يرتقى إلى مستوى الشكل.

   ولعل ثقل المسئولية على يوسف إدريس يحتاج إلى زاد معرفى وفنى لا توفره البيئة المصرية فحسب، وغمنا يتحقق عن طريق الاستفادة من المسارح الأوربية بل كان على الكاتب أن يفتح أبوبه للثقافات الأجنبية ليتعلم منها كل ما يستطيع تعلمه ولم تكن الرؤيا التى يحلم بها ضمن تصور مسرح محلى لتتحقق فى مسرحية الفرافير بالرغم من خلقها لأجواء فنتازية ساخرة عبرت عن الرأى الشعبى الذكى إلا أنها لا تعتبر إلا مجرد آفورة مسرحية ثم أن هذه الدعوة إبتعدت عن جوهر الاحتفال الذى آمن به صاحبها.

   وهذا ما جعل تجربة " يوسف إدريس " كما قال عبد الكريم برشيد تدخل فضاء التأصيل ولكنه من غير بوابته الحقيقية دخلته من نافذة الشكل.

   إن الاستغراق فى التهريج والاحتفالية المسطحة أبعد مسرحية " الفرافير " عن تحقيق تواصل مع الجماهير فهى محاولة قاربت الكوميديا الغربية الايطالية ولم تتغلغل إلى صميم الواقع المصرى.

   ومع ذلك تبقى هذه النقلة من الارهاصات الأولى التى إقتحمت باب التنظير بجرأة إعتماداً على شكل شكل " السامر " بوصفه أحد الظواهر الأصلية فى مجال التمسرح المرتبط بالتمثيل.

   ولم تكن تلك الأشكال الشعبية السبب الوحيد فى إنتعاش حركة التاليف المسرحى العربى فقد كان للوضع السياسى الجديد قسط وافر فى تفعيل المسرح الايديولوجى ذى الطابع التسجيلى الذى ساهم فى إستفزاز الواقع العربى بعد نكسة حزيران 67 فقد إتسمت هذه الفترة بظهور مسرحيات تحريضية لتعرية الواقع الجديد وكشف أسباب الهزيمة.

وكان أحسن من مثل هذا النوع من الكتابات المرحوم "سعد الله ونونس" الذى لم يدخر أى جهد إستحضار مجموعة من الوثائق التاريخية وإيصالها بالواقع العربى. وقد كان تعامله مع هذه الأحداث التاريخية يكتسى صبغة خاصة إذ لم يتعامل مع التاريخ بوصفه وقائع وأحداثا منفصلة عن بعضها... بل بوصفه صراعا لارادات وقوى متناقضة يحاول دائما أن يبرز وجود الشخصية العربية داخله دون ملل أو توقف.

   ومما يضفى على تجارب " ونوس " طابعا متميزاً فى التعبير إحتكامه إلى الخصوصيات الفنية للعرض المسرحى من خلال إطلاق المجال لعروضه المقترحة خارج سلطة العلبة الايطالية كما هو الشأن فى مسرحية " مغامرة رأس المملوك جابر " حينما خرج بها المخرج إلى فضاء المقهى. وبهذا تخطى ونونس عتبات النص الأدبى وأشرف على توافد الفرجة المسرحية الرابطة على حدود الكتابة.

   ومن جهه أخرى فإن ونوس كان يحرص فى الكثير من أعماله على توظيف " الحكواتى " وهى الحيفة الأكثر شيوعا فى العديد من الأعمال المسرحية العربية وهذه الصيغة تساعد على إستغلال تقنية التغريب أو التباعد البريختى داخل الحوار خدمة للفعل المشهدى المتنوع الذى تتراكب فيه الحركة بالكلمة ويستمد مسرح ونوس جذوته من التجريب فهو الاطار الموضوعى والفنى لأعماله المسرحية التى صقلتها موهبته الكبيرة وإطلاعه على اهم الروافد العالمية ومنها المسرح الملحمى وعمل تبعا لذلك إلى عملية الاستنبات التى تجلت فى بعض نصوصه المسرحية نحو " الملك هو الملك والاغتصاب ".

  ثم ركز على عملية الاستلهام التراثى كما هو الحال فى أغلب أعماله. وقد حاول أن يضفى على أعماله طابع الاثارة قصد تشغيل الملكات الادراكية عند الجمهور الشعبى العريض أو كما يقول هو نفسه (إننا نريد تغيير وتطوير عقلية وتعميق وعى جماعى بالمصير التاريخى لنا جميعا).

   ففى مسرحية " الملك هو الملك " يحاكم ونوس الواقع العربى الجديد إنطلاقا من إدانه مضمنة للأجهزة الحاكمة. وتبعا لذلك فإن تغيير الأفراد لم يغير أساليب الحكم وبهذا إستمر تفسخ الوضع فى الوطن العربى.

 

 

 

 

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More