Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

55 التجريب في مسرح السيد حافظ بقلم د. مصطفى رمضاني

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

( 55 )


التجريب في مسرح السيد حافظ
بقلم د. مصطفى رمضاني

 

دراسة من كتاب

المسرح التجريبى بين المراوغة واضطراب المعرفة

 

التجريب في مسرح السيد حافظ
بقلم د. مصطفى رمضاني

 

 


 

يعتبر السيد حافظ من المبدعين الذين ظلوا يشتغلون في صمت، ولكن أعماله كانت تخلف أصداء طيبة نظرا إلى أسلوبها المثير وتقنياتها المستفزة. ولعل نظرة خاطفة إلى عناوين مسرحياته تؤكد هذا الطابع الاستفزازي الذي يثير الغرابة، ومن هذه العناوين مثلا "كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى"، و"الطبول الخرساء في الأودية الزرقاء"، و"حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث"، و"حبيبتي أنا مسافر والقطار أنت والرحلة الإنسان"، و"هم كما هم ولكن ليسوا هم الزعاليك"، و"حبيبتي أميرة السينما"، و"سيزيف القرن العشرين".

وقد لحقت هذه الغرابة طريقة تقسيم المسرحيات أيضا. فهو لم يقسم مسرحياته حسب الطريقة التقليدية إلى مشاهد وفصول، وإنما قسمها تقسيما ينسجم مع طبيعة الموضوع المعالج. وهكذا نجده يستخدم في مسرحية "الطبول الخرساء" مصطلح "التحول" بدلا من الفصل، فيقسمها إلى ثلاثة تحولات. وفي مسرحية "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث، يلغي كل الفصول، ويقرب بين تقنية القصة وتقنية المسرحية، ليبدأ بما سماه "مسودة خاصة"([1]). أما في مسرحية "حبيبتي أميرة السينما"، فيقدم مصطلح "لقطة" باعتباره مصطلحا من مصطلحات السينما، في حين يوظف مصطلح "الجسر" في مسرحية "ستة رجال في معتقل"([2])، لأنه يعكس معنى العبور الذي يتحدث عنه هذا العمل من خلال المقاومة الفلسطينية. ويستخدم مصطلح "الإشارة" في مسرحية "علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا"، نظرا إلى الطابع الرمزي المكثف لشخصيات المسرحية والدلالات المعقدة التي تخفيها. ولما كانت مسرحية "الخلاص"([3])تتحدث عن صراع الشعب المصري ضد العدو، والحدود التي فرضها عليه نفسيا واجتماعيا وسياسيا، فقد فضل استخدام مصطلح "الحد"، وهكذا...

وبما أنه كتب لمسرح الأطفال، فقد أبى إلا أن يطبع هذا اللون من المسرح بالتجريبية كذلك، وإن ظل مشدودا إلى التراث عامة وإلى الحكايات الشعبية على وجه الخصوص. ومن بين أعماله المسرحية الخاصة بالأطفال نذكر "الشاطر حسن"، و"ساندريلا"، و"سندس"، و"فارس بني هلال"، و"علي بابا"، و"عنترة بن شداد"([4])، وهي كلها مسرحيات تربوية تستوي حكايات شعبية قصد التوجيه والتربية الفنية، وتعتمد على لغة شاعرية بسيطة، ولكنها في نفس الوقت تشغل الذهن وتحث على التفكير.

وفي كل أعماله، يظل موضوع العدل والديموقراطية والصراع الاجتماعي من أهم الموضوعات التي عالجها هذا المبدع؛ ولكن كل مرة بطريقة مختلفة وبأسلوب مغاير، ولا شك في أن لارتباطه بمثل هذه الموضوعات ما يبرره ذلك بأن السيد حافظ من المبدعين الذين ينتمون إلى جيل التمرد بسبب معايشته لأخطر الهزائم العربية. وكما يقول عنه سعد أردش: "كاتبنا إذن من جيل عاش صباه ويعيش شبابه ملتاعا يكتوى بسلسلة من الهزائم الوطنية والقومية، وكان من الممكن أن يعيش عصر التحرر والاشتراكية والعدالة والعتق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة"([5]).

ولما لم يعش عصر التحرر والاشتراكية فقد أراد يعيشه في الحلم مع أبطال مسرحياته، لذلك نجد أن أغلبهم يجسدون هذا الحلم بنوع من التفاوت، ولكنهم جميعا يعيشون المفارقة الإشكالية ذات الطابع الدونكيشوطي بين أحلامهم وواقعهم المر. لذا فهزيمتهم هي هزيمة جيل بكامله، الشيء الذي جعل المؤلف يعيد النظر في كل شيء بما في ذلك وسائل الإبداع التقنية، لأنها في نظره جزء من هذا الواقع الذي لم يفرز غير الهزائم. وقد رأى أحد الدارسين أن مسرح السيد حافظ كتب من أجل القرن الواحد والعشرين، لأنه مسرح تنبؤي يقوم بعملية الاستشراف الحضاري. يقول الدكتور إبراهيم عابدين: "مسرح السيد حافظ ربما يكون هو المسرح المتمخض عنه مسرح القرن القادم، ومسرحه جدير بالتأمل والدراسة... فهو يحاول أن يجد صيغة جديدة، وهو أيضا يبحث عن أشكال متقدمة تتعدى ما عرفناه من الأشكال المسرحية من أرسطو إلى اللامعقول وبريخت..." ([6]).  ويرى ناقد آخر أن محاولات هذا المبدع الطليعي "تجاوزت حد التمرد إلى حد الثورة على كل التقنيات المعروفة وغير المعروفة"([7]).

إن معنى التمرد في مسرح السيد حافظ لا يعني إلغاء التراث وما يرتبط به من قضايا فكرية وفنية وغيرها، ولكنه يعني وضع كل شيء موضع الدراسة والنقد. لهذا نجده يستلهم عناصر التراث ويوظف أحداثه وشخصياته توظيفا معاصرا، ويساهم بذلك في بناء صرح الحداثة المسرحية.

ولعل مسرحيته "ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري"([8])من أجود أعماله التي تعامل فيها مع التراث الإسلامي تعاملا نقديا، ذلك بأنه استلهم إحدى الشخصيات الإسلامية التي كانت لها مواقف متقدمة فيما يخص قضايا اقتصادية واجتماعية وإنسانية. فأبو ذر الغفاري يتحول في هذا العمل إلى مناضل ثوري يناضل ضد السلطة التي صادرت حرية التعبير وأقرت القمع والإرهاب محل الديموقراطية، وتتجاوز ثوريته حدود المكان والزمان لتصبح قضيته قضية الإنسان المضطهد.

وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن عملية تثوير الشخصية الإسلامية من منظور معاصر. فحتى وإن كان أبو ذر في المسرحية رمزا لأي إنسان مضطهد، فإنه مع ذلك يحمل كثيرا من سمات الشخصية التراثية كما تحدثنا عنها المصادر. وهذا يعني أ، المؤلف احترم شروط التعامل مع التراث، ولم يقم بإسقاط سياسي متعسف كما يفعل كثير من الكتاب الذين يختفون وراء الشخصيات التاريخية لمواجهة التناقضات السائدة. فعملية الاستلهام التراثي عنده "تشير إلى عملية الوعي والإدراك من خلال ملحمة الصراع والمتناقضات في عالم الواقع والخيال"([9]).

تتكون المسرحية من ثلاث بؤر مسرحية. ومصطلح البؤرة هنا يقابل المصطلح التقليدي "الفصل". البؤرة الأولى بعنوان التفسير، والثانية بعنوان الإدراك، أما الثالثة فبعنوان الموقف. وتترابط هذه البؤر فيما بينها ترابطا جدليا، لأن كل بؤرة تؤدي إلى البؤرة الموالية بشكل عقلاني وتفاعلي. كما أنها كلها تخدم الفكرة المحورية في النص بطريقة تصاعدية، وما هذه الفكرة غير وظيفة الفكر الثوري في مجتمع استبدادي.

وقد جسد معنى الثورية في شخصية أبي ذر؛ وهو بذلك يستلهم جوانب مشرقة من حياة بعض الصحابة الذين عرفوا بمثل هذه المواقف المتقدمة في جانبها الاجتماعي والاقتصادي.

فمن المعروف أن ابن سعد جعل أبا ذر ضمن الطبقة الثانية من أصحاب رسول الله r، ووصفه بأنه كان يغضب للحق بسرعة ويدعو إلى القوة لصالح العدالة. ويروي عنه ا، الرسول عليه السلام قال له يا أبا أذر ماذا تفعل إذا استأثر أمراؤك بالفيء، فأقسم أبا ذر بأنه سيستعمل سيفه حتى يرد الحق لأهله([10]).

ويبدو أ، السيد حافظ استفاد من سيرة هذه الشخصية، لذلك وجدنا كثيرا من مظاهر التناس في عمله. وهي كلها تناصات خارجية تحيلنا على مرجعيات تاريخية حقيقية، ولكن أبعادها ذات طابع رمزي خالص، مما يجعل الأحداث والشخصيات علامات دالة تملك قابلية تعدد القراءات والتأويلات ضمن سياق خاص هو موضوع العدالة والديموقراطية، كما يجعل العمل في جوهره يأخذ منحى تجريبيا داخل عملية التأصيل الشاملة.

فمنذ البداية، يشعرنا المؤلف بوعيه التأصيلي حين يستغل تقنية الراوية المعروفة في قصصنا الشعبي. وهي تقنية موسومة بالحياد عادة، ولكن السيد حافظ يأبى إلا أن يكسر هذه القاعدة، فيجعل الراوي – أو الكورس- يتحدث بلسانه ويعبر عن مواقفه تجاه الصراع الذي يخوضه أبو ذر:

المؤدي:        وتموت غريبا في أرض الله الواسعة.

                 وتموت غريبا بين خلق الله الجائعة.

                 وتموت بعيدا ولم تحسم القضايا.

                 بين أغنياء البلاد والفقراء العرايا([11]).

ويتضح مظهر التناص في هذا المشهد الأول جليا، لأنه يحيلنا على قصة نفي عثمان بن عفان لأبي ذر إلى الربذة حيث مكثت حتى وافته المنية وبجانبه زوجته التي لم تجد ما تكفنه به([12]). غير أن المؤلف قام بعملية انزياح للنص الأصلي، وقدم هذا الحوار ليكون بداية التوتر، رغم أنه في الأصل يوحي بنهايته مادام البطل قد مات، وبموته ينتهي ذلك التوتر. ولكن فعل الموت يحمل بعدا رمزيا لأنه يشكل بؤرة من بؤر هذا التوتر لاسيما عند السلطان فاتك. فالموت يصبح فاعلا في إقلاقه رغم طابعه السكوني، ويحيل على معنى البعث الذي يؤمن به المؤلف باعتباره ولادة استشرافية للحق والعدالة.

وحتى يؤكد الطابع التأصيلي لهذه المسرحية ويلتحم أكثر بالجمهور العربي الشعبي، استلهم فضاء الحلقة بديلا للحشبة الإيطالية لأنه فضاء يلائم طبيعة الشخصيات المسرحية. وقد قسمه إلى أركاح، كل ركح يختص باحتضان الحالة أو الزمن أو الموقف المناسب له. وهو تقسيم ينم عن وعي المؤلف بمكانة الفضاء المسرحي داخل العمل المسرحي، ما دام الفضاء هو الذي يتحكم في كل الأدوات السينوغرافية، وعلى أساسه يتصرف المخرج في تقنيات العرض. ولتأكيد هذه العملية، استعان بالإنارة وجعلها تفصل بني الأركاح الثانوية داخل الركح الأساسي، ليظهر بذلك الزمان أو المكان من خلال البقع الضوئية والبعد السيميائي الذي تحمله. وتقوم هذه البقع بوظيفة أخرى تتمثل في تعويضها للراوية عن طريق الومضة التراجعية، فتنقلها من ركح إلى آخر يفيد –في النص- معنى تغير الزمان والمكان أو الحدث المسرحي دون الاستعانة بوسائل التلقين التقليدية. كما أنها تسعفنا في معرفة الشخصيات والتطور الذي يلحقها عن طريق المونولوج، لأن كثيرا من الجوانب النفسية لا يمكن للغة العادية أن تعبر عنها؛ لذلك يستعين المؤلف بلغات أخرى حركية أو بصرية أو غيرها لتقوم مقامها.

وكذلك الشأن بالنسبة إلى وظيفة الراوية، لأنه لا يستطيع أن يعبر بأصالة عن بعض الكوامن الدقيقة. لذلك فضل السيد حافظ أن يستعين بزوجة أبي ذر لتقوم بهذه المهمة حين يتعلق الأمر بوصف شخصية زوجها، ويأبى إلا أن يكسر هرمية تسلسل الأحداث ليبدأ المسرحية من نهايتها. وهذه العملية مقصودة لتكسير نمطية التفكير عند المتلقي، وهي نمطية تقتضي البدء من البسيط إلى المركب.

من هنا نجد أن المسرحية تبدأ بوصف حالة أبي ذر الغفاري في مرحلة حياته الأخيرة وهو يلفظ أنفاسه بين أحضان زوجته. وهذا المشهد يحدد معنى الاختفاء كما يقتضي المنطق، لأن فعل الموت لا يؤول إلا إلى هذا المعنى. ولما كان المؤلف يؤمن بالنزعة الاستقبالية، فقد حدد هذا المعنى من خلال فعل البعث الثوري. لذا أصبحت مرحلة الاختفاء عنده تمهيدا أو تبشيرا لمرحلة الظهور. ومن ثم نفهم أن وجهة المؤلف تتجه نحو المسرح الملحمي، وهي وجهة ستطبع كل المسرحية كما سنبين ذلك فيما سيأتي. وحتى نتعرف إلى هذه الشخصية الملحمية في النص، نقف عند هذا التصريح لزوجته التي تعرفنا بحقيقة أبي ذر:

(بقعة ضوء على امرأة تجلس بجوار أبي ذر الغفاري الذي يبدو عليه أنه في الحشرجة الأخيرة).

المرأة: (زوجة أبي ذر)

يا سيدي ومنبت الفكر الشريف، يا حلم الرجال الخصيب، ومنبت الفكر الشريف، تسلقت أفكارك حوائط البوت الضيقة المختنقة وسقوف الأكواخ. بين كل حانة وحانة مسجد، وبين كل لص ووال جمع من الفقراء والمساكين، وبين الحق والباطل سجون الجلادين... وأنت هنا.... تشرب رملا وتأكل رملا هنا إلى جواري، وهناك في المدينة بين كل رجل ورجل رجل من الشرطة السرية وبين صوتك وصوت الناس التضليل والضلال المبين، وبين كل مضغة ومضغة من الطعام قلق المجاعة، يا شريدا... استيقظ يا أبا ذر، يا غريبا منفيا حدق في الأفق الأزرق واستيقظ([13]).

وحتى يعطي للمسرحية بعدها الملحمي، يتجاوز السيد حافظ الطرح الكلاسيكي الأرسطي فيما يخص تقسيم قاعة العرض وعلاقات الإنتاج المسرحي. لهذا نراه يكسر الجدار الرابع الذي يفصل بين المبدعين/ الممثلين/ والجمهور ليصبح الحوار مفتوحا، فيشارك هذا الجمهور في الحوار والمناقشة، ويصير بذلك فاعلا في العرض المسرحي.

ومن المؤكد أن هذه المشاركة الكلية في العمل المسرحي لم تكن لتتحقق لولا أن الحدث المسرحي الذي اعتمده المؤلف يرتبط بالواقع، وبالتناقضات التي تتخبط فيها هذه الجموع المستضعفة، والمتربصة بفرصة الخلاص من كل أنواع القمع والكبت والمصادرات. ولما كانت أحداث المسرحية ترتبط بهمومهم، فقد وجدوا فجوة للتنفيس ولإفراز مكبوتاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

إن أبا ذر الغفاري كما يصوره النص المسرحي ليس صحابيا يملك الفقه والسنة فقط، ولكنه مناضل وهب نفسه لخدمة هؤلاء المستضعفين. لذلك فهو لا يفرق بين حياته وموته، وبين بيته ومنفاه، لأن الأشياء لا تتحدد بوجودها المادي فحسب، ولكنها تتحدد بمدى تأثيرها في الحياة كذلك؛ وهو الأمر الذي يفسره أبو ذر حينما يقر أن غربته هي أن يرى الناس جياعا يهدهم الظلم والانكسار:

صوت 1: أبو ذر..

صوت 2: من أين أتين؟ من بيتك أم من منفاك؟

أبو ذر: لا فرق.. منفاي أنين الجائع وانكسار المظلوم وجوع الفقراء

صوت 3: أنت بيننا ولا ندري؟؟

أبو ذر: وأجوع وأعرى وأصرخ، وأنادي: يا فقراء، يا مظلومين، يا جائعين اضربوا بسيف الجوع([14]).

فالنص يطرح معادلات جديدة تعتمد على منطق الواقع وليس منطق الحقيقة ليكسر المفاهيم السائدة تجاه بعض الأشياء والقضايا. وهذا الطرح يعتمد على تقنية أساسية في المسرح الملحمي، ونعني بها تقنية التغريب، ذلك بأن المؤلف يسعى إلى مخاطبة ذهن المتلقي قصد تحريك بنية الإدراك عنده. فهو يقدم الأحداث والمفاهيم بشكل مثير وغريب حتى يستفز ذهن المتلقي ويقلقه؛ ومن ثم يحرك فيه فضول التساؤل والبحث والتفكير. وبهذا يكون مسرح السيد حافظ مسرحا يصادر كل فرجة عاطفية تعتمد أسلوب التلقين والاستيعاب، لأنه ليس مسرح متعة ولكنه مسرح عقل وتفكير وجدل.

إن السيد حافظ يعتمد على التغريب الملحمي إذن قصد إشغال ذهن المتلقي لحل أبعاد الأحداث المسرحية أولا، ولفهم العلاقة التي تربط هذه الأحداث بالواقع الفعلي ثانيا. فهناك صلات متعددة الوشائج بين واقع المسرحية باعتباره مجموعة من العلامات الدالة "signes" ،وبين الواقع الفعلي باعتباره مجموعة من الأحداث والأفعال والعلاقات. لهذا فالخوف لم يعد صفة معنوية تحول دون تحقيق الغايات، ولكنه صار مخلوقا حيا تمتد سلطته وقمعه ليلاحق المضطهدين والمحرومين في المنازل والمساجد والأسواق، وفي كل مرة يظهر هذا الخوف بمظهر جديد ويتقنع بألف قناع وقناع، حتى صارت حياتهم منفى وغربة قسرية:

صوت 5: لقد أصمنا الجوع، وأخرسنا الفقر.

أبو ذر: لا... لا... لم يكن الجوع ولم يكن الفقر (يحدق في وجوههم ثم تتغير نبرة صوته).

لا... لا... يا أصحابي، الخوف هو الذي أصمكم وأخرسكم. لقد رأيته بعيني يدخل بيوتكم في الليل مدعيا أنه من رجال الشرطة السرية، مدعيا أنه من رجال العيون السرية (يتقدم نحو المسرح) جئت لفصل الناس عن الناس... جئت (يخطو نحو المسرح) لأنذركم.. أنه عصر الموت للروح، هل تدركون يا أصحابي كيف ينفيكم الخوف وأنتم في بيوتكم تتضورون جوعا وتنامون على الحزن والفقر والحاجة؟؟ ([15]).

ويتأكد من طرح السيد حافظ هذا أنه يؤمن بأن الإنسان هو خالق واقعه وليس العكس. فهؤلاء الفقراء هم الذين ساهموا في خلق مصائرهم بخوفهم واستكانتهم. لهذا فهم ينتظرون البطل الذي يخلصهم من غربتهم، وهو ما يخشاه أبو ذر. فإذا كان الفقراء يخشون الخوف والمواجهة والموت، فإن أبا ذر عكس ذلك يخشى صمتهم وخوفهم وانتظارهم، لأن في صمتهم ذاك يعشش الخوف ويكبر الموت. لذلك نراه يحثهم على تمزيق رداء الصمت وتكسير جدار الخوف، لأن الزمن زمن الفعل والحركة والكلمة المرتبطة بالفعل، ولأن الموت نفسه يخشى الحركة والفعل، ولأن الكلمة وحدها لا تجدي.

إن هذه الدعوة تستند إلى مبدأ التحريض، وهو مبدأ أساسي في المسرح الملحمي يتوخى تكوين المتلقي إيديولوجيا. لذلك نلمس بوضوح أن المؤلف يقرن هذا التحريض بأبي ذر في كثير من الأحداث ليصبح هو نفسه صوته المعبر عن موقفه وأفكاره، كما نجده ينطق باسم المؤدي أو الكورس حينا آخر. ولما كان مبدأ التحريض الملحمي يجعل الواقع مرجعا للثورة على التناقضات السائدة، فإنه يعتمده مرجعا مرة أخرى لطرح البديل الإيديولوجي. فسكان مدينة "فردوس الشورى" هم الذين ساهموا في خلق واقعهم المتردي بخوفهم وصمتهم. لهذا فبديلهم يكمن في أيديهم، إذ بإمكانهم أن يغيروا هذا الواقع بقتل خوفهم وصمتهم. إلا أن السيد حافظ يقرن هذا البديل بأبي ذر ما دام يحمل فكرا ووعيا شعبيا جماهيريا، وما دام صوته يمتد إلى كل الفقراء والمضطهدين. لهذا سيكون موقفه بالطبع موقفا بطوليا ملحميا. فلما يئس أبو ذر من فعل المهادنة والطاعة والصمت عند فقراء المدينة، لجأ إلى الفعل ليبرهن لهم أنه بالفعل وحده تتحقق الأهداف. ويعد فعل أبي ذر هذا تجليا لغاية الأبعاد الملحمية في الإبداع: أي تصدير الثورة.

إن المسرح الملحمي عند بريخت يجعل من التغريب وسيلة لتحقيق الثورة على كل الهياكل الاجتماعية والسياسية المتعفنة. فليس كافيا أن يشارك المتلقي في الفعل المسرحي داخل قاعة العرض، لأن الأهم من ذلك أن يؤدي الفعل المسرحي إلى الفعل الواقعي، وإلى الفعل الذي يحقق المساواة والعدل في المجتمع. ومن ثم فالفعل الملحمي يتحقق في مسرحية "ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري" عبر رد فعل أبي ذر تجاه صمت سكان المدينة. وهو رد فعل يأخذ صبغة التحريض :

الكورس : الطاعة شيء هام، لكن.. طاعة من؟ ولمن؟...

تتحول

لا أتحول

تتذمر

أتذمر

تتمرد

وتتعهد

أتعهد([16]).

وحتى يعري السيد حافظ الواقع الطبقي في مدينة "فردوس الشورى"، يلجأ إلى كشف عورات السلطة المتعفنة. فالسلطة تحارب بكل الوسائل لإيهام الناس بالعدل والتقى، معتمدة في ذلك على أتباع يروجون الزيف ويبثون الرعب والشك بينهم لتغطية عورات المجتمع، وهي أسلحة تعتمد على ثنائية الوجه والقناع. فالوجه واجهة تخص بها السلطة أقرباءها ومن والاها. أما القناع فهو الواجهة التي تواجه بها عامة الناس. وهي واجهة تأخذ أصباغا حربائية متعددة. غير أن هناك وجها ثالثا يربط بين الوجه الأول والقناع، ويتمثل في الفكر الشقي([17])الذي يقف حائرا بين السلطة والشعب، ويرمز له المؤلف في المسرحية بأصحاب اللحى البيضاء. فهم يعرفون أن السلطان أبا المجون غير عادل، كما يعرفون أن أبا ذر ينادي بالعدل والحق، ولكنهم يقفون رغم ذلك عاجزين عن المواجهة والفعل.

ولما كان العامل الاقتصادي هو الركيزة الأساسية المتحكمة في نوعية المجتمع وطبيعته، فإن السيد حافظ يأبى إلا أن يجعله السلاح الناجع في احتدام الصراع الطبقي، بل يصبح هذا العامل نفسه السلاح الذي يستغله السلطان فاتك لغايتين: الأولى، وتكمن في الضغط على عامة الشعب عن طريق الزيادة في رواتب الجنود والولاة؛ إذ كلما قرب السلطان مساعديه إليه، كلما زاد ضغط هؤلاء المساعدين على الشعب. وتكمن الغاية الثانية في إغراء رجال الدين بالمال والولائم حتى يؤثروا في عامة الناس. ولعل تصريح السلطان فاتك التالي غني عن كل تعليق (وهو وصية من أب لابنه):

السلطان: يا بني.. افعل ما شئت لكن أم الناس يوم الجمعة وأنت معطر وامسك في يدك مسبحة، وأطلق البخور وتمتم. الوالي العاقل يفعل ما يشاء في الخفاء، وأمام العامة يخرج في ثوب شفاف كالضوء، يتصدق ويصلي ويبني المسكن والمسجد. هل تفهم يا بني؟؟ حين تزور بلدا مسيحيا ابن كنيسة وبارك المسيحية وادع إلى جوارك شيوخ المساجد ولا تنسهم في الولائم، وأبسط لهم يديك الكريمتين ليطووا العامة تحت أذرعهم وأجنحتهم الكثيفة فيهتفون لك ويدعون لك، وبذلك تضمن السيطرة عليهم وتأسر قلوبهم وعقولهم، وأرسل عيونك في كل المساجد لينقلوا إليك حوار الشيوخ، وكلامهم، وثرثرتهم وما تبطن ضمائرهم... فإذا وقف ضدك شيخ قولا أو فعلا، فانفه، وشرده واجعله الزنديق المارق. والعاقل من يفهم من أنت...

غير أن السلطان إذا كان قد استطاع أ، يضرب على عامة الناس بيد من حديد ليسلط عليهم كل أنواع القمع والجور، فإنه لم يستطع –في مقابل ذلك – أن يفلت هو نفسه- من سلطة أقوى ظلت كذلك تطارده فتقلق راحته وتصادر كل ما حققه من جبروت وتعال.. ولهذا يلجأ السيد حافظ مرة أخرى إلى تكسير الفضاء المسرحي التقليدي، فيوظف تقنية الفلاش باك عن طريق الحلم. فإذا كان أبو ذر قد لفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل في أحضان زوجته وبين رفاقه وهو يدعوهم إلى الثورة على الظلم، فإنه يظهر مرة ثانية حيا يتابع نضاله ومواجهته للسلطة الفاسدة من أجل هؤلاء المستضعفين.

وهكذا يستعين المؤلف بتقنيات ملحمية ليدعم هذا التكسير، فيوظف التباعد المسرحي ليجعلنا مباشرة أمام فكر أبي ذر الثوري، إلا أن هذا الفكر سرعان ما يتحول حقيقة –كابوسا- لا يراها إلا السلطان، لأنه المعني بالأمر أولا وأخيرا. فهو المسؤول المباشر عن كل ما يحدث من تصدع وتناقضات في مجتمع دولة "فردوس الشورى".

ويبدو أن استعانة المؤلف بالتباعد أمر يتطلبه الفكر التقدمي الذي تزخر به المسرحية، ذلك بأن الغاية من وراء هذا التباعد هي جعل القارئ يحس بالمفارقة والغرابة في الأحداث. وتتمثل هذه الغرابة في تكسير المعادلة المعروفة عند عامة الناس وهي أن الموت=فناء.

غير أن السيد حافظ يغرب هذه المعادلة لتصبح كالتالي:

 

الموت = حياة                   موت الفرد = حياة الشعب

 

                                  أبو ذر

الحياة = موت                  حياة الفرد – موت الشعب.

 

         السلطان

فموت أبي ذر تعطي الحياة للفكر الثوري، ومن ثم الحياة لكل الفئات الشعبية المقهورة. فموته استشهاد من أجل استمرار الآخرين من طينته. أما حياة السلطان، فتعني موت هذا الفكر الثوري: أي موت هذه الفئات الشعبية، لذا فموت أبي ذر ساهم في خلق نفس جديد في مجتمع فردوس الشورى المضطهد لأن السلطان كان يعتقد أن زمن القلاقل والاضطراب والكوابيس قد انتهى بموت أبي ذر. إلا أنه سرعان ما يفاجأ بأن زمن هذه القلاقل والكوابيس قد أعلن بدايته الجادة. فهذا أبو ذر الذي كان يظنه ميتا إلى الأبد عاد وهو أكثر قوة وإصرارا على المواجهة، لأنه لم يعد مخلوقا حيا متجسدا، ولكنه صار شيئا معنويا يقلقه ويسلبه كل نعمه حتى الخاصة منها، إذ استوطن فراشه وأحلامه حتى أمسى كابوسا لا يفارقه لحظة. وما زاد في هول هذا الكابوس أن عيون السلطان وجواسيسه لا تستطيع فعل أي شيء من أجله. بل صار هؤلاء الأعوان والجواسيس يعمقون هذا الإحساس بالخوف عند السلطان حين كانوا يعتقدون أن سلطانهم قد جن، وإلا فلماذا يهذي بأبي ذر وهم الذين يعرفون أن هذا الرجل قد مات وانتهى.

ومن المؤكد أن توظيف المؤلف لتقنية التباعد وسيلة لجعل القارئ يدرك المعادلات المنطقية المألوفة بشكل مركب وغريب، حتى يتسنى له إدراك غرابة الواقع ولا منطقية العلاقة السائدة فيه. فالغرابة إذن جزء من واقع دولة فردوس الشورى. لهذا فعلى المتلقي أن يكشف عنها لأنها تعكس التناقضات السائدة.

وتمتد هذه الغرابة إلى حاشية السلطان نفسها، لأنها ألفت رؤية تلك التناقضات حتى أصبح السائد في عرفها هو الحقيقة ومطالبة الجماهير الشعبية بحقوقها نشازا وبدعة. لذلك فحينما يصرخ السلطان مستنجدا بهذه الحاشية من أجل إنقاذه من أبي ذر، تتعجب من هذا السلوك ويأتي تفسيرها له غريبا وكاريكاتوريا في نفس الوقت؛ ولكنه إلى جانب ذلك يكشف عن جوهر التفكير عنده هذه الفئة من الناس كما يبين هذا الحوار:

السلطان: ..............

        النار، النار تلتف على عنقي.

يا حراس، أغيثوني، أدركوني، يا حراس، النار تلتف على عنقي....

كبير الحراس: ماذا؟؟ ماذا تقول يا مولاي؟؟

أبو المجون: أبو ذر؟؟ ماذا تقول؟؟

(يدخل)

ماذا حدث يا أبتي

السلطان: أبوك يا ولدي كان يحلم

أبو المجون: بأي شيء؟؟ ما الخبر؟؟ هدئ من روعك.. اجلس يا أبتي

كبير الحراس: أكلت كثيرا يا مولاي؟؟

السلطان: اخرس.. إنها كلمة أبي ذر: أكلت كثيرا والفقراء جياع..

كبير الحراس: الأحلام مصائب منها الصائب والخائب.. مولاي.. أرجو أن تستريح([18]).

فكبير الحراس يفسر مسألة ظهور أبي ذر في حلم السلطان بكونه أكل كثيرا، وهو يقصد بالأكل طبعا الطعام العادي، إلا أ، هذه الجملة تفيد أكثر من هذا المعنى الساذج عند كبير الحراس. فإذا كان كبير الحراس هذا يقصد إلى أن معدة السلطان لم تستطع هضم كل أنواع المأكولات التي تصلها، فإنه في الحقيقة يعكس وعيا اجتماعيا محددا يفسر الظواهر انطلاقا من الموقع الاجتماعي الذي يحتله الفرد، وهي مسألة منطقية على كل حال. غير أن المؤلف في إيراده لهذا الحكم/ الجملة/: أكلت كثيرا يا مولاي"؟؟ يهدف إلى تكسير المعنى الساذج ليشحن من خلاله ذهن القارئ بالأسئلة حتى يساهم في إيجاد الأجوبة عما أكله السلطان: هل أكل كثيرا من أموال الناس؟ هل أكل كثيرا حتى جاء العقاب في شكل حلم؟ هل أكل كثيرا حتى صار لا يعقل ما يفعله فاختلط عليه الواقع بالحلم؟ هل أكل كثيرا وقد حان أوان الجوع ورد ما أكله للآخرين؟ إلى غيرها من الأسئلة التي قد يسألها القارئ وهو يفسر سؤال كبير الحراس.

ويبدو أن المؤلف قصد إلى تغريب الحوار المسرحي حتى يحرر القارئ من سكونية القراءة. فالمسرح الملحمي يخاطب ذهن المتلقي من أجل أن يجعل منه إنسانا فاعلا متحركا، وليس إنسانا جامدا يستوعب الأحداث والأحكام دون مناقشتها.

والملاحظ أن تغريب الحوار والأحداث وخلق تباعد مسرحي بين الحلم والواقع أو بين الواقع والحقيقة يرتبط جدليا بالاسم الذي أطلقه المؤلف على البؤرة الأولى "التفسير". وأعتقد أن تسمية هذه البؤرة بهذا الاسم يهدف إلى تأكيد الفعل الملحمي عبر جعل القارئ أمام مجموعة من الظواهر والأحداث والحوارات والمشاهد التي تعد في حد ذاتها أبعادا إيجابية، كأنها إلغاز –أو أحلام- تتطلب حلولا وتفسيرا. وما حلم السلطان إلا لغز من هذه الألغاز المشكلة للبؤرة الأولى. فكأن السيد حافظ يضع القارئ عمدا أمام ظاهرة الغرابة ليصبح مطالبا بتفسيرها.

كما أن تسمية الفصول باسم البؤرة يؤكد ما نذهب إليه. فمصطلح البؤرة يرتبط بمعنى الخزائن من حفر ومطامير وآبار وغيرها. أي أنها الخزان الذي نختزن فيه أشياءنا. وكأن هذه البؤرة خزان للأسئلة المقلقة التي يستغلها القارئ حين يتطلب الظرف ذلك. ومن جهة أخرى يرتبط مصطلح البؤرة بمفهوم آخر هو موقد النار. وهذا يعني أن المؤلف يجمع بين هموم شعب دولة فردوس الشورى، وهموم القارئ لتصبح الأحداث بركانا من الأسئلة المحرقة، ونيرانا تحرق الشعب بالغلاء والقمع والاضطهاد، كما تحرق السلطان بالكوابيس والقلق وعدم الراحة والاستقرار.

ويأبى المؤلف إلا أن يربط بين البؤر الثلاث بطريقة جدلية، لأن تفسير الحلم في البؤرة الأولى يؤدي إلى الإدراك، وهو الاسم الذي أطلقه على البؤرة الثانية. فتفسير الحلم لا يؤدي إلى معرفة حقيقة الصراع داخل المجتمع ما دام التفسير يخضع للتخمينات والتأويلات والتخريجات. ولما كانت التناقضات السائدة في مجتمع فردوس الشورى تحتاج إلى فهم واع وإدراك عقلاني، فإن المؤلف جعل أحداث البؤرة الثانية تدور حول وعي الفئات الشعبية بحقيقة الصراع، وبخلفيات السلطة وموقفها بأبي ذر وفكره الثوري. إلا أن الإدراك لا يكفي لتعرية الواقع المتعفن والمساهمة في تغييره. لذلك فإن السيد حافظ يعنون البؤرة الثالثة باسم "الموقف" وهو عنوان يشكل تركيبا للبؤرتين.

 فتفسير الواقع وإدراك تناقضاته لا يكفي لخلق الواقع الجديد. لهذا جعل المؤلف أحداث البؤرة الثالثة "الموقف" هي البديل لكل تلك التناقضات السائدة، إذ إن الأمر يحتاج إلى موقف عملي: أي إلى فعل وممارسة، وليس إلى معرفة أو إدراك لتلك التناقضات فقط. ومن ثم يصبح الفعل جماهيريا لأن فكر أبي ذر قد وصل إلى عامة الناس الذين أصبحوا كذلك مسؤولين عن ترويجه والدفاع عنه. فأبو ذر لم يمت، ولكنه حي بأفكاره ومواقفه: حي بالناس ومع الناس.

الكورس    =   لا... أبو ذر لم يمت. إنه حي بين الناس.

إنه بينكم أيها الناس، انظروا ها هو أبو ذر.

فتشوا عنه.. إنه بينكم.. أبو ذر بينكم، فتشوا عنه واحموه.

إنه بينكم.. أبو ذر بينكم أيها الناس([19]).

إن السيد حافظ يعطي لمسرحيته "ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري" أبعادها المستقبلية التبشيرية، من خلال موقف الناس أنفسهم بعدما استوعبوا فكر أبي ذر، ودخلوا مرحلة التطبيق: أي مرحلة العمل الثوري.

وحتى نعطي صورة عن هذا الارتباط الجدلي بين البؤر الثلاث، نقترح الرسم البياني التالي. وهو رسم يجسد البعد الملحمي في المسرحية: 

البؤرة الأولى = التفسير          الواقع                        التأويل

 

البؤرة الثانية = الإدراك          الواقع                الفهم (وعي نظري)

 

البؤرة الثالثة= الموقف      الواقع             الفعل=

           (وعي عملي = ممارسة)

اختفاء وظهور أبي ذر الغفاري

 

فكما يبين هذا الرسم، نلاحظ أن البؤر الثلاث تنتهي بقلب عنوان المسرحية، إذ بدلا من ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري، نقترح عنوان "اختفاء وظهور أبي ذر الغفاري"، لأن الاختفاء الذي يأتي بعد ظهور قد يفيد معنى الموت الحقيقي، في حين أن المسرحية تفيد معنى استمرار أبي ذر كما رأينا. لهذا نرى أن الظهور هو الذي يلحق الاختفاء. وهكذا نقترح عنوان "اختفاء وظهور أبي ذر الغفاري" حتى يتحقق الفعل الملحمي من خلال النزعة التبشيرية، وتظهر النزعة التبشيرية في البؤرة الثالثة بخاصة، وهي المعنوية "بالموقف"، ذلك بأنها تتميز عن البؤرتين السابقتين بالوعي العملي: أي بالظهور المستمر لفكر أبي ذر الثوري.

ومن المؤكد أن هذه النزعة الملحمية في منهج السيد حافظ ترتبط بالنزعة الواقعية. وهو أمر عادي وطبيعي مادام المسرح الملحمي مسرحا عقلانيا واقعيا ملتزما. وواقعيته تتجلى في تعرية الواقع العربي المتعفن. فحتى وإن كثرت الهزائم والنكسات المتتالية التي تمنى بها السلطات العربية المهزوزة، نجد هذه السلطات غير عابئة بما سيؤول إليه مجتمعها، فتتمادى في تهالكها الحيواني على الملذات والاستبداد والقمع. ويعتبر أبو المجون بن السلطان فاتك نموذجا لهذه السلطة المريضة التي يعشش فيها مرض اللذة، والقمع غير الإنساني للحق والمشروعية:

أبو المجون = (ضحك وصخب) أضاجعها في حمام الخمر، وأسمع الشعر وأغني بالفم السكران، وأدوس بقدمي على صدرها، وأحلم بالمطر، وأظل بركبتي على صدرها حتى تسعل سعالا أصفر، (يدخل خبير التشويه والاختلاق، يراه السلطان فيوقف الغناء).

خبير التشويه = مولاي الأمير.

فاتك = قل ولا تزد.

خبير التشويه = طاف الجواسيس بالأزقة، قابلوا باعة الخبز وصانعي النعال، وانطلقوا كالخيول الراكضة في عيون المدينة، وسمعوا الأصوات الحاقدة، وسندوا رؤوسهم على ضلعات الأبواب والنوافذ واشتموا رائحة الرجال والنساء والأطفال، وإليك التقرير. (يقدم له لفافة يفتحها أبو المجون ويقرأ، ثم يلتفت إلى فرقة الفتيات الجميلات).

أبو المجون = غناء، غناء يا فجر([20]).

ويأبى التزام السيد حافظ إلا أن يجعل من أبي ذر يمتد في كل فكر ثوري قام لمناهضة الرجعية، لهذا فلما كان أبو المجون يحافظ على نهج سياسة والده فاتك، فإن أبا ذر يأبى من جهته إلا أ، يستمر في إقلاقه والظهور له في الحلم كابوسا مرعبا. فأبو ذر إذن كما يقدمه المؤلف إنسان ملتزم بمواقفه الثورية تجاه كل القوى الرجعية، ويروج أفكاره في كل مجتمع يشبه مجتمع فردوس الشورى.

إن النص كما هو واضح يضفي صفة الإنسانية على شخصية أبي ذر، وذلك لتجاوز النزعة الإقليمية، لأن الإبداع الإنساني الحق هو الإبداع الذي يجد فيه الإنسان –أينما كان- همومه ومعاناته. فمعاناة سكان فردوس الشورى هي معاناة الإنسان المضطهد طبقيا وسياسيا في كل مكان وكل زمان. فإذا كان لكل زمان فاتكه وأبو مجونه([21])، فإن لكل زمان كذلك دراويشه ومهمشيه. وبالطبع فأبو ذر موجود في كل هذه الأزمنة بالمرصاد لكل القوى المستغلة (بكسر الغين).

فصفة الالتزام إذن تستمد أصالتها عند السيد حافظ عبر الواقعية نسها. لذلك غالبا ما يظهر صوت المؤلف صارخا من خلال الكورس، كما في الحوار الجماعي الذي هو صوت الشعب نفسه، هذا الشعب الذي لم يستطع التعبير عن همومه نظرا إلى الحصار المفروض عليه. فما كان على المؤلف إلا أن يصرخ باسم الكورس معبرا عن هموم الجماهير المقموعة في وجه رجال القمع:

الكورس: = هذا هو السؤال، ما بيننا وبينكم هو السؤال، الحكم شورى أيها الرجال. لكن لمن؟ وبين من؟ وضد من؟ هذا هو السؤال.

والفقراء يطلبون منكم الإجابة وفق الذي قد جاء في القرآن، ما قاله النبي والصحابة. نحن نجوع والملثمون والعيون تملأ العيون وتملأ الخزينة وتأكل الأموال. هذا هو السؤال. ما بيننا وبينكم هو السؤال. فسيفكم على رقابنا وخوفكم على بيوتنا والسيف فيه من دمائنا بقية وترف والخوف فيه من بيوتنا مهانة وعسف، لمن تكون هذه الأغلال، هذا هو السؤال... ([22]).

ومن المؤكد أن تدخل المؤلف في أحداث المسرحية له ما يبرره إيديولوجيا. فالسيد حافظ يسعى إلى تسييس القارئ الشعبي بعيدا عن الرموز المكثفة، كما هو الشأن مع بعض المسرحيين العرب الذين غالوا في الاستعانة بالرموز التراثية، حتى ضار القارئ البسيط مضطرا لفك الألغاز بدلا من أن يكون قارئا للنص المسرحي. بيد أن المؤلف وإن كان يجعل من مسرحه مسرحا عقلانيا في تعامله مع التغريب الملحمي، فإنه يفعل ذلك من خلال المستوى الجمالي في المسرحية دون المستوى المعرفي: أي أنه يساهم في إقلاق القارئ حتى يحرك قدراته الذهنية عن طريق الكيفية التي طرح بها القضايا.

أما شخصيات المسرحية، فتبقى شخصيات إجرائية. وهذا يعني أن السيد حافظ يتعامل مع التراث باعتباره مواقف وأفكارا، وليس أحداثا أو حالات ثابتة وجامدة. ومن ثم، فأبو ذر الغفاري في المسرحية لم يعد ذلك الصحابي الذي ظل يردد صيحته المشهورة: "والله إني لأعجب لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"، ولكنه أصبح رمزا لكل إنسان رأى الظلم فلم يسكت عنه، ورمزا للمناضل الذي وهب نفسه من أجل الآخرين.

فالتراث عند السيد حافظ أصبح معطى ذاتيا بعدما كان معطى موضوعيا، لأنه أضفى عليه موقفه الخاص، مادام كل دارس أو مبدع يملك ذلك الحق في قراءة التراث والتعامل معه انطلاقا من رؤيته للعالم التي تلخص موقفه الإيديولوجي. لهذا فقد تعامل المؤلف مع شخصية أبي ذر الغفاري تعاملا عقلانيا معاصرا حين جعل منها إنسانا مناضلا يحمل أفكارا ثورية.

 وهذه القراءة تشبه قراءة ممدوح عدوان لشخصية أبي ذر الغفاري في مسرحية "كيف تركت السيف". فممدوح عدوان أيضا عمل على تثوير أبي ذر الغفاري ليصير بذلك لسان كل الكادحين. إذ إن أبا ذر ممدوح عدوان ظل يواجه الأغنياء والولاة والخلفاء دون أن يفهم أن النضال فعل جماعي يكمن في الممارسة مع الجماهير الشعبية. لهذا نلاحظ نوعا من الفرق بين موقف أبي ذر ممدوح عدوان وبين أبي ذر السيد حافظ، رغم تقارب طروحات المبدعين تجاه الغاية من استحضار هذه الشخصية التراثية. وحتى نبين الفرق بين موقف كل منهما نورد مثالا عن كل مسرحية، ولنبدأ بمثال مسرحية "كيف تركت السيف":

أبو ذر: ها أنتم تعترفون. لقد استشهدت في سبيل الحق.

المجموعة: لكنا نحن الفقراء نحتاج إلى أبطال، لا نحتاج إلى شهداء.

أبو ذر: ما معنى هذا الكلام؟ أنتم دائما تحتاجون.. تحتاجون.. تحتاجون. قولوا لي متى تفعلون؟ إلى متى ستظلون منتظرين قابعين في بيوتكم حتى يضع الآخرون لكم كل شيء؟ إلى متى تظلون ترددون أخبار المجاهدين ولا تجاهدون؟ إلى متى تبكون على الشهداء ولا تفعلون شيئا؟

المجموعة: كنا بركانا ينتظر شراره وأبو ذر كان شراره، لكن شرارته ابتعدت عنا فتلاشى.. لم تلحقنا منه حرارة.

أبو ذر: أبدا كنتم حطبا رطبا لا يصلح للاشتعال.

الأول: اسمع يا سيدي، أنا رجل مجهول. واحد من فقراء الناس. أنا لا أعرفك.

أبو ذر: لا تعرفني؟

الأول: هل رأيتك يوما؟

أبو ذر: ليس مهما. يجب أن تكون قد رأيتني. يجب أ، تكون قد سمعت بي وبجهادي كنت موجودا في كل مجلس.

الأول: كنت موجودا في قصور الأغنياء تنافحهم. كنت موجودا في حضرة الوالي والخليفة تجهر برأيك. كنت تعلن رأيك في مجمع الصحابة. لكنك لم تأتني في يوم من الأيام ولم تقل لي: هيا يا عبد الله، امتشق سيفك وتعال معي تنقذ ما قاتلنا من أجله في بدء الدعوة([23]).

أما أبو ذر السيد حافظ فثوري اختلط بالجماهير الشعبية وعمل على تثويرها. كما ظل يطارد السلطة ويقض مضجعها إذ نزل إلى الشارع وصار يدعو الناس إلى الثورة على الظلم والجور بالرغم من أن صوته لم يلق آذانا صاغية أثناء حياته.

أبو ذر: (يخطو نحو المسرح) جئت لأنذركم: أنه عصر الموت للروح، هل تذكرون يا أصحابي كيف ينفيكم الخوف وأنتم في بيوتكم تتضورون جوعا وتنامون على الحزم والفقر والحاجة. (أصوات متداخلة).

أبو ذر : يا أبا ذر، يا أبا ذر، يا أبا ذر أنقذنا من منفاها.

: الخوف أم الموت؟!

: الصمت أم القهر؟

: لا فرق...

: العلة ن تتركنا حتى يسقنا الخوف أو الموت

: أو الصمت أو القهر.

: أو... (يتلعثم).

: يا أبا ذر.. الكلمة حشرات في الحلق..

أبو ذر : (يصعد أبو ذر إلى خشبة المسرح) قد كنت أحلم بالكلمة –السيف بالكلمة – السوط في يد المظلوم تقلم أظافر الظالم لكن.. ([24]).

إلا أن هذا الصوت قد وصل بالفعل إلى آذان الناس لاسيما بعدما مات أبو ذر، وصارت أفكاره تروج بينهم حتى أضحت هذه الشخصية تحل في كل إنسان يؤمن بالعدل والمساواة والحق. لهذا يضعنا السيد حافظا أمام مشهد كاريكاتوري نقدي مثير في البؤرة الثانية حينما يصبح أبو ذر شخصيات متعددة، فيحتار القاضي في اختيار المتهم. بل يؤكد المؤلف هذا الطابع الكاريكاتوري الملحمي حينما يصبح القاضي الفاروق نفسه هو المتهم أبا ذر. وفي هذا الطرح المركب إشارة ذكية إلى النزعة الجماعية الشعبية في فكر أبي ذر، هذا الفكر الذي يستمر مع الإنسان في كل مجتمع يسوده الظلم والطغيان. فإذا كان أبو ذر قد حل في شخصية القاضي سيف الدين الفاروق، فإنه يحل كذلك في كل إنسان حر شريف يحلم بالعدل والمساواة.

كورس 2: وقال البعض إن أبا ذر حي، والبعض الآخر قال إنه ميت.

كورس 3: لكن ظهور أبي ذر واختفاءه ما زال لغزا...

رئيس الشرطة: يا مولاي راقبنا سيف الدين الفاروق عدة شهور في الخفاء، وتأكدنا أنه صار فقيرا، لكن بعض الناس يسعون إليه، ويحملون له الطعام، والبعض الآخر يتحدث عنه على أنه بطل تحدى السلطة والسلطان، وفريق ثالث يلعنه لأنه كان ضدك.

أبو المجون: صدقني يا رئيس الشرطة. إن روح أبي ذر الغفاري قد تقمصت هذا الرجل. إنني أشعر بالحزن من أجله.. وأرثي لحاله.. لكن.. الكرسي.. كرسي الحكم له ضحاياه..

الكورس: كان أبو المجون في حالة سكر حينما قال هذه الكلمات، والإنسان في حالة السكر غيره في حالة اليقظة.. فالنوم واليقظة مدينتان..

أبو المجون: لكن التقرير يقول إن أبا ذر حي.

الكورس: لا.. أبو ذر مات.

أبو المجون: أبو ذر مات.

الكورس: لا أبو ذر لم يمت.. إنه حي بين الناس.. إنه بينكم أيها الناس.. أنظروا.. ها هو أبو ذر فتشوا عنه إنه بينكم.. أبو ذر بينكم... فتشوا عنه واحموه، إنه بينكم.. أبو ذر بينكم أيها الناس([25]).

وتظهر صفة الالتزام بارزة في المشهد الثالث من البؤرة الأولى حينما يعري المؤلف تناقضات الواقع المتأزم. فقد أصبحت مدينة فردوس الشورى مدينة حزينة يأكلها الفقر والغلاء وتسلط الشرطة السرية. لكن مع ذلك، فصوت أبي ذر يدوي في آذان هذه الفئات المقهورة. وكأني بالمؤلف يؤكد مدى خطورة العامل الاقتصادي في إذكاء الوعي السياسي عند الناس. غير أنه إلى جانب ذلك هناك مسألة أساسية في طرح السيد حافظ لمسألة الصراع الطبقي، تكمن في النزعة الإسلامية في المسرحية.

ونحن حين نثير هذه المسألة إنما نريد أن ننبه إلى خطإ ما يعتقده كثير من الناس من أن النزعة الواقعية والالتزام من الصفات التي ظهرت مع الحركات التحررية المعاصرة. بيد أن السيد حافظ في مقابل ذلك يؤكد أن الفكر الإسلامي يختزن مواقف واتجاهات ثورية متقدمة جدا. وما أبو ذر الغفاري إلا صوت من هذه الأصوات المسلمة التي ربطت الكلمة بالفعل وهي تستمد مواقفها من الإسلام الصحيح للتصدي لكل التصدعات والمصادرات. لذلك نجده كثيرا ما يصحح المفاهيم الخاطئة بمنطلق إسلامي تحرري، كما يظهر مثلا في تأكيده بإلحاح قضية ربط الدين بالدنيا وحثه على المساواة والعدل والحرية:

رئيس الشرطة: ماذا كنت تقول؟

الرجل: كنت أحاور صديقي.

رئيس الشرطة: ممنوع الحوار، اذهبوا إلى المساجد وتحدثوا في أمور الدين ودعوا السياسة للسياسيين، والدين هو كلامكم!!

الرجل: الدين للدنيا.

الرئيس: الدين للآخرة.

الرجل: الحق أن أفهم...

الرئيس: ما معنى الحق؟

الرجل: الله هو الحق؟

الرئيس: ما معنى الحق؟

الرجل: العدل.

الرئيس: ما معنى الحق؟

الرجل: المساواة.

الرئيس: ما معنى المساواة؟

الرجل: أن يختفي الظلم...([26]).

وتظهر النزعة الإسلامية في النص كذلك من خلال توظيف المؤلف لمجموعة من المصطلحات والمفاهيم الإسلامية. وأول ما يثير انتباهنا في المسرحية هو اسم أبي ذر الغفاري. ومن المؤكد أن تعامل النص مع شخصية ما لا يمكن اعتباره تعاملا اعتباطيا. ومن ثم فإن تعامل السيد حافظ مع شخصية أبي ذر له ما يبرره على مستوى الإقناع الفكري. فهو يستغل ما يزخر به الإسلام من طاقات ثورية –بشرية وفكرية- ليبرهن ألوا على مرونة الإسلام وإنسانية وتقدميته واحترامه لحقوق الإنسان، وليرد ثانيا على كل من يدعي أن الإسلام دين الآخرة فقط، وأن الثورية ترتبط بالحركات التحررية الوضعية ليس إلا. 

فشخصية أبي ذر الغفاري مثال من الأمثلة المتعددة للفكر التحرري في الإسلام. أما فيما يخص المفاهيم والمصطلحات الإسلامية التي وظفها المؤلف في هذه المسرحية فمتعددة. وسنبدأ بذكر بعض المصطلحات الكبرى التي تشكل العناوين الأساسية في النص نحو مصطلحي التفسير والإدراك اللذين عنون بهما البؤرتين الأوليتين في المسرحية. وهما من المصطلحات الفلسفية المرتبطة بعالم المتصوفة المسلمين. وهذا التوظيف يعكس التكوين المعرفي الإسلامي للسيد حافظ.

وإلى جانب هذين المصطلحين الأساسيين، نجد مصطلحات أخرى تعكس هذا الوعي الإسلامي في المسرحية كمصطلح الشورى، والقرآن، والسنة، والدين، ورسول الله، والصحابي، والمسلمين، وخلق الله، والمسجد، وإبراهيم النبي، وإسماعيل النبي، وحبيب الله، والحق والباطل، والضلال المبين، والجنة، وعيسى، وابن مسعود، والراعي والرعية، والملحد، والمارق، والزنديق وغير ذلك من الأسماء والمصطلحات والمفاهيم المتداولة في التراث الإسلامي بعامة...هذا فضلا عن ذلك التوظيف الواضح لمعان قرآنية وأحاديث نبوية كا في قوله: السن بالسن، وكلكم راع* إلخ...

إن النزعة الإسلامية لا تقف عند حدود المفاهيم والمصطلحات في هذه المسرحية، بل تتعداها إلى الموقف نفسه. وهو موقف يؤكد مرونة الإسلام في التعامل مع بعض المناهج المعاصرة ومنها المنهج الملحمي، ذلك بأن الملحمية في النص لم تعد موقفا إيديولوجيا يخاطب طبقة خاصة من أجل خلق وعي إيديولوجي محض كما هو الشأن مع المبدع المسرحي الملحمي بريخت، ولكنها أضحت مع السيد حافظ موقفا إنسانيا تقدميا شاملا. وفي هذه الشمولية دعوة صريحة إلى إنسية الإبداع مادامت القضية قضية عامة الناس، وليست قضية طبقة أو شريحة اجتماعية من الناس فقط.

ويبدو أن هذه النزعة الملحمية الشعبية الشاملة هي التي كانت وراء خلق حوارات يطغى عليها الطابع التحريضي المباشر. وقد أشرنا إلى أن مثل هذه الحوارات غالبا ما يترجم صوت المؤلف نفسه عبر الكورس أو المؤدي، كما في كثير من الأمثلة التي نورد منها على سبيل التمثيل ما يلي:

الكورس: سنقف كالبنيان المرصوص.. (غناء درامي) لا بد أن تقاوموا ونحن أيضا.. لابد أن نقاوم وأنتم وأنتم يا جميع الناس لا بد أن تقاوموا...

.........................

المؤدي: يا جميع الناس لا بد أن تقاوموا، لابد أ، تزاحموا، حذار أن تساوموا فالسن بالسن والعين بالعين، تدافعوا لتدفعوا الظلام ولا تخافوا سطوة الظلام، فكلكم راع وكلكم رعية للحق والحرية...

...................

(الكورس ينقسم إلى مجموعات صغيرة) (الخطباء يواصلون الحوار).

خطيب 1: الخوف؟

الجمهرة: سنقلته.

خطيب 2: والصمت؟

-: سنقتله

خطيب 3: والخنوع؟

-: سنقتله([27]).

......................

والحقيقة أن السيد حافظ يملك من الشفافية ما يجعله قادرا على تفادي مثل هذه الحوارات التحريضية المباشرة، لأنها حوارات تجعل من المسرح شعارات تخاطب المشاعر والأحاسيس، بالرغم من أنه وظف منهجا يخاطب العقل قبل الأحاسيس. ونحن نعتبر أن مثل التعامل الحماسي يقتل البعد الدرامي في المسرحية، لأن القارئ ليس بحاجة إلى مثل هذه الخطابات الحماسية حتى يفهم البعد السيميائي للحوار المسرحي. ونعتقد أن المؤلف استعان بهذا الأسلوب لاعتقاده أن التحريض هو أنجح الأساليب لتحقيق التواصل في مثل هذه الموضوعات ذات الطابع الجماهيري. إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن كل خطاب انفعالي لا يمكنه أن يصل إلى إدراك المتلقي ما دام يقف عند حدود المشاعر، والمشاعر كما نعلم تتغير بتغير الحالات والمواقف. أما الإدراك العقلي فهو القادر وحده على خلق اقتناع ثابت.

ومع ذلك فمسرحية "ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري" مسرحية اللغة الموحية والأسلوب الشاعري والصور الشعرية البليغة كما يظهر ذلك في كثير من المشاهد:

أبو ذر: (يصعد أبو ذر إلى خشبة المسرح) قد كنت أحلم بالكلمة –السيف بالكلمة- السوط في يد المظلوم تقلم أظافر الظالم، لكن العالم ما بين تسامح عيسى والنوم على التخمة واللذة علم الظالم أن يلقي من يده بعض فئات المائدة الممتلئة بحساء، دواجن، أو لحم مشوي، أو طير أخرس مقصوص الريش، لكن الطير الأخرس ينهض بعد أن ظل طويلا مذبوحا، حين علق مشبوحا في الحلق منتظرا ضوء الفجر القادم.. أبيض كان... أو أسود كان.. (يتوقف ثم تتغير نبرة صوته) آه.. ما عاد الحاجب يرفع بعد المهادنة، ما عادت الشجاعة تظهر بعد الوازنة، ما عادت أحلام الأجراء تطفوا نيرانا فوق ركود الزمن القاتل، يا ويلي..([28]).

وهذه الشاعرية لا تخص البناء اللغوي فقط، بل تشمل البناء الفكري أيضا بفضل ما تتوافر لهذه الشخصية التراثية من خصال تؤهلها لشاعرية الموقف والنضال رغم شراسته. لذا رأى بعض الدارسين "أن البناء الشعري لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التي تنبعث من البناء اللغوي. الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ، وهو نوع من اللغة يبعث في النفس ذلك الحنين، وتلك الوحشة إلى المثل العليا في الوطنية وفي الأخلاق وفي الدين وفي التنظيم الاجتماعي التي تبعثها الصور التراثية الشعبية"([29]).

إن هذا التعامل العصري مع التثار الإسلامي ومع شخصية أبي ذر على الخصوص يذكرنا بالموقف الذي ينص عليه سرفانتيس في روايته الشهيرة دون كيشوط وبالأسلوب الذي نهجه في تعامله مع شخصيته الروائية. فقد تميزت هذه الرواية بطابعها الشاعري، وإن كانت شعرية سرفانتيس نثرية أكثر ارتباطا بالنثر من الشعر([30]).

وتلتقي شخصية أبي ذر مع شخصية دون كيشوط في أنهما بطلان يحلمان باسترجاع قيم في مجتمع منحط، الشيء الذي يجعلهما بطلين إشكاليين. فهناك قطيعة بين أبي ذر وعالم فردوس الشورى، ونحن نعلم أن ما يميز البطل الإشكالي هي تلك القطيعة التي تجعله في تعارض جوهري مع عالمه([31]).

غير أن السيد حافظ لم يقف عند الخصائص التي حددها بعض النقاد لمعنى البطولة الإشكالية، وإنما حاول أن يطورها معتمدا في ذلك على نزعته التجريبية ورغبته في تأصيل المسرح العربي انطلاقا من الإمكانات الخصبة التي يوفرها له التراث. لذلك بدت شخصية أبي ذر متأرجحة بين البطولة الإشكالية والبطولة الثورية. وهذا يعني أنه ظل وفيا لنزعة التجريب التي لا تؤمن بالجاهز والنمطية.

وقد مهد الطريق أمام كثير من المبدعين الشباب الذين انتبهوا إلى وجود ملامح من معنى البطولة الإشكالية في المجتمع العربي، فوظفوها بمنهج تجريبي يتجاوز الأساليب المألوفة في خلق الفرجة المسرحية،  كما هو واضح في كثير من الأعمال المسرحية العربية. ولا أدل على ذلك مما نشاهده من عروض مسرحية حداثية في بعض المهرجانات المسرحية التجريبية، يقدمها مبدعون شباب يجمعهم هاجس التجريب، وهوس البحث عن المناطق البكر في الإبداع. 

ومن المؤكد أن مثل هذه الأعمال بتجريبيتها وطابعها النقدي المتقدم، من بين العوامل الأساسية التي بلورت معنى الأصالة الحق، ومهدت لأسئلة الحداثة في المسرح العربي. كما أنها من جهة ثانية تحمل تنظيراتها بداخلها، وإن لم تفصح عنها صراحة. لذلك جاءت هذه الأعمال منسجمة مع مواقف التنظيرات المسرحية العربية التي تحمل هم تأسيس خطاب مسرحي حداثي، وإن كان مفهوم الحداثة هنا لا يتعارض مع جوهر الأصالة كما بينا ذلك في أكثر من موضع. فالحداثة الحق هي الأصالة الحق في جوهرها كما نعتقد.   

 

 

 

 

 

 

 


 



([1]) المسرحيتان مطبوعتان بسلسلة أدب الجماهير، الإسكندرية، 1972.

([2]) المسرحيتان مطبوعتان في كتاب واحد ضمن مركز الوطن العربي، الإسكندرية، ط2، 1981.

([3]) المسرحيتان مطبوعتان كذلك في كتاب واحد ضمن مطابع صوت الخليج، الكويت، 1982.

([4]) طبعت كل هذه المسرحيات في دار آزال، بيروت، ط1، 1990.

([5])  من مقدمة مسرحية حبيبتي أميرة السينما، ص: 5.

([6])  دراسات في مسرح السيد حافظ، ج1، مطبعة مدبولي، مصر، 1988، ص: 126.

([7])  مصطفى عبد الغني، المسرح المصري في السبعينات، سلسلة المكتبة الثقافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، عدد 428، 1987، 65.

([8])  شارك في تأليفها معه محمد يوسف –مطابع صوت الخليج، الكويت، 1981.

([9])  محمد عزيز نظمي، السيد حافظ بين المسرح التجريبي والمسرح الطليعين مركز الوطن العربي للنشر والإعلام، الإسكندرية، 1988، ص: 17.

([10])  عن ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر للطباعة والنشر، ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، مجلد 4، ط1957، ص: 226.

([11])  ظهور واختفاء أبي ذر، مطابع صوت الخليج، ص: 13.

([12])  الطبقات الكبرى، مجلد 4، ص: 232-233.

([13]) المسرحية، ص: 14.

([14])  المسرحية، ص: 15-16.

([15])  نفسها، ص: 16.

([16])  نفسها، ص: 18-19.

([17])  انظر المسرحية، ص: 57- 58- 59، وقد سمينا هذا الفكر الشقي لضياعه وحيرته بين السلطة والشعب بالرغم من معرفته بالحقيقة.

([18])  نفسها، ص: 26.

([19])  نفسها، ص: 99-100.

([20])  نفسها، ص: 39.

([21])  نسبة إلى السطان فاتك وابنه أبي المجون.

([22])  المسرحية، ص: 51-52.

([23])  ممدوح عدوان "كيف تركت السيف"، دار ابن رشد، بيروت، ص: 116-117.

([24])  مسرحية "ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري-، ص: 16-17.

([25])  نفسها، ص: 99-100.

([26]) نفسها، ص: 66-67.

*  لمعرفة مزيد من معاني القرآن والأحاديث النبوية ينظر مثلا إلى الصفحات التالية 18- 19- 27- 28- 30- 50- 60- 67- 95 من المسرية.

([27])  المسرحية، ص: 74-75.

([28])  المسرحية، ص: 17-18.

([29])  سعد أردش، مقدمة مسرحية "حبيبتي أميرة السينما"، ص: 18.

([30])  Camille Pittolet. Voir Introduction de Don quijote de la mancha série : les classiques pour tous. Librairie. A. Hatier. Paris n°216. T. 1. p. 3.

([31]) Lucien goldman. Pour une sociologie du roman. Ed : idées-gallimard 1975, p. 23.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More