دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(6 )
الشخصيات التراثية فى مسرح السيد حافظ
وظيفتها الفنية والفكرية
بقلم سميرة أوبلهى - المغرب
دراسة من كتاب
إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى
الســيد حــافظ
)نموذجاً(
الشخصيات التراثية فى مسرح السيد حافظ
وظيفتها الفنية والفكرية
مقدمة :
عندما اخترت مجال المسرح لم أكن مهيأة تمام التهيئ لدخول هذا السديم الغريب ، فقد كان ينقصنى جهاز مفاهيمى أتكئ عليه فى التعامل مع النصوص ومع المصطلحات التى أجدها قابعة فى بنية النصوص.
لكن تنصلت عن كل مماحكة أو مجادلة مسبقة لنفسى فانطلقت فى مهمتى مؤمنة الآية الكريمة " وإذا عزمت فتوكل على الله " لم أكن أعرف من الموضوع إلا الاسم " السيد حافظ " كنت قد سمعت به صدفة أو قرأت عنه فى جريدة ربما.. خانتنى الذاكرة ولم أعد أذكر كيف ومتى كل ما كنت أعرفه مسبقاً هو أنى أدخل مغامرة كالفارس الأعزل مجردة من كل سلاح.
لقد بدأت أقرأ وتضخمت لدى لحظة الافتتان للمسرح بالمهمة الصعبة التى يحملها المؤلف على كاهله والإرسالية التى يصوغها ويعمل على تنقيحها وتبسيطها من أجل أن يتلقاها المرسل إليه – الجمهور – هذا إذا كان فى مستوى فهمى وخلخلة البنية الدلالية للإرسالية وفهم وتذوق ما ينبغى فهو إسقاط كل الأوشاب التى قد بضر فى تفسير ملامح البنية الدالة.
لقد آمنت بأن الفرد لابد أن أراد تحقيق هدف ما عليه أن يتسلق جبال المغامرة بل وأن يسلك دروب المخاطرة والمجازفة ولا أدل على ذلك من المؤلف ال كابد الأخوال من أجل أن يكون وسيلة إبلاغ بين ضفتين متباعدتين ، المرسل/ المبدع كمسئول عن وعى الإنسان والمرسل إليه : الجمهور العربى. فى الوقت الذى نفتقد القناة التى نمرر عبرها هذه الإرسالية بعبارة أخرى أن الهدف الذى كانت تتمحور حوله إرسالية الكاتب كانت فى غاية الخطورة لأنه كان يعى تمام الوعى أن إرساليته ستبقى صوتاً دون صدى ورسماً غير مقروءة بل حبراً على ورق لأن المرسل إليه وأعنى الجمهور العربى كان قابعاً فى قوقعته النائية عن أحداث العالم أى أنه كان مغموراً فى اسجاف دياجير الجهالة والرجعية فأى إسالية يتلقى؟ ومع ذلك غامر السيد حافظ ليؤسس مرتكزات ذهنية خاصة ينطلق من خلالها فى تفسير البنى هذا الواقع الذى يرزح تحت سطوة التخلف ولا يريد الخلاص من معمعانه.
كانت هذه أهم المحفزات التى دست بى فى طيات هذه التجربة بالرغم من العراقيل التى واجهتها فى خضم هذا اليم العميق الذى يقال له المسرح فمن جهة قلة المراجع والدراسات النقدية وضيق الوقت من جهة ثانية ، لكن هذه الصعوبات تلاشت بفضل المساعدات الجبارة التى تلقيتهامن الأستاذ المشرف عبد الرحمن بن زيدان الذى أمدنى بكل المراجع التى تهم البحث سواء من داخل المغرب أو خارجه.
العرقلة الأخيرة التى اعترضتنى هى ترجمة بعض الفقرات والتى قد يعتريها النقص بالإضافة إلى ذلك أن ا لمنهج لم ينطلق من صيغة معينة وإنما حاولت قراءة النصوص وربطها بمكيانيزمات الحقل الثقافى الاجتماعى الذى انتجها. بمعنى آخر أقول أن المنهج كان متكاملاً حاولت أن أنطلق فيه من بنى النصوص وأن أربطها بالمحددات الاجتماعية السياسية والصيرورة التاريخية وذلك لتجلية الجوانب الغامضة فى النصوص بفك أوالياتها فى تلك الصيغة التى تربط النصوص كبنية نسقية بالمحيط الاجتماعى لذا اعترف بأن هذا المنهج قد يعتريه بعض النقص ولكن أؤمن أشد الإيمان بالتطور وأن كل نقص هو خطوة نحو الاكتمال بل درباً على طريق النجاح ومحفزاً لتكثيف الجهود، لقد رصدت الوحدات التركيبية للنصوص على اعتبار أن مفهومية النص معنائيته تتحدد من خلال الأحورة التشخصية لأنها تشكل مفتاحاً وتفسيراً لانغلاقية المجتمع بتمثل التجربة الإنسانية بعد اكتناه أغوارها. وكما يقول برتولد بريشت : " إردت أن استعمل على المسرح الجملة القائلة بأن المهم ليس تفسير العالم بل تغييره"([1])
إن مهمة العمل المسرحى أو أى عمل فنى ليس مجرد نقل لاحساسات إنسانية وإنما المغزى يكمل فى التفاعل والاندماج مع هذه التجارب والتعمق فى تفسير وضمونيتها باعتيار المتلقى / المتفرج جزء من هذه الملحمة الكونية التى هى العالم.
هذه الرؤية قد تمثلها السيد حافظ فى نصوصه وهذا ما دفعنى إلى التعامل والتحاور مع النصوص مباشرة.
كل هذه الخطوات والتمهيدات تكمن وراء البنية النسقية التى يتمحور حولها البحث لتتخذ المسار التالى :
فى الباب الأول : حاولت الإحاطة بالطقس الذهنى الذى كان سائداً فى مصر خاصة والعالم العربى عامة ، وذلك قصد موضعة المؤلف داخل هذا الجو المشحون المكهرب وبالتالى استخلاص أهم التليونات الخصوصية التى تميز الكاتب بمعنى آخر أننى حاولت رصد المناخ الاجتماعى بتفكيك ميكانزماته وشرائحه وتفتيت البنية الذهنية أو المرتكز الفنى الذى تمثله درجات الوعى والإدراك الذى تعكسه أى شريحة اجتماعية.
إن السيد حافظ ضمن هذه المقولة يمثل بنية فوقية أى بنية ذهنية لبنية تحتية ذات مناخ محموم ومسحوق تحت سطوة النكسة من جهة وأصوات متداخلة ساهمت بطريقة أو بأخرى فى إبراز ملامح هذه الشخصية وأعطتها مشروعيتها فى اثبت كينونتها وتحديد طموحاتها بعد هذا المدخل الذى حاولت من خلاله تحديد المسرح العربى كهوية حضارية وفكرية وثقافية وموقع السيد حافظ من خلالها انتقلت إلى الفصل الأول الذى حاولت عبره تخليص أهم الممارسات الثقافية التى خاضع لها السيد حافظ والتى أفردت تجربته ضمن الحقل الثقافى المسرحى من بين هذه المماسات أذكر المسرح التجريبى أو مسرح اللامعقول الذى حاول تكريس منظور تغييرى على أنقاض هذه الشبكة المفاهيمية المستوحاة.
فى الباب الثانى : المعنون بأدلجة التراث والبعد الوظيفى للمسرح العربى حيث تطرقت إلى مفهومية التراث بصفة عامة فى علاقته بالمسرح مع تحليل مسرحية " الفلاح عبد المطيع " باعتيارها تجسيداً للتراث المتحرك وقضية الإنسان والوطن ثم فى الفصل الموالى الذى كان عبارة عن مدخل سيكو ابداعى ينطلق من هنا النصوص لتفسير البنية الدلالية فاخترت بعض النماذج التى تصب فى هذا المنظور " حبيبتى أميرة السينما " " ست رجال فى معتقل ".
لذلك فإن الهدف الذى كنت أتغيا من وراء هذه المنطلقات هو اثبات مشروعية كانت اعتماداً على نصوص إبداعية تمثل الوجه الآخر للمؤلف وتبرز أهميته فى الساحة الثقافية.
المسرح العربى : كهوية حضارية وفكرية وثقافية
موقع السيد حافظ فى تجربة المسرح العربى
من المؤكد أن الأدب هو ذاكرة الشعوب ومدونتها التى تحفظ الأحداث البارزة لأمة من الأمم. ومن ثم جاءت أهمية هذا المرجع لأن معرفة مكنونيته تنير لنا ملامح بناته الذين دعموا أصوله. بعبارة أخرى أن دراسة الملامح الفكرية والأدبية تستدعى تحديد الأرضية التاريخية والظروف الخارجية : السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى أنتج العمل الأدبى فى ظلها أنها محاولة لتفسير الظاهرة الأدبية على ذوق السياق الاجتماعى وهى ليست تفسيرات علمية تحاول فقط ربط الأسباب بالمسببات أو تحاول ربط الخيط الفكرى بأصوله التاريخية. بل إن هذه المنطلقات المؤسساتية هى المادى الحية لتفسير نمطية الحساسية الإبداعية للاستناد إلى المرتع الذى ولدت فيه.
وحتى لا نتيه فى هذا البحر الزاخر العميق ولا تضيع المفاهيم فى هذا السديم الغريب لابد لنا من تحديد الحقل الأدبى الذى نود الخوص فيه ، والواقع الذى أفرز لنا هذا الفن بل سمات الدرة الكونية المسماة بالانسان والتى ساهمت فى بلورة هذه التركيبة الفكرية والفنية. لكن من هو هذا الإنسان ؟ وما هى التركيبة الاجتماعية التى ينتمى اليها والتى تمكنا من تحديد هويته الحضارية والفكرية والثقافية ؟
إن الحقل الأدبى المؤطر لهذا البحث هو المسرح كظاهرة فنية برزت على الساحة الأدبية فى العالم العربى فى أواخر القرن الماضى متأثرة بالأحوال الخارجية فى الغرب ومسايرة للمناخ الداخلى حيث الكشف عن هشاشة بنى الواقع التقليدى وضعف تماسكها.
" فعلى الصعيد الثقافى بدت المفاهيم القديمة عاجزة عن انجاب معنى مقبول للوجود الفردى والجماعى مقابل ما وجد عند الغربيين فى هذا الميدان.([2])
فاذا صح القول أن كل واقعة اجتماعية هى واقعة تاريخية فلابد أن يكون الأدب كظاهرة اجتماعية يحمل سمات الفترة التى انتج فيها. وقد عرف العالم العربى فى الفترة الأخيرة حالة متردية عسانى إبانها الإنسان العربى صنوفاً من التعذيب من طرف أجهزة القمع والاستبداد والأساليب الامبريالية الممقوتة لتحطيم مكونات هذه الدرة الإنسانية بل أنسقة الفرد المعنوية.
استناداً إلى هذا المفهوم يمكن تحديد التركيبة الاجتماعية التى ينتمى اليها الإنسان العربى وهى " خانت شعوب العالم الثالث انطلاقاً من مقولة التخلف والتدهور التى ترزح تحتها الشعوب العربية قياساً بشعوب أوروبا وأمريكا والشعوب الاشتراكية.. ففى دروب القهر والاضطهاد يعيش الشعب العربى متدحرج الهوية مهضوم الحقوق يعانى الكبت الاجتماعى والجنسى... أما مجاسه الاقتصادى فيعرف استمرار علاقات الانتاج الرأسمالية والتبعية " ([3])
إن هذه المنطلقات المتكاملة ترسم لنا هوية الإنسان العربى المستلبة نتيجة الصدمات الاستعمارية المتكررة التى تحاول تحطيم هذه الذات وشل مقدرات الإنسان العربى على العطاء بحيث يبقى دائماً تابعاً لا متبوعاً..
غير أن هذه المحددات أو المنطلقات يجب ألا تنسينا حقيقة ثابتة وهى أن التفاعل الحضارى بين الشرق والغرب كان عاملاً مهماً هيأ لمولد المسرح العربى بالدرجة الأولى ، بدءً من غزوة نابليون بونابارت واستمرار التصادم مع هذا الغرب إلى الآن. حيث أتت مساهمة خطوط العصر البيانية الأدبية والاجتماعية كنتيجة منطقية لتطور أى حركة ادبية أو فكرية.
إن نجاح الفن المسرحى كشكل خاص من الحركة الفكرية العربية الواسعة بعثت الحياة فى عصر بكامله وهب من مرقده يكشف لنا عن وجود نفوس قوية كانت تتوق لمسايرة الركب الحضارى الذى سبقها بأجيال عديدة. كما تبرز لنا أن التجربة المسرحية العربية " مع ارهاصاتها الأول " مهدت بشكل أو بآخر لبلورة عصارة هذا الفكر مع الجيل اللاحق.
هكذا ولد المسرح العربى ولم يكن ميلاد صدفة بل ميلاداً ساهمت فى تشكيله عدة مكونات وقد مر بعدة مراحل : مرحل المخاض وجاءت عن طريق تلاقح الثقافة الغربية والعربية فى أواخر القرن 19 ومع انتشار البعثات تلتها مرحلة الوضع مع إخراج مارون النقاش لأول مسرحية عربية هى " البخيل " سنة 1847. بعبارة أدق كما يذهب الدكتور على الراعى : " إن هذا الميلاد كان مؤقتاً، مجرد انبثاق إلى الوجود، ومحاكاة الظواهر الفنية. رآها المثقفون العرب فى بلاد أوروبا فاستوردوها استيراداً إلى بلادهم " ([4])
لقد مثل هذه المرحلة الأولية – والتى تعتبر بحق خطوة تمهيدية – أبو خليل القبانى ويعقوب صنوع. لقد كان الأول صورة متطورة للقاص الشعبى وقد اتخذ المسرح وسيلة لتبليغ هدفه ، وإن كان بناؤه الدرامى بسيطاً لما يشوبه من بعض الخلل فلا ينبغى محاسبته حساباً عسيراً كما فعل زكى طليمات، لأنه يمثل مرحلته كما أن محاكمته يجب أن لا تكون فى غياب البيان الظرفى الذى ينتمى إليه. يقول زكى طليمات عن النص المسرحى لدى القبانى " إن بناءه المسرحى ضعيف حاول تغطيته بالموسيقى والرقص والانشاد ، وكان ذلك سبباً لنشأة البراعيم الأولى لفن الأوبريت فى البلاد العربية "([5]).
إلى جانب القبانى برز يعقوب صنوع وكان ذا حس اجتماعى وشعبى وكانت هذه الصفة سبباً فى استقطابه عدداً كبيراً من الجمهور. وقد أطلق عليه المصريون " مولييير مصر لبدعته فى التمثيل الهزلى وما يقترن به نقد اجتماعى"([6])
بختام هذا الرائد يكون المسرح العربى المجلوب قد تشكلت ملامحه الأساسية واكتمل بقوالبه الثلاثة التى ظل يصب فيها مضامينه من القرن الماضى حتى الآن هذه الأشكال الثلاثة هى :
المسرحية الجادة التى تعتمد النص الأدبى وهدفها تبصير الناس.
المسرحية الانتقادية التى تنطلق من أسس شعبية هزلية وهدفها الإصلاح الاجتماعى.
ثم الأوبريت أو المسرحية الغنائية.
هذا التنميط الذى وضعه الدكتور على الراعى للمسرح إبان هذه المرحلة والذى حدده بثلاثة أوعية دراسية تضمنت الخطوط الكبرى للتجربة الفنية فى بداية هذا القرن. أقول هذه الأنماط الثلاثة لم ت كن خلاصة تجربة أصيلة لأن من بين العوامل التى تحكمت فى بنائها : الترجمة عن النص الغربى.
بعبارة أخرى أن الطابع الذى غلب على هذه الفترة هو التمصير أى أخذ النص المسرحى بكل تقنياته مع محاولة شحن فضاء النص بنكت شعبية لخلق جو مصرى.
ولقد ظل المسرح العربى يقدم مضامينه فى إطار هذه الأنماط الثلاثة إما مقتبسة أو مؤلفة حتى ظهر المؤلف المحلى الذى برزت معه إرهاصات المسرحية الاجتماعية مع فرح انطوان فى مسرحية " مصر الجديدة ومصر القديمة" وابراهيم رمزى فى مسرحية " صرخة الطفل " وواكب نفس الفترة محمد تيمور وقد امتاز على أصدقائه وبالخصوص رمزى بالحوار الدرامى القوى وتفريق مستويات اللغة بين العامية والفصحى.
إن تفتيت مكونات هذه المرحلة يعطينا صورة واضحة عن القفزة النوعية إلى عرفها المسرح العربى. حيث انتقل من حيز الترجمة إلى حيز الإبداع والعطاء الذاتى عبر هذه المسيرة التطورية للحركة الدرامية فى مصر. فيظهر المسرح الغنائى مع رائد كبير كانت له الخطوة الأولى فى تدعيم جذور هذه الحركة وهو الشيخ سلامة حجازى.. كما يعود جورج أبيض من فرنسا الذى " وصفته الأهرام بأنه أول ممثل وطنى وأصولى "([7]). وقد ارتفع على يديه مقام الممثل والنص المسرحى عن طريق التقنيات الحديثة التى استمدها من الغرب وحاول معالجتها بكيفية تلائم بيئتهم ، بعبارة أخرى أن التعبير الأدبى الذى يستمد أطر مرجعيته من هذا الواقع يفسر لنا التطور الذى ظهرت بصماته على التجربة المسرحية على الخصوص " هكذا استكمل المسرح العربى أنواع أطقمه الفنية حين أولى الفنان عزيز عيد اهتماماً كبيراً لفن الإخراج. ففى عام 1923 ظهرت أول فرقة مسرحية نظامية لها طاقم فنى متحمس ومتحد وعلى رأسها عزيز عيد هذه الفرقة هى فرقة رمسيس ، وأعقب هذه الخطوة إنشاء معهد الفنون المسرحية سنة 1931 باقتراح من زكى طليمات ليلغى بعد عام دراسى واحد ويعود عام 1944 باسم المعهد العالى لفن التمثيل العربى"([8]).
إن هذه الرعاية الكبيرة التى يلقاها المسرح والتطور المستمر الذى نستشف من خلاله التصاعد الكبير فى الكم والأبعاد الرؤيوية الجديدة كالمضامين الاجتماعية من مثلاً من حيث الكيف يدفعنا للتساؤل مع أمير اسكندر : " هل نتملك الآن تعبيراً مسرحياً ناضجاً وأصيلاً عن حياتنا المعاصرة ؟ وما هى حقيقة الوضع فى حياتنا المسرحية الآن ؟ وما هى القضايا الفنية والفكرية والتنظيمية التى تشغل بال العاملين فى هذا المجال الحيوى من مجالات الثقافة ؟
إن الجواب على هذه الأسئلة يعطينا صورة قريبة عن الحقيقة القائمة وتواجه المرء فى هذه الحالة مجموعة من الأسئلة تثير عدداً من القضايا : هل تأثر الأدب المسرحى فى السنوات الأخيرة بما تعرضت له حياتنا الاجتماعية من تحولات أساسية هامة. وبمعنى آخر هل استطاع المضمون الدرامى أن يعكس فى اتجاهه الفكرى التطورات الأخيرة فى حياتنا ؟ وهلى استطاعت أشكال المعالجة الدرامية أن تتطور هى أيضاً وأن تساوى التطورات فى المضمون ؟ ثم ما هى طبيعى القضايا التى تثيرها الصياغات الجمالية الجديدة لتلك الأشكال ؟"([9])
إن الإجابة عن هذه الأسئلة المتداخلة تقتضى منا رحلة فى العوالم المسرحية باستشارتنا لعدد من المؤلفين فى هذا المجال الذين يعتبرون علامات بارزة تستحق الذكر بل الدرس والتمحيص . كما تتطلب رصد الظروف المستجدة اجتماعياً وسياسياً فى مصر إبان الثورة وبعدها لأن ذلك سيساعدنا على توضيح معالم الرؤى الجديدة للحركة المسرحية الجديدة المصرية.
بعبارة أخرى لقد شكلت مرحلة النكسة (67) جسراً ضرورياً عبرت عليه البدرة الأولية لتدخل موثقة المسرح. لقد اكتملت هذه التجربة وأصبحت فناً قائماً بذاته بمعنى آخر أصبحت أرضيتها صلبة فأضحت مهمة المؤلفين فى هذا المجال هى البحث عن أدوات تحليلية حديثة تلائم الوضعية الحالية.
إن المقصود بالوضعية هنا هو تلك المواصفات الاجتماعية والسياسية والفكرية كتلك العلاقات الجدلية بين الفكر والواقع ، أى بين البنية التحتية والبنية الفوقية . فلا شك أن الواقع الاجتماعى بعد الثورة الناصرية (52) ونكسة (67) قد اغنى التجربة المسرحية بمخلفات الأزمة فكان هذا حافزاً مهما للكتابة بما طرحته من تساؤلات على ضمائر الكتاب : هل هذه الأزمة عابرة أم أنها مقيمة لاستفزازنا ؟ وطبعاً كانت الإجابة مقابلة هذه الظروف بالتحدى والمغامرة ، نعم لقد غامر الكتاب على مستويين :
من حيث المضمون ساهمت الثورة فى خلق مضامين اجتماعية وسياسية جديدة حديثة لهذا الواقع.
من حيث الشكل كان من الضرورى البحث عن أدوات تحليلية حديثة تساير العصر وبعبارة أخرى كان لابد من خلق قوالب درامية جديدة تتقبل أبعاد التجربة المعيشة.
وفى اعتقادى أن النكسة كانت باباً بل منفذاً هبت منه أرياح التحرير والتغيير التى ظهرت آثاره بدرجات متفاوتة وتجلى ذلك فى منحيين :
المنحى الاجتماعى كمحاولة لتجاوز الظروف العصيبة التى عرفتها مصر بخلق مناخ جديد.
المنحى الثانى هو الفكرى حيث استفاد من النظريات والفلسفات المعاصرة فى الغرب لكن لمحاولة صبها فى منظور عربى.
لكن السؤال المطروح الذى يعود من جديد يلح بنفسه وبحدة هو : هل كانت مخلفات هذه النكسة فى صالح التجربة المسرحية ؟ أم كانت ضدها ؟ بعبارة أدق هل ساهمت فى اغناء الرؤية العامة وتوضيحها أم على العكس افقارها وتدبدبها ؟ إن التقاط إجابة شافية لهذا السؤال يدفعنا إلى اختراق تيارين مفترقين:
الأول يرى ن النكسة بخصوصياتها وملامحها ضد المسرح بحيث أن الخط البيانى للتجربة المسرحية عرف هبوطاً من حيث الكم والكيف.
التيار الثانى يرى أن الظاهرة المسرحية لم تعرف أى تقلص وأن سبب هذا الهبوط لا يرجع لقلة الأقلام بل لظاهرة المنع التى استفحلت والمراقبة الشديدة التىفرضتها السلطة اتجاه هذا المجال. وهذا ما يؤكده الأستاذ فوزى فهمى حيث يقول : " ويجب أن نتذكر أن هناك سوء الفهم أو عدم النضج لدى أجهزة الدولة اتجاه المسرح الأمر الذى أدى إلى تقلص المسرح أو الظاهرة المسرحية.... إن فهم أجهزة الدولة للمسرح فهم خاطئ .. لأن المسرح فن شديد الديمقراطية، ××× التأثر، على الرغم من أنه ليست هناك مسرحية اسطقت نظاماً، فلم يحدث أن خرج الناس من المسرح وقاموا بمظاهرة ، غير أن هناك توجساً دائماً من أجهزة الدولة اتجاه المسرح"([10]).
لكن لا نستطيع أن ندلى باى تصور شخصى جزافاً دون أن يكون مصحوباً ببيانات احصائية لحصيلة المواسم الخمسة بعد النكسة تثبت ما إذا كان المسرح المصرى يعانى من تأزم كما يزعم. وهل كانت هذه الأزمة نتيجة حتمية لنكسة (67) أم قبلها ؟
فى إطار المواسم الخمسة التى تلت النكسة (67 – 72) قدمت مسارح الدولة الستة سواء " المسرح القومى ، أو مسرح الحكيم ، أو مسرح الجيب، أو المسرح الكوميدى، أو الحديث والغنائى، عدة مسرحيات تختلف من حيث الكم والكيف أو من يث القيمة الفكرية والفنية. كما تباينت من حيث تناولها للوضع الاجتماعى وتفكيكها للغز النكسة بتبديد الغموض الذى كان يكثف ذلك الوضع، ونذكر أهم المسرحيات التى لفتت وجدان المشاهد بحضورها التام فى الساحة الأدبية منها : " الزير سالم ، بلدى يا بلدى ، شمس ودليلة، سر الحاكم بأمر الله، ملك الشحاتى ، عفاريت مصر الجديدة "([11]).
والواضح من عدد الأعمال التى خرجت للنور فى هذه الفترة، أن حركة المسرح لم تشل تماماً كما يدعى البعض ، وأنه ظل ملاحقاً لهذه الوضعية يحلل ميكانيزماتها الداخلية.
موقع السيد حافظ فى تجربة المسرح العربى :
إن النكسة وانطلاقاً من تصور خاص بكل معطياتها أفادت كثيراً فى مولد جيل التحدى ، لقد تحدى هذا الجيل أوضاع الأزمة بتمرده على القوالب المسرحية الكلاسيكية . وأهم قضية طرحت هى البحث عن صيغة جديدة للمسرح العربى باستلهام منابع التراث الشعبى. بعبارة أخرى، لقد حاول الكتاب صياغة التراكيب وأبنية أصيلة مستوحاة من الذاكرة الشعبية مطورة حسب الإطار الاجتماعى والتاريخى الذى تريد تجسيده. لقد بدأت هذه المهمة مع كتاب الستينات كتوفيق الحكيم فى كتابه " قالبنا المسرحى" الذى دعا فى إلى استخدام عناصر درامية شعبية كالحكواتى والمقلداتى والمداح، وأيضاً يوسف إدريس فى مسرحيته "الفرافير" التى جسدت دعوته إلى مسرح السامر أو الغرف من المخزن الشعبى. هذه المهمة تطورت مع كتاب السبعينات كيسرى الجندى وسمير سرحان وفوزى فهمى وعبد الرحمن الشافعى " مسرح الأقاليم" وكذلك السيد حافظ الذى وقف كعلامة بارزة ونقطة وضاءة فى وسط الميدان وصاح " لا مسرح بدون تجريب ". من هنا طرح إنضح ثماره بعد الثورة التى كانت محركاً فعالاً ظهرت معها أقلاماً بناءة كان لديها القدرة على الخلق والتجديد غير آبئة بما يعترضها من أهوال. وكما قال الدكتور / على الراعى : " لقد أفرزت الثورة عن الطاقات الحبسية لدى الجماهير والفنانيين والكتاب معاً فظهر ما نسميه اللحظة المسرحية المواتية وظهر معها جيل من الشباب مغمور بتطلعات فنية هامة".([12])
إن مرحلة الستينات كانت فاتحة مرحلة متطورة ، وساهمت بقسط وافر فى إثبات جذور التجرب المسرحية وتعميق أصولها فى العالم العربى بصفة عامة ويرجع الفضل إلى تلك المعطيت الاجتماعية التى أغنت هذه التجربة والتى كنت مرتعاً لعرض التجارب وشحذ الأذواق. من هنا يقول عبد الله هاشم عن تجربة السيد حافظ :
" إنه بدل أن نقيم التهليل لكل مستورد أفلا أجدى بنا أن نهتم بكاتب مصرى لا يقل جودة وتجديداً وثورة وغضباً ، على الأوضاع المسرحية التى تحيط بالعالم العربى خصوصاً وأن مسرحياته نتاج طبيعى لنكسة (67) ومحاولة تجاوزها والثورة ضد الظروف التى خلفتها ومحاولة الاستمرار وقهر الظروف السلبية التى قدمت بعد ذلك لخلق إنسان عربى جديد قادر على الثورة والنجاح ضد أعتى الظروف يصادفها الوطن العربى"([13])
لا شك أن هذه الفترة من عمر التجربة المسرحية للسيد حافظ بدأت تتجذر أكثر من خلال كفاحها ضد أساليب العسف والظلم ومن ثم نحت السيد حافظ لنفسه مكانة ممتازة فى المسرح العربى عامة. بعبارة أخرى أن هذه الفترة من التجريب والتلمس قد أقنعت السيد حافظ بضرورة زرع جذور أكثر عمقاً وبوضع حد لجمود هذا المجتمع ومحاولة تخليصه من الاستيلاب إلى الإيجاب أى التخلص من التبعية إلى مرحلة التأطير والخصوصية. وقد كانت هذه الخطوة عند السيد حافظ أساسية وممهدة للوصول إلى كم الإشكالية ومحاولة خلخلتها وتحليلها من اجل تحقيق تحول جذرى فى بنية هذا المجتمع وتفكيك ميكانيزماته العلائقية على ضوء معطيات الحاضر والمستقبل.
وهذا هو السبب الذى جعلنى اختار موضوع : " الشخصيات التراثية فى مسرح السيد حافظ " وظيفتها الفنية والفكرية" كأنموذج يجسد الصيغة التعاملية مع هذه التنميطات السلوكية من جهة، ومن جهة ثانية استخلاص الأبعاد الرؤيوية للسيد حافظ من خلال شخصياته المسرحية. وليكون هذا الموضوع من جهة ثالثة أساس هذا البحث الذى أتوخى من ورائه قراءة إبداعاته وتحليلها ووضعها فى صيرورتها التاريخية مع محاولة محاورة النقد الذى تناول هذه التجربة القائمة على التجريب والسؤال والهدم والبناء.
ومن هنا سأجعل مسرح اللامعقول فى الأدب العربى مدخلاً رئيسياً للحديث عن تجربة السيد حافظ لأن هذا اللون من التعبير له حضور واضح فى أعماله على مستوى كتابة النص المسرح والرؤية للعالم فى إطارها التجريبى.
مسرح اللامعقول بين المنظور العربى والمنظور الغربى
أو تعدد المصطلحات بين الغرب والعالم العربى والبحث عن رؤية جديدة للعالم
إن قيمة العمل الأدبى تأتى من المضامين الفكرية التى يحملها القالب الشكلى وكذلك المحتوى وما احدثته من ردود فعل لدى شريحة اجتماعية معينة هى طبقة المثقفين والقراء. لكن ما حدث مع مسرح اللامعقول كان عكسياً بهذه الرؤية بحيث أحدث ثورة كبرى على المستويين : " الشكل والمضمون" .
فمن حيث الشكل : دعا مسرح اللامعقول إلى تغيير الأدوات والمفاهيم الكلاسيكية.
ومن حيث المضمون استهدف نبذ كل القيم الأخلاقية والمعتقدات المذهبية حيث اعتبر العالم عبثياً ولا مجدياً لذا فهو لا يستحق كل هذا الاهتمام الذى نوليه إياه.
إن هذه النظرة اليائسة التى كانت تطل من عيون شباب القرن 20 تعطينا تفسيراً كافياً للحرب العالمية الثانية وما خلفته من مظاهر البؤس والقهر الذى كان يمارس على تلك النفوس البريئة. وبالتالى جاءت كتابة الجيل الذى عايش أحداث هذه الحرب مرآة واضحة بما يضطرم فى أعماقه من هواجس وقلق وقرف. وأهم ما يميز كتاباته هو ذلك اللبوس الكوميدى والهزلى الذى لبسته لإبراز سخريتها وتحديها لكل المظاهر المقنعة والزائفة.
لقد عرفت هذه الظاهرة بأسماء عديدة كاللامعقول والعبث والطليعة والتجريب واللا معنى. وهذا التعدد يستدعى تحديد معنائية كل مصطلح على حدة وذلك بتتيع المسار التاريخى لهذه الظاهرة مع رصد الظروف المحيطية التى ساهمت فى ظهورها، إن هذه المصطلحات المتعددة تشترك فى كونها ثورات فكرية جاءت من أجل تقويض دعائم بنى الواقع التجريبى، وأيضاً للقوالب الفكرية الجاهزة بل الكلاسيكية.
" فالتجريب – كتعبير فنى فكرى – هو بالأساس محاكاة للتغيير الواقعى اجتماعياً ونفسياً وسياسياً وفكرياً. ومن هنا يكون للتجريب الغريب معنى ، لأنه ثورة تسير بمحاذاة ثورات أخرى ، ثورات يمكن حصرها فى الثورة الصناعية والدينية والفكرية "([14])
إن مكنونية التجريب لا تكمن فى كونه ثورة عارمة بدون أهداف. بل فى تلك الصيغة التواصلية مع الجذور التاريخية والتجارب الماضاوية والتراثية. بعبارة أخرى أن التجريب يبحث عما يسمى بالحس التاريخى أنه يتجاوز التيكنيكات والاكتشافات المظهرية إذا صح هذا التعبير أو الثورة المنظرية كما يقول استانسلافسكى. وقد حدد طوماس اليوط Thomas. S. Eliot الحس التاريخى قائلاً : " إنه ليس الوعى الحاد بالماضى فحسب ، بل إعادة اكتشافه فى الحاضر وإحياؤه فيه حين يحتوى عقل الفنان عقل أمته وحين يعيش الأجداد فى دمه"([15])
من هذا المنطلق الذى يجعل التجريب بل الإبداع الفنى كثورة مناهشة لما هو قائم من مرتكزات تستوحى الطليعة سماتها فهى كما يحدد يونسكو " ظاهرة فنية وثقافية سباقة.. فهى بمثابة بدعة فى الأسلوب أو وعى جديد تتخذه النزعة إلى التغيير "([16])
إن هذه الحركة الطليعية التى برزت مع أعقاب الحرب العالمية الثانية كمحاولة لتفسير الغموض المستبد للصيغة العلائقية فى هذا العالم. وكثورة لنبذ القوانين والشروط الأساسية للإبداع الفنى السابق وإقامة مفاهيم وأسس جديدة تعارض عصرها فتكون بذلك قد تجاوزت " ما هو معاصر لتلتقى بالتراث العالمى الأزلى الذى لا يحده زمان أو مكان "([17])
نتبين من هذا القول أن مسرح الطليعة يهدف من وراء تحطيم القيم والأوثان الأخلاقية والمفاهيم الفنية اقديمة إلى بناء مجتمع متعال عن الصورة الرثة للمجتمع إبان الحرب العالمية الثانية. بعبارة أخرى إنه ينشد الواقع المطلق بصورته المتكاملة التى هى مرآة واضحة لكل الآلام والهموم الإنسانية. وبالتالى فإن هذا المسرح الذى يحاول تعليل عبثية هذا الوجود ولا جدواه لا يمكن أن نصفه بأنه مسرح ينتمى إلى اللا معقول.
إن مصطلح اللا معقول له معنائية خاصة لا يمكن أن تؤطر المفهوم السابق لكلمة الطليعة أو التجريب يقول يونسكو : " المجتمع هو اللا معقول ، لا الأدب، والمجتمع اللا معقول هو المجتمع الذى لا غاية له وهو المجتمع المنفصل عن جذوره الدينية وتقاليده فى مثل هذا المجتمع يكون المرء ضائعاً ، ويكون كل ما يصدر عنه لا معنى له ولا فائدة ترجى منه وبهذا يكون لا معقولاً "([18])
إن النكبة التى منى بها العالم فى العقود الأخيرة من هذا القرن كانت محفزاً على تسرب نزعة اللا معقول إلى ميادين الأدب والفنون المجاورة وكمحاولة رائدة لتفسير سلوك الإنسانية الأحمق فى إعلان هذه الحرب الغاشمة. كما جاءت من أجل إعلان تفاهة الحياة وعبثية هذا الوجود بل أكثر من هذا أن مسرح اللا معقول لا يقف عند حدود الشعور بل يوغل إلى منطقة اللا شعور لتفسير الترسبات اللا عادية والتصرفات الميكانيكية للإنسان، وفى هذه النقطة يتجلى تأثير الفرويدية التى ساهمت إلى جانب مدارس أخرى كالوجودية والماركسية والسوريالية فى إبراز ملامح هذا المسرح، والنتيجة التى نخلص اليها هى : " أن مسرح اللا معقول مسرح كوميدى رغم أن موضوعه جاد وخطير ولكنه ليس كوميدياً بالمفهوم التقليدى فهو يمزج بين الفكاهة المضحكة والمرارة المؤلمة ، والإنسان فى مسرحيات هؤلاء سجين ذاته ليس من صلة بينه وبين الآخرين ولذلك كان أدباء اللا معقول معادين للغة بصورة عامة وللتعبيرات المحفوظة بصورة خاصة لأن اللغة لم تعد تنقل المعانى بصدق دون زيف، ولذلك فهم يفتحون أعين المشاهدين على هذه الحقيقة من أجل أن تعود اللغة إلى أداء رسالتها "([19]).
إن هذه المنطلقات الرئيسية التى تطرقت اليها توضح حقيقة هامة هى أن الخيط الرابط بين هذه التجارب سواء الطليعية أو العبثية أو التجريبية هى تلك الرؤية المشتركة فى البحث عن تقنيات جديدة لمعالجة الواقع الاجتماعى وذلك بتحطيم قواعد المنظور المتفق عليها فى المسرح التقليدى.
هذا بالنسبة للمسرح الغربى ، فماذا يمكن أن نقول عن المسرح العربى ضمن هذا المجال ؟
إذا رجعنا إلى المسرح العربى فإن الحديث عن التجريب سيقودنا إلى حقيقة مؤداها وكما يقول برشيد عبد الكريم : " أن التجريب الفنى والفكرى بابه موصود لأنه حوار غير موصول بين المبدع والواقع ، إنه رؤية مغايرة وأدوات فنية جديدة لواقع لا يريد أن يكون جديداً ولا مغايراً ، فعلى مستوى الخلق الفنى سنجد أن التجريب ينسى أو يتناسى الجمهور، بكل ما يحمله هذا الجمهور من ترسبات الماضى واحباطات الحاضر ، ومن هنا يبقى الإبداع رغم التجديد يدور حول نفسه ، يبتدئ من نقطة ليعود اليها إنه تجديد لأدوات الإبداع تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وتقنيات، لكن ماذا عن الجانب الآخر فى الحوار هل تجددت رؤيته ؟ هل تغيرت أدواته ومفاهيمه للحياة وللمسرح" ([20]).
لإن ما نستنشقه من مقولة عبد الكريم برشيد هو أن هذه العملة ذات الوجهين تستدعى ركنين : الأول المبدع والثانى الواقع أو المحيط الاجتماعى. والصيغة التواصلية بين هذين الحدين عملية معقدة وصعبة ذلك أن الإبداع الحقيقى يقوم أساسا على الحرية ومواجهة السلطة وفى هذه الحالة يكون الواقع الذى يمثل البنية التحتية موازياً للبنية الفوقية المتمثلة فى البنية بل التركيبة الفكرية والفنية للمجتمع العربى. وبعبارة أخرى أن السعى وراء خلق قوالب فكرية وفنية على نمطية حديثة وتقديمها للطرف الآخر الذى هو الجمهور تستدعى بالضرورة أن يكون هذا الآخر مغايراً فى نمطية تفكيره وعقليته. ذلك أنه كلما ازدادت التركيبة الاجتماعية تعقيداً كلما تطلبت تقنيات وآليات مستحدثة توافق نفسية الجمهور وذهنيته.
يبقى أن السؤال الملح الذى يطرح حول الحركة التجريبية فى المسرح العربى عامة والمصرى خاصة هو البحث عن الظروف التى ساهمت فى ميلاد هذه الحركة ومن هم ممثلوها؟
لقد مست هذه الحركة أدبنا العربى عن طريق التفاعل الحضارى بين الشرق والغرب حيث ظهرت جماعة عرفة باسم " جماعة الفن والحرية " وكان هدفها هو تحطيم التقاليد العفنة فى المجتمع والفن على السواء وقد عبرت عن نفسها فى مجلة التطور ثم المجلة الجديدة حين تركها سلامى موسى"([21])
لقد كان من أبرز أهداف هذه المجلة هو الكشف عن الصورة الزائفة لهذا المجتمع. بعبارة أخرى تضخيم الصورة الميكروسكوبية للجو المشحون بالنفاق والأكاذيب الكبرى وبسط ملامح ورقة التعامل المزورة التى أصبح يتعامل بها هذا المجتمع هذا الجو الملوث يحدد سماته بصيغة أدق أحد أعضاء مجلسة " الفن والحرية " قائلاً : " بينما كان شبح القنابل الذرية يخيم على العالم ، وفى مصر والعالم العربى كان الفساد السياسى والاجتماعى قد بلغ حداً شديداً من العفونة، تبلور فى نكبة فلسطين وانفض الشباب فى مصر عن أحزاب ثورة 1950 لينضموا إلى جماعات يسارية أو يمينية بحثاً عن حلول جديدة أو ليرفضوا الانتماء إلى أية جماعة سياسية وبينما كان إرهاب السلطة الحاكمة يجثم على الجميع أملاً فى أن يستمر النظام السياسى والاجتماعى أطول فترة ممكنة"([22])
لقد انفجرت على انقاض هذه الظروف المتردية الثورة الناصرية وذلك فى 23 يوليو 1952 التى تعتبر محركاً فعالاً عمل على نحت عقول الشباب وصقلها من ركان التخلف الذى كان يجثم عليها. كما استنهضت همم الكثير من الدول ودفعتهم للمطالبة بالحرية والاستقلال . إضافة إلى الوضع الداخلى الذى كان من عوامل نهضة مصر الحديثة وبروزها على الصعيد الدولى والعربى ذلك أنها حققت إنجازات مهمة على مختلف المستويات غيرت وجه الحياة فى مصر كما غيرت دور مصر فى العالم.
إن هذه الوضعية المتأزمة شكلت المناخ الملائم بخصوبة هذا الفن وترعرعه. بمعنى آخر إن هذه الصورة المأساوية التى أطرت ملامح الوجود العربى هى تغيير بصيغة أو بأخرى بوعى الإنسان واستكمال الدائرة التكوينية للضمير العربى الذى أصبح ينفى الأنا ويبرز دور الجماع. إن فى هذا التأطير للمناخ الظرفى للعالم العربى ما يثبت أن المسرح العربى توفر بالطبع على نزعة التجريب ولو بالنسبة للشكل. كما أنه يعتبر رداً على من يقولون أن مذهب اللا معقول لم يلق قبولاً لدى المفكرين العرب والسبب هو أن ظروفنا الحياتية والحضارية تختلف كل الاختلاف عن ظروف الغرب.
نعود للتصدى بالإجابة على الشطر الثانى من السؤال المطروح والذى يقول : " من هم ممثلوا هذا الخط الفنى ؟، لنؤكد أن توفيق الحكيم يعتبر أول من ساهم فى تجسيد تجربة بل " مفاهيم اللا معقول " ولا أقول جاء باللا معقول لأنه فى محاولته يكون تابعاً ومسايراً لدواعى النهضة كما يقول فى مقدمة مسرحية "يا طالع الشجرة" : " ولولا دواعى النهضة التى تقتضى بأن تكون كل أنواع الفن فى المسرح وغيره ممثلة لدينا "([23])
وعلى حد رأى حنا عبود أن توفيق الحكيم فى مسرحيته " يا طالع الشجرة" : " تتبع خطوات مسرحية " إميديا " ليوجين يونسكو التى تدور حول فكرة الكره الزوجى والتى لا تحل إلا بحدف أحد الطرفين الزوج أو الزوجة"([24])
ويتجلى ذلك بوضوح فى رأى الحكيم عن مسرح اللا معقول عندما قال : "كل ما يهمنى هو حرية معالجة الموضوع دون السجن داخل إطار نوع من الأنواع " ([25])
نستشف من رأى الحكيم أنه حقاً أعجب بمسرح اللا معقول خصوصاً من ناحية البناء الشكلى التى لا تفرض قيوداً من ناحية معالجة الموضوع. وسواء أفلح الحكيم فى تجسيد مفاهيم اللا معقول أو حقق هذا اللا معقول من خلال مسرحيته " يا طالع الشجرة " ، أو " الطعام لكل فهم " فهو يعتبر على الأقل ممهداً لطريق اللا معقول الذى أصبح من الاختيارات الفنية والفكرية لدى الجيل العربى الجديد للتعبير عن قناعات وموافق جديدة مما وسع من دائرة هذه الظاهرة. فكانت تجربة السيد حافظ الكتابية تنتمى إلى هذه الاختيارات والمواقف. لهذا وقبل أن نشرع فى تفكيك مكونات هذه الذهنية علينا أن نعرف من هو السيد حافظ وما هى المرتكزات الفكرية لمسرحه؟
إن التعرف على المسار التطورى لفكر السيد حافظ يقودنا بالضرورة إلى الرجوع للعقد الرابع من هذا القرن فهو من مواليد 1948 بالاسكندرية، إبن لحارة شعبية شاهد الأراجوز وخيال الظل وحندوقة الساحرة فشده الحنين لهذا العالم الضبابى فهو يقول : "راعنى ما شاهدته فى عالم الغجر عندما شاهدت الساحرة حندوقة، لاعبة النار... سحرتنى بأنوثتها وسحرها وتجمع الناس حولها، وعالم السحر والأنثى مكونات فى ذهن طفل يجرى فى الحارة المصرية العربية، يرى الجائعين والفقراء يغنون... يلعب بالورق تبهره تكنولوجيا السينما، يصنع من أحلامه نموذجاً للفن "([26]).
هذا العالم الذى فتن السيد حافظ والذى ظلت أبوابه موصودة أمامه وظل قلبه مفتوحاً له، ساعده على دخوله وتخطى عتبته شخصان بارزتان هما:
أستاذ اللغة العربية محمد الأمير القاضى والاستاذ حمدى عباس الذى شجعه على تأليف اسكتشات وتدريب زملائه فبرز فى أدواره وفاز.
بعد هذه المرحلة دخل السيد حافظ مرحلة جديدة من حياته بعد التحاقه بمركز الشباب على يد الفنان محمد فهمى يقول السيد حافظ متحدثاً عن تلك المرحلة:
" وهناك تعلمت أين أجد النصوص المسرحية وتاريح المسرح وقرأت المسرح الاجتماعى لتوفيق الحكيم وشاهدت كل مسرحيات هيئة المسرح ، وتعرفت على شكسبير ويوربيديس واسخيلوس والمسرح العالمى والمسرح الأمريكى والسوفياتى، كان وقتى كله موزعاً بين القراءة والتمثيل والتثقيف الذاتى ونسخت فى العالم الأول ملخصاً لـ(145) مسرحية عالمية ومائتى مسرحية عربية، و تعرفت على سعد الدين وهبه، ونعمان عاشور، وميخائيل رومان وشوقى عبد الحكيم، ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوى وألفريد فرج"([27])
هذه الخطوة كانت إيجابية فى بلورة فكر السيد حافظ وتعميقه ومن ثم تفرده وتميزه خاصة بعدما هاجر محمد فهمى إلى الكويت وأصبح السيد حافظ مسؤولاً عن الفريق فصاح بأعلى صوته : " علينا بالمسرح التجريبى حتى يكون لنا مسرح مميز بنا كشباب وكدولة وكأمه".([28])
واعترض عمر السيد حافظ مرحلة الستينات ولكنها لم تبهره وتجاوزها بكل أمل باحثاً عن الفن الحقيقى والرؤية الواضحة لأبعاد هذا المجتمع ، وبالرغم من المذابح والمجازر الفكرية التى أقيمت له ظل متمسكاً بآرائه وأهدافه.
ومن بين المؤثرات الهامة التى كان وقعها أعظم عهلى فكر السيد حافظ نكسة (67) فقد كان لسان حال النكسة كما يسميه برشيد عبد الكريم. لقد قادت هذه الحالة المتردية أثناء الأزمة (67) إلى الثورة على الواقع التاريخى بكل معطياته المختلفة هذه الثورة الغاضبة امتدت إلى مجال الكتابة حيث حطمت القوالب القديمة وكل المفاهيم العتيقة من لغة وشخصيات وحوار من هنا أصبحت قضية التجريب حاجة ملحة عند السيد حافظ " لأنه متولد عن حاجة داخلية للتغيير، تغيير الرؤية، وأدوات الرؤية ، ومن أجل إيجاد فن جديد لعالم يقفز على قبح الحاضر والمحمل بالهزيمة والموسوم بعوامل النكسة"([29]).
ولقد كتب السيد حافظ مسرحيات تمثل هذا المنظور خير تمثيل ولا أدل على ذلك من عناوينها التى تعتبر واجهة مطلة على مضمونها فهى موسومة بالغرابة من هذه المسرحيات : " حدث كما حدث لكن لم يحدث أى حدث ، الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء ، حبيبتى أميرة السينما" لقد كانت هذه الكتابة الأوطوماتيكية الغامضة والمعقدة ابناً شرعياً فترة النكسة وقد آمن بها مؤلفو هذه الأزمة حتى يهزوان رقابهم سيف السلط المتسلط على أعناقهم ومن ثم يستبعد أن تكون محمولية المضامين عند السيد حافظ عبثية ولا مجدية، بل أكثر من هذا أن عناوين مسرحياته التى تبدو للوهلة الأولى غامضة وغريبة هى خير تعبير على رؤية الكاتب المأساوية لهذا اللغز الغامض المسحور الذى هو العالم. لقد قال عن هذا المسرح إسماعيل الإمبابى : " تعد مسرحيات السيد حافظ من المعالم البارزة فى أدبنا الحديث ذلك أنها تقف وحدها فى قمة الريادة فى ميدان المسرح التجريبى فى الساحة العربية. والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحى يحكى لنا حدثاً فى قالب درامى مسرحى ، بل يعتبر بانتاجه الفكرى الناضج خالقاً مبدعاً له عالمه الخاص وفلسفته وهو يغوص فى أعماق النفس الإنسانية محاولاً الكشف والوصول إلى أرض المثالية التى فقدناها فى القرن 20 محاولاً الكشف عن كل ما يقابله إنسان ذلك العصر من صراعات مادية ونفسية وحضارية"([30])
ومن ثم نستطيع التأكيد فى غير ما حرج أن الفن الحقيقى الذى يسمى بفن الطليعة أو التجريب أو الفن الثورى هو الذى يعارض عصره فى جرأة واعتداد ويخرج عن إطار ما هو معاصر ليلتقى بالتراث العالمى الأزلى الذى لا يحده زمان أو مكان. وبالتالى حتى يقوم لدينا مسرح شعبى يستقطب أكبر عدد من الجمهور على مختلف المستويات يتحتم علينا إعطاء فرصة للمسارح التجريبية لأنها الوحيدة التى تساهم فى تنشيط هذه الحركة وتكريس مجهودات هذا الجيل.
لكن هناك سؤالاً يطرح نفسه وبكل الحاح هو : "ما هى أهداف الطليعة فى منظورها العربى؟ وهل هناك من فرق بينها وبين المنظور الغربى؟
إذا ما رجعنا إلى مفهوم الطليعة فى منظورها العربى خصوصاً عند السيد حافظ نجد أنها ذات منظور مزدوج أو كما يقول برشيد : " إنها تحدق فى الناس والأشياء بعينين". الأولى عربية والثانية غربية وبيت القصيد من هذه القولة هو أن السيد حافظ لم يسقط فى وهدة العبث الغربى خصوصاً من حيث المضامين الفكرية واكتفى بمحاورة الشكل.
بناءً على ما تقدم من مرتكزات يعد السيد حافظ من الكتاب الذين خاضوا غمار معركة الواقع المتأزم وساهموا فى إظهار الحقيقة معللين أسباب هذه الهزيمة والأزمة الحضارية التى نعيشها وهو بذلك قد حمل مسئولية جيل المستقبل على عاتقه ولم يكن فى هذه المهمة ملتزماً مجردة بل إنه إذا صح هذا التعبير كان سفيراً بدون جواز فى كل بلاد الأرض حيث لا حدود للمكان ولا حدود للزمان فقد تكلم عن الأزمان الإنسانية وعن الحرية والديمقراطية المفقودة كما تكلم عن المد الحضارى وتأثيره على إنسان هذا العصر. بعبارة أخرى إنه يحلل مشاكل يوميه عايشها وحاول الغموض فى أعماقها لاستئفاف الداء الكمين وراء انتشارها . إنه يتحدث عن القضية الفلسطينية وعن النكسة المصرية بصفة عامة إنه يناقش قضايا إنسانية ليدلى بموقفه منها. لقد اختار القالب المسرحى التجريبى فشحنه بهموم الانسانية جمعاء لكن هل هناك من فرق بين مفهومية الطليعة عند الغرب ومفموميتها لدى العرب بعد أن تطرقنا إلى اللا معقول لدى الغرب وعند العرب؟
لكى نختصر الطريق ولا ندخل فى متاهات دون قرار نترك المؤلف المغربى عبد الكريم برشيد يقدم لنا الإجابة : " أكيد أن هناك أكثر من فرق لأن الانهزام العربى هو انهزام عسكرى سياسى حضارى تاريخى، إنهزام يمكن تعليله وتفسيره لأنه نتيجة حتمية بشروط موضوعية. أما الانهزام الغربى فهو انهزام وجودى ميثافزيقى، إنهزام الإنسان امام انغلاقية وصمت الكون وعبثه، ومن هنا فلا مجال للتفسير والتغيير فلا شيئاً حقيقياً، إلا العبث والخواء والعدم. هذا العبث الذى اتخذه الإنسان الغربى موقفاً وجدانياً من الحياة قبل أن يكون موقفاً فكرياً من الوجود" ([31])
إن العبث فى المسرح العربى مرتبط بقضايا اجتماعية وسياسية وحضارية، بينما العبث الغربى يتجاوز هذه القضايا التى تمس الواقع التجريبى لتتصل بحيتيات العالم الميثافزيقى التجريدى. بعبارة أخرى ان هذه المباشرة للماروئيات فى التجريب الغربى تصبح ثورة ميثافيزيقية معادية للواقع. بينما العبثية أو التجريبية العربية مرتبطة بالوضع الاجتماعى المحدد زمانياً ومكانياً. لقد آمن السيد حافظ بالمسرح كتظاهرة شعبية وإبداع فنى وفكرى، وكفر بكل ما عدا ذلك من أوثان مسرحية قديمة. لقد أحس أنه يحمل مضامين مغايرة تلزمه البحث عن أشكال درامية مغايرة. هذا الشعور الملح بالتغيير فى الرؤية ومضامين هذه الرؤية لا يمكن تفسيرها إلا بتلك الروح الجماعية والإنسانية التى قلت فيما قبل إنها أصبحت تؤطر الهوية العربية بعد خروجها من قوقعة الأنا الضيقة.
أدلجة التراث والبعد الوظيفى للمسرح العربى
السيد حافظ والتعامل مع التراث
إن قضية " التراث والتجديد " من القضايا الشائكة المطروحة على الساحة الأدبية وبحدة، إنها بالفعل عملية معقدة لتشابك الخيوط المكونة لها. لإنها صيغة تواصلية تربط حاضرنا بجذورنا التاريخية والحضارية. إنها العملية التى تقتحم التجربة المسرحية لتثير عدداًمن التساؤلات المحيرة والمقلقة منها :
ما التراث ؟ بل ما المرتكزات التى تؤسس لنا مفهومية التراث ؟ ثم كيف يمكن الاستفادة من المادة التراثية فى إطار التجربة المسرحية؟ وهل هذه الصورة التأسيسية للمسرح تفيد فى تدعيم جذور الإبداع الترائوى؟ بعبارة أخرى هل الأخذ من المحيط الترائوى يسهم فى صياغة تجبة مسرحية حديثة أو على الأقل يقبل توجهات حداثية بشكل يحقق لنا ما ننشده من أصالة ومعاصرة ؟!
إن هذه التساؤلات المطروحة تجرنا إلى سؤال أدق وأعمق هو : إذا كانت المادة التراثية جاهزة فما هى الصيغة المجدية والبديلة للتعامل مع هذا المحيط الضخم دون الانجراف مع تياراته؟
إن هذه العملية لا يمكن أن تتخذ مسارها الحقيقى إلا إذا كان المؤلف غواصاً يعرف انتقاء الذر الحقيقى لا المزيف. بعبارة أخرى أن دور المؤلف هو عملية التنقيب والكشف عما يمكن الإفادة منه من تراثنا أى ما يصلح أن يحبها ويستأنس بسمات العصر.
إن التوقف عند مصطلح التراث يكشف لنا عن تعدد الدلالات والتفسيرات التى يتخذها وقد حددت الكاتبة زينب منتصر هذه المستويات على النحو التالى:
تاريخ الحضارة العربية الاسلامية بما تضمن من مواقف ومعارك وشخصيات تاريخية وفكرية وإنسانية.
تراث القصص الشعبى العربى.
الكتب والوثائق التاريخية التى اشتملت على أخبار العرب وفنونهم ونوادرهم.
القرآن الكريم – الحديث النبوى أو السيرة النبوية "([32])
إن هذه التنميطات التى وضعتها الكاتبة لا تختلف كثيراً عن ما يراه يوسف عبد المسيح ثروت حيث جعل من أهم مصادر ترثنا الأدب بعامة والشعر بخاصة ذلك أن الأدب العربى يعج بنماذج أدبية وتاريخية أسهمت فى إغناء التجربة الاجتماعية. بعبارة أخرى أن هذه السلوكيات البشرية يمكن استغلالها بعد تحليل ميكانيزماتها النفسية وانتقاء العناصر والمقومات الصالحة للتأقلم مع وضعيتنا الحالية.
إن الخوص فى غمار هذه المحيطات العميقة يعتبر مهمة صعبة ولكن على الأقل تفيد فى تدعيم التجربة المسرحية لأنها ترفدنا ببيانات جديدة. فهى تتطلب مفاهيم حديثة تتقبل أبعادها بشكل يجمع بين الأصالة والمعاصرة. ونفس الحقيقة يؤكدها د. حسن حنفى إذ يقول : " يوجد التراث على عدة مستويات : فهو أولاً تراث موجود فى المكتبات والمخازن والمساجد والدور الخاصة، يعمل على نشره، فهو تراث مكتوب، مخطوط أو مطبوع له وجود مادى على مستوى أولى، مستوى الأشياء "([33])
" والثانى : وجود على المستوى الصورى ، فإن التراث فى الحقيقة مخزون نفسى عند الجماهير... بل هو أيضاً جزء من الواقع ومكوناته النفسية"([34])
إن المقصود بالتراث ليس تلك المادة الخام التى يتلهف الناس على استخراجها بكل سلبياتها وإيجابياتها . لكن الكيان التراثوى مشروط بعدة بنود يجب على المستفيد ألا يتجاوزها. من هذه الشروط حشد وانتقاء ما يمكن الإفادة منه فى حاضرنا ومستقبلنا، بعبارة أخرى وكما يقول الدكتور حسن حنفى " ليس التراث موجوداً صورياً له استقلال عن الواقع الذى نشأ فيه، وبصرف النظر عن الواقع الذى يهدف إلى تطويره وهو تراث يعبر عن الواقع الأول الذى هو جزء من مكوناته".([35])
إن هذه القولة تبين تلك العلاقة الجدلية القائمة بين الواقع وموروثنا الثقافى والتى تستدعى بالضرورة الإنطلاق من معطيات الواقع ووضعها فى ميزان التفسير والتحليل برفد واستلهام منابع الموروث الماضوى. إن هذه العملية التى تنطلق من معطيات العصر ترتوى من ينابيع التاريخ لتسقى به أرضية الواقع ومن ثم تكون النتيجة هى تحديد أبعاد الهوية وملامحها الأساسية.
فقضية التراث والتجديد إذن وعلى حد قول د. حنفى " هى أيضاً قضية إعادة كل الاحتمالات فى المسائل المطروحة وإعادة الاختيار طبقاً لحاجات العصر"([36])
إن هذا القول يحيلنا على أن قضية الموروث الثقافى يجب ألا تبقى فى معزل عن الوقائع المعيشة وإلا فإن أى تفسير أو تفكيكاً لرموز هذا الواقع وتحليل أبنيته المؤسساتية سيكون مبتوراً بل أكثر من هذا أن تغييب الوجه الأول من وجهى هذه العملة أمر مستحيل تماماً كما هو الحال فى إثبات عملية ما فى غياب شروط الإثبات ، فهى لاغية من أساسها أى أن تقييم هذه المعادلة ذات الحدين أمر مستحيل فى غياب احد أضعها : التركيبة الاجتماعية والحصيلة التراثوية أو المخزون النفسى للجماهير حسب تعبير د. حنفى.
إن التأسيس الذى نهدف إليه من وراء هذه المنطلقات هو تأسيس مشروط بعدة ثوابت : الأصالة والمعاصرة ، قيم اجتماعية حاضرة كغاية مؤسسة على ركائز تاريخية كوسيلة. إن استئناف الحديث عن التراث والتجديد خصوصاً فى مجال المسرح يضعنا فى دائرة لا متناهية من التساؤلات :
هل رفد المسرح العربى منذ ارهاصاته الأولى من الينبوع التراثوى وبالتالى أين تتجسد هذه اللوحة التشخيصية لهذه الظاهرة ؟
إذا تقصينا روافد المسرح العربى وجدنا أن كثيراً من المسرحيات اتخذت من التراث مادتها الخام. فمنذ الانطلاقة الأولى للتجربة المسرحية بدأ المؤلفون الغوص فى أعماق البحار التراثوية لاستخراج مكنوناتها، لكن هذه التجارب لم تتجاوز عتبة العصر الذى ولدت فيه. بمعنى آخر إنها كانت تستفيد من التراث على قدر الأدوات والمفاهيم التى توفرت لها لإقحام المخزون التراثوى فى العملية المسرحية وعلى أى فقط تميزت هذه التجربة بكونها مرحلة تمهيدية وبلغة الكاتبة زينب منتصرة : " مرحلة الاستخدام الحرفى للتراث حيث تظل أسيرة تفاصيل التاريخ وجزئياته دون التمكن من شحن حواديثها وشخوصها برموز جديدة. إن هذه المرحلة تميزت بما يسمى الأمانة التاريخية وقد مثل هذه المرحلة كل من محمد عفيفى فى مسرحيته " أبو الحسن المغفل " من ألف ليلة وليلة. المرحلة الثانية : المزاوجة بين تسجيل التراث وتطويعه وتعد مسرحية " شهر زاد" و"أهل الكهف " لتوفيق الحكيم خير ممثل لهذا الأسلوب... ثم المرحلة الأخيرة وهى تطويع التراث وإضاءته إضاءة جديدة بل عصرية وبرموز جديدة لمعالجة هموم المجتمع وتناقضات العصر([37]).
وتندرج أعمال ألفريد فرج " الزير سالم " وكذا صلاح عبد الصبور وعز الدين المدنى تحت هذا الأسلوب الذى تخطى القوالب التاريخية الجاهزة وأعاد صياغتها بشكل يلائم أجواء العصر. وفى رأيى أن هذه التجربة مرت بمرحلتين :
الأولى : كما قلت كانت تمهيدية بسيطة أى أنها كانت مرحلة استخدام التراث من أجل التراث.
الثانية : كانت محاولة جادة ارتقت بلغة التراث وخطاباتها وحواريات شخصياتها إلى مستوى تقارب به حاضرنا مرحلياً أى أنها المرحلة التى تجعل التراث لقمة سائغة فى فم العصم. إن هذه الصياغة الأخيرة هى صورة تستمد إنارتها من الماضى لتفسير معطيات الحاضر والتكهن بارهاصات المستقبل. بمعنى آخر أن الماضى التفسيرات والرؤى المتشابكة للوضعة الراهنة تستضيئ بالماضى ومن ثم يمكن تأكيد الجدلية القائمة بين حاضر الإنسان العربى وماضيه التليد.
إن العودة إلى التراث هى وسيلة لتأكيد ملامح الهوية العربية وقد بدأت هذه الرؤية تختمر فى ذهن الإنسان العربى مع خلفيات الإمبريالية الاستعمارية التى كان هدفها هو تحطيم كيان الوجود العربى، فكانت المبادرة الأولى هى العودة إلى هذا التراث لأنه الجذر الوحيد بل الأب الشرعى الذى يمكن الاعتماد عليه فى بناء صورة بديلة للوقع الاجتماعى المتردى الذى ساهمت فى تأزمه الإمبريالية والظروف الداخلية المهزوزة للمجتمع العربى.
إن هذه الإنارة الأولية تدفعنا للتساؤل : كيف نتعامل مع هذا التراث ؟ يقول د. الجابرى : " إن التعامل مع التراث يجب أن يكون على مستويين :
مستوى الفهم أى استيعاب تراثنا ككل بمختلف منازعه وتياراته.
مستوى التوظيف أو الاستثمار أى البحث عن ما يمكن استثماره فى حياتنا الراهنة أى ما بقى منه صالحاً لأنه يعيش معنا مشاغلنا الراهنة وقابلاً للتطوير ليعيش معنا مستقبلنا وذلك هو معنى الأصالة"([38])
إن التصنيف الذى وضعه الدكتور محمد عابد الجابرى يساعدنا على تحديد ملامح الرؤية المقابلة لتحديد نوعية الخطاب الذى تحمله والمقصود بالخطاب هنا إذا صح هذا التعبير هو نوعية التراث هل هو قابل للتلون بطلاء عصرنا حتى يعبر عن قضايانا ومشاكلنا المعاصرة أم لا؟
يقول يوسف عبد المسيح ثروت : " ولذا لابد للفنان المسرحى سواء أكان مؤلفاً أم مخرجاً أم ممثلاً أن يستوعب التراث استيعاباً نقدياً وفكرياًَ وجمالياً على حد سواء .. وهذا الأمر على غاية من الأهمية فى توظيف التراث مسرحياً ليكون العمل المقدم مدروساً وناضجاً ومتكامل الجوانب ، بعيداً عن الإقحام والابتسار والاقتصار على المظاهر الجانبية التى قد تبدو أحياناً ذات بهرج وقتى لا جدوى فيه ولا نفع على المستويات الفنية المنشوردة"([39])
إن المهمة التى يتحتم على المؤلفين القيام بها فى هذه الحال هى عملية الركون إلى الحصيلة المنتقاة من تراثنا وتناولها بطريقة ملائمة ويزيد الأستاذ عبد المسيح ثروت موضحاً لنا هذه الأهمية قائلاً : " فى تراثنا مواقف بطولية شامخة وشخوص إنسانية أخاذة وسمات وجدانية وقيم أخلاقية رفيعة ، ولنأخذ فى الحسبان أمثلة من شخصياتنا التاريخية المنفردة كأبى ذر الغفارى وعمار بن ياسر والحسين بن على فى فجر الإسلام وصالح بن عبد القدوس والرازى وبن رشد،...([40])
إن هذه الشخصيات تصلح لأن تكون قواماً وصرحاً لبناء مسرح ذى قيمة فنية وفكرية يمزح بين الماضى والحاضر، إنها محاولة لعصرنة هذه النماذج والشخصيات بشكل أكثر ملاءمة للواقع . وبعبارة سامى عبد الحميد: " إن الاستفادة العصرية من التراث ينبغى أن لا تكون على حساب المادة التراثية ، أى بالاقتصار على جانب ضيف فيها أو فكرة مجردة تقتطع منها، بل لابد من تبنى المادة التراثية التى تناسب أفكار العصر، لاد من خلق التفاعل الموضوعى بينهما"([41])
إن قضية " التراث والتجديد " خصوصاً حين يتعلق الأمر بالتجرة المسرحية تنطوى على موجات إرسال توجهها صوب محطة الواقع الاجتماعى لالقاء الضوء على مكوناته وتفسير الأزمة التى تحتويه قصد تغيير ملامحه طبقاً لمقتضيات العصر. بعبارة د. حنفى : " إن التراث والتجديد ، رد فعل على أزمة التغيير للواقع الاجتماعى نظراً لتعثر محاولة التغيير واصطدامها جميعاً بقضية التراث كمخزون نفسى عند الجماهير"([42]).
إن قضية التراث والتجديد فيما اعتقد هى لعبة القفز على شوائب العصر واللحاق بالواقع فى مساره التطورى وذلك بالارتكاز على القوالب التراثية وجعلها فاعلة وقابلة للصيرورة الديناميكية للعصر وحاجاته وبعبارة أخرى : إن خلفية التجديد والتراث قوم على أساس فك رمزية الموروث الثقافى بل تأويل دلالاته لفهم الأبنية الاجتماعية للواقع.
إن اكتناه أعماق الظاهرة يحيلنا على حقيقة مؤداها كما يقول د. حنفى "أن قضية التراث والتجديد هى قضية التنظير المباشر للواقع، لأنه يمد الواقع بنظريته التى تفسره وقادرة على تغييره. فالتراث هو نظرية الواقع والتجديد هو إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته وسواء بدأنا من التراث لفهم الواقع أو التنظير المباشر للواقع فكلا المنهجين النازل والصاعد يؤديان إلى نفس النتيجة.([43])
من هنا يمكن القول أن قضية التراث والتجديد مبنية على أسس لحظية واقعية منطلقة فى ذلك من تراكمات تراثية ماضية. ففى أى خانة يمكن تصنيف هذه القضية هل ندخلها فى إطار " ايديولوجى" بل اجتماعى باعتبارها افرازات سلوكية بشرية ؟ أم نصنفها فى إطار ايديولوجى باعتبار أن أى مواصفات اجتماعية لابد لها من خلفيات اديولوجية ؟ الحقيقة أنه يصعب الفصل بين هذه المركبات لأنها متكاملة فيما بينها ولأنه يستحيل أن توجد مواقف سلوكية دون أرضية اجتماعية، فإنه يستحيل كذلك أن توجد كتلة بشرية دون غاية ايديولوجية.
يبقى التساؤل المطروح هنا بعد تحديد ملامح هذا الكيان التراثوى : هل أفادت التجربة المسرحية بالنهل من ينابيع التراث الماضوى وكيف ؟
الحقيقة أن الخوض فى سديم الموروث الثقافى للأمة العربية مهمة صعبة وقد دخل فى اسجاف دياجير هذه العملية عدد كبير من المؤلفين وكل تناولها حسب أدواته الخاصة ومنظوره الشخصى.
يقول يوسف عبد المسيح ثروت : "... ومن بعدها ولدت محاولات عديدة فى مشرق الوطن العربى ومغربه اتجهت فى مسارين واستقت من مصدرين:
مصدر تراثى نهل من الأدب والتاريخ.
مصدر تراثى شعبى نهل من الأساطير والحكايات والمظاهر التمثيلية فى مجالس التأليف والتجسيد المسرحى كمحاولة الطيب الصديقى فى مسرحية " مقامات بديع الزمن الهمدانى" كتراث أدبى معروف ، وجلال خورى فى : " جحا فى الصفوف الأمامية " جعل شخصية جحا المعروفة بطلاً مسرحياً ، ويوسف ادريس فى الفرافير بالاستفادة من شخصية "السامر " واستفادة سعد الله ونوس من البيئة التاريخية ومن شخصية الحكواتى فى مسرحية " رأس المملوك جابر" وفى العراق ظهرت أعمال كثيرة يتضح منها توظيف التراث الشعبى كمادة درامية كما فى "المفتاح" ليوسف العانى و"قرندل" و"طنطل" و"الكورة" لطه سالم، و"الفيل" و "يا ملك الزمان" لونوس حيث انقلب الراوى إلى شخصية أبو الورديات أو كما يسمى "أبو صندوق الولايات" وكذلك قاسم محمد فى "بغداد الأزل بين الجد والهزل" وشخوص وأحداث من مجالس التراث، وكان يا ما كان".([44])
وهناك أسماء أخرى كعز الدين المدنى وعبد الله البوصيرى والسيد حافظ الذى سيكون محور البحث.
يقول برشيد عبد الكريم عن تجربة السيد حافظ فى هذا المجال خاصة مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع " : المستقاة من التراث الشعبى والتى أبرز الكاتب مقدرته الفنية فى تأكيد انتمائها إلى العصر : " ففى هذه المسرحية يعود السيد حافظ إلى التراث العربى والى الوجدان الشعبى وذلك من أجل صياغة لغة مسرحية، لغة تملك القدرة على التعبير عن الهم العربى وعن فكره وروحه"([45])
إن هذه العملية التلقيحية بين ترسبات الماضى ومعطيات الحاضر والمستقبل تكون لنا ملامح تجربة مسرحية جديدة منفعلة بمقومات تراثية ومقنعة بأجواء من الحاضر إنها بعبارة أخرى عملية الجمع بين المنظور التراثى والمنظور المعاصر والتى أفرزت ملامح صورة متكاملة الأجزاء.
هذه الانطلاقة من هذه الحواريات التوجيهية إذا صح هذا التعبير – ما دامت توجه هذه الصور التراثية لاتخاذ مسار اجتماعى معاصر فى صورة هزلية أو مأسوية – تضفى بعداً جديداً للتجربة المسرحية العربية وقيمة فنية كبيرة تدعم أصوليتها وتركز نبتتها فى الأرضية المسرحية العربية خاصة والعالمية عامة.
وبعبارة هيجل : " إننا لا نستوعب التاريخ إلا عندما نستطيع أن نرى الحاضر بصورة عامة، كنتيجة لتلك الوقائع التى تمثل حلقتها الأساسية أخلاق وأعمال المشاركين فيها "([46]).
بمعنى آخر لهذه المقولة أن معطيات الحاضر هى فى الواقع مرآة تنعكس عليها قيم الماضى ، أى أن الحاضر يفسر ويحلل تحت مجهار الماضى، بل أكثر من هذا أن بنية الماضى ليست بنية مغلقة بل هى منفتحة وقابلة للوضع فى ميزان التأويل والتفسير وذلك حسب لوازم العصر، وهذا هو منطق التاريخ بل الصيرورة التاريخية التى تقتضى حركة دينامية مستمرة بخطوات ثابتة ومنظمة.
إن تفسير ظواهر الحاضر لا يمكن أن تنفلت من قيود الماضى. قد يطرح السؤال لماذا ؟ وأجيب فى جملة واحدة . لأن حوادث ووقائع الحاضر والتى نعتبرها كشاهد لها دور كبير فى خلق الوعى بالتايخ . بمعنى آخر أن المعطيات الراهنة تستنجد بالوقائع والتراكمات الغائبة . إنها تتخذ من التاريخ نبراساً وقدوة حتى لا تسقط فى وهاده العميقة.
يبقى أن أى محاولة جادة لإحداث صيغة علائقية ما بين المسرح والتراث لا ترقى إلى مستوى أنضج إذا انتفى فيها الانفتاح على الثقافات الأخرى وذلك بالأخذ من التكنيكات والأدوات التحليلية فى ميدان المسرح ومحاولة إخضاع تراثنا لهذه القوالب الحديثة، ومن ثم يصح لنا أن نقول مع عبد المسيح ثروت : "إن كل جهد مبذول فى سبيل تحديث التراث والعمل على تأهيله فى الفعالية الفنية يظل جهداً غير متكامل الجوانب والأوجه إذا انتفت الحرية فى أى منحى من مناحى البحث والاستقصاء والمقابسة ، ومن ثم فإن العمل الجاد الدؤوب فى هذا الصدد يبقى الأساس المكين لكل عمل مسرحى يريد أن يرقى إلى المستويات الفنية المنشودة... وهذا العمل مع ما فيه من هذه الحرية، وهذا الدأب لا يمكن أن يعطى ثماره الناضجة، ما لم تزد ثقافتنا المسرحية تنوعاً وعمقاً وحداثة، وهذا يعنى التعرف المستمر على الثقافة المسرحية العالمية من جهة وربط هذا التعرف بمصادرنا التراثية الفنية بمقوماتها الحضارية والإنسانية"([47])
إن محاورة الموروث الماضوى ومحاولة استثمار ما يمكن استثماره فى تسيير الحقل الاجتماعى وتكييفه ، تجسد لنا نوعاً من العلائق الوطيد بين المسرح والتراث باعتبار المسرح لوحة تشخيصية لمنظومة الأفكار وأنماط الوعى التى تعتبر من منظور ثان تجسيداً للعلائق الاجتماعية للبنية التحتية، هكذا حينما نصب التراث فى قالب تجديدى ونبصمه ببصمات العصر يصبح ذا منظور جديد.
فى هذا الطرح لإشكالية التراث نضع محاولات السيد حافظ التى تعكس لنا تطلعاته المحتدمة للتجاوز قوقعة الخيال الرومانسى والفردانية الحالمة على اعتبار أنها خطوة تطويعية لا تقف عند الشكل المتكلس للتراث بكل محتوياته الجرثومية بل تعتبر خطوة تجاوزية لما يمكن تجاوز وتحويل ما يمكن معالجته واستثماره فى وضعيتنا الراهنة. إنها المحاولة التى تحاول تكثيف جهود وقابلية الأفراد إلى طاقات جماعية، إنها بعبارة أخرى لا تقوم باحتواء الواقع بكل عمومياته وهى ليست بحثاً عن المطلق اللا متأثر بالزمن ولكنها محاولة انتقاء العناصر الإيجابية بناء دعائم الحاضر والمستقبل.
إن الكتابة المسرحية عنده هى قراءة تأويلية للواقع وهى فى نفس الآن قراءة فنية وتوجيهية لبنية هذا المجتمع . وإذا كانت الكتابة الفنية على وجه العموم والمسرحية على وجه الخصوص تتموضع داخل هذا التأطير فمعنى هذا أن حمولتها تستقى قسماتها من ثلاث منابع :
المنبع الاجتماعى.
المنبع السياسى.
والمنبع الثقافى.
إنها بعبارة أخرى الظاهرة التى لا يمكن الكشف عن مكنونيتها إلا بتفتيت الشروط الاجتماعية والسياسية ، وليس معنى هذا النص المسرحى يختزل إلى مجرد مرآة عاكسة أو انعكاس محاكاتى للواقع كما هو، بل إنه تجاوز للحظة التكريسية من أجل التغيير والتجديد.
إن هذا الربط بين الحقل الأدبى والحقل الاجتماعى السياسى فى مسرح السيد حافظ هو إبراز للحظات الأساسية التى تشكل المرتكز الأساسى فى تحديد نمطية الكتابة وبالتالى فهم أوالية النص الأدبى بوضعه فى تلك العلاقة الجدلية بين الثقافة والمجتمع. فإلى أى حد بلور السيد حافظ هذه الصيغة الكتابية من خلال انتاجاته؟
بناء على الرأى السابق يلاحظ أن الإبداع الأدبى يكتسب مشروعيته من خلال اللحظة التى ولد فيها. والسيد حافظ كمبدع ابن اللحظة التى دقت فيها أجراس الثورة معلنة ميلاد جيل جديد. إنه جيل الثورة والغضب ومن ثم جاءت كتاباته طافحة بالمرارة والغرابة بل وموسومة بسمة السخرية الباكية. يقول أحمد غانم فى هذا الصدد : " إنه جيل التحديات جيل كانت صرخته قنبلة هيروشيما وفطامه كان النكبة ، وحجله كان ثورة 23 يوليو " ([48])
إن السيد حافظ حينما يكتب يلتزم نوعية خاصة من الكتابة تربط ميكانيزم الحقل الثقافى بالمناخ والخلفيات الإيديولوجية السائدة فى مصر. فكتاباته بصفة عامة هى تجلية لتوعية العلائق القائمة بين أفراد المجتمع ومحاولة إعادة رسم حركة تغييره لبنية هذا المجتمع وذلك بانتقاد هفواته ومحاولة تحطيم القوالب والسلوكيات الطفيلية ، إنها بعبارة " سارتر" كتابات تحاول أن تكشف وأن تتجاوز وأن تحتفظ بجزء من الواقع مادة للتفكير والتأمل وبداية لتغييره "([49])
إنها بعبارة أخرى لحظة الرفض لكل تخاذل وتقاعس ، ودعوة إلى تطوير الحاضر والاستفادة من ثغرات الماضى. وهذا ما يجعل رؤية السيد حافظ متسمة بالعمق لكونها تنظر إلى التريخ فى حركته الدينامية التى تجعل مركب الأحداث فاعلاً وفى نفس الوقت مؤثراً على المراحل التالية له. إنها تبقى وسيلة للكشف تتجاوز ما هو كائن لما يمكن أن يكون. يقول محمد مسكين : " وبهذا تميز فى الكتابة المسرحية بين نوع يعمل على تكريس اللحظة وحصر التاريخ وهذه الكتابة تحكم على نفسها بالهامشية والاغتراب أى أنها تقصى ذاتها من التاريخ . أما النوع الثنى فهو الكتابة الساعية إلى التغيير ، وهى الكتابة المستقبلية المؤمنة بالتطور والتجاوز والتى تضمن لنفسها المشروعية التاريخية "([50])
هناك مجموعة من التساؤلات التى تطرح نفسها بحدة. هذه التساؤلات لا يمكن أن تجد لها إجابات جاهزة دون مساءلة النصوص الابداعية للسيد حافظ بوصفها الوجه الآخر له. ضمن هذه الأسئلة – ما هى الصيغة التعاملية التى ارتكز عليها فى تعامله مع التراث ؟ وهل استطاع بلورة اتجاه معين يحدد من موقفه ورؤيته لهذا التراث ؟
أولاً : يجب تحديد الخط الدرامى الذى استعان السيد حافظ بمسادة تراثية. إذ يمكن الرجوع فى ذلك إلى مسرحيته " ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى " و "حكاية الفلاح عبد المطيع " هذا إذا كنا نتغيا من التراث النماذج التراثية المستقاة من التاريخ العربى . أما إذا تعلق الأمر بالشكليات الأخرى من التراث كالتراث الشعبى أو آيات قرآنية وأحاديث نبوية ، فإن كتابات السيد حافظ لا تخلو من شذرات من هذا النوع مثلاً نجد الأغانى التى ترددها المجموعة فى مسرحية "الخلاص" تتسم بنكهة شعبية ، تقول المجموعة :
" عطشان يا صبايا
وانتى يا مصر السبيل" ([51])
النهاردة الحنة وبكرة الدخلة
والحنة دى يا عم سويسى
النهاردة الحنة وبكرة الدخلة
وخلى بالك يا عم من عريسى"([52])
" كلكم راع وكلكم راعية"
" الحلال بين والحرام بين" ([53])
وفى مسرحية " الحانة الشاحبة اللون تنتظر الطفل العجوز الغاضب" نجد السيد حافظ يرسم صورة للغول وهى صورة اسطورية شعبية"([54])
هذه الأمثلة اخترتها على سبيل المثال لا الحصر وأعود إلى السؤال الأهم: إلى أى حد تمكن السيد حافظ من استيعاب التراث على الخصوص فى مسرحية: "ابو ذر الغفارى " و " حكاية الفلاح عبد المطيع" ؟
إن السيد حافظ مثلاً حين يختار شخصية أبى ذر الغفارى فهو يستثمر الفكرة أو المقولة التى هى العدل ولا يهمه من الحيز الزمكانى سوى ترسيب هذه الفكرة فى الأعماق بشكل مغاير وتعامل جديد معها يهدف إلى تكريس خصوصيتها أى فى الزمان والمكان الذى يسوده الاستبداد والظلم الذى أشار إليه " بفاتك" ابن أبى ثعلبة وابنه " أبى المجون".
إنه كما قلت سابقاً لم يأخذ الفكرة بمنظورها الدغمائى المتحجر بل حاول أن يجعلها تتنفس بروح العصر ، وهذا ما جعل عبد الله هاشم يقول : " ففى مسرحية " ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى " جمع الكاتب بين الأصالة والمعاصرة، ففيها يلتقى أعرق مضمون مع أحدث تكنيك ... فيها يلتقى الحدث التاريخى المستمد من التاريخ الحياتى الدينى ممثلاً فى شخصية أبى ذر الغفارى مع أحدث ما وصل إليه التكنيك المسرحى المستمد من المسرح الطليعى. وهو هنا لا يعود إليها عوداً جامداً ، وإلا لما ارتفع بها عن أن تكون حكاية تاريخية كآلاف الحكايات التى تعج بها الكتابة التى كتبت عن هذا الصحابى الجليل، وإنما هو وقع على معطياتها الخاصة فيطوعها لقالب المسرح ويصبها فى إطار عصرى جديد محاولاً اسقاطه على العصر الحديث"([55])
إن هذه المسرحية تستقى معلوماتها من جذور التاريخ متخذة نموذج أبى ذر الغفارى الصحابى الجليل أساس رؤيتها . أن الكاتب يجسد هنا الفكرة المعنوية الضمنية . بعبارة أخرى أن أبا ذر الفكرة تتآلف وتتصالب فيها عدة مرتكزات:
الحرية – العدل – نفس الظلم – الكشف عن العملة الزائفة التى يتعامل بها المجتمع، ومحاولة إعطاء البديل".
واعتقد أن الكاتب قد أصاب فى تجسيد فكرته بحيث أفصح عن العنى بعيداً عن هرطقة التشكيل وأمراض الخلق القسوى.
يقول سعد أردش : " أن الهدف الأساسى عند الكاتب ليس المسرح فى حد ذاته ، ليس الصيغة الفنية على أى شكل من الأشكال ولكنه الكلمة المضمون، إنه يمتلئ بمضمون ثم يصبه فى قالب فنى، ومضامين ذات صبغة إنسانية لا تثير جانباً واحداً من جوانب البناء الاجتماعى ، إنك تلمس فى العمل الواحد كل ركائز التكوين الاجتماعى : الأخلاق ، الدين ، العلم ، الحضارة ، التاريخ ، التراث فى إطار الفكر السياسى والاقتصادى والعسكرى"([56])
وفى رأيى أن مسرح السيد حافظ وثيقة من أهم سماتها الرؤية التاريخية الاجتماعية الموضحة على ضوء تصورات ضمنية موجهة للنفس التاريخى فى علاقة مع البيانات الحاضرة وبالتالى تحقيق رؤية شمولية ومتكاملة فى نفس الآن. وهنا يثأر سؤال جوهرى هو : أين يمكن موضعة السيد حافظ فى إطار التحولات التى رصعت الحقل الثقافى عامة والفن المسرحى خاصة فى مصر ، وذلك انطلاقاً من السبعينات إلى اليوم ؟
إن ابداعات السيد حافظ بصفة عامة تدخل فى إطار الحقل التجريبى الطليعى الذى حاول تجاوز سلبيات الواقع ضمنياً وشكلياً انطلاقاً من تصورات ومفاهيم حديثة معللة أواليات هذا الوضع وميكانيزماته، ومساءلة النص تارة، ومحاورة الطرف الآخر الذى يمثله الطموح الجماهيرى وذلك بتحريك الوعى فيه وزرع نبته الشعور الجماعى فى أعماقه التى تخلصه من وباء الأنانية وتجعله يطمع نشدان الديمقراطية والحرية فى عالم أفضل.
يقول الناقد المغربى عبد الرحمن بن زيدان : " ومن النماذج التى كتبت ف هذا الموضوع ، موظفة التراث توظيفاً سياسياً يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة نجد مسرحية أبى ذر للسيد حافظ ومحمد يوسف حيث تتفجر فيها اللغة النمطية لتعلن عن هويتها الجديدة وعن انتمائها إلى العصر والى الوطن العربى. وذلك برؤية تخترق السائد وتمزق الأقنعة لتقديم ما وراء الأقنعة وما وراء المظاهر والشكليات للكشف عن الخلل والعطب جعل السير الديمقراطى غير سليم "([57])
إن هذه الإدانة لكل أساليب العسف والقهر ما هى إلا انعكاس للرؤية المأساوية والثورية لنفس الكاتب. إن اختيار الكاتب لشخصية أبى ذر بالضبط له ما يبرره فأبو ذر الصحابى الجليل الذى عانى ألواناً من القهر الذى كانت تمارسه السلطة باسم الدين فقد نفى من قبل عثمان إلى الربذة ومع ذلك ظل صلباً وصلداً متجلداً ومتمسكاً بمبادئه. وقد استغل الكاتب الكاتب بالضبط مكنونية الحديث الشريف قال (ص):" رحم الله أبا ذر يعيش وحده ، ويموت وحده، ويبعث وحده". وبالفعل لقد حاول الكاتب استيعاب الفكرة بما تحمله من ظلال وإيحاءات وحاول أدلجتها حسب ظروف زمانية ومكانية لا محددة بل وحاول موقعتها حسب إيقاعات الحاضر.
إن الكاتب لم يحدد عصراً بعينه ولم يرسم زمناً بعينه، ولكن انتقى بالضبط مقولة الديمقراطية وحاول تطويق عنق الزمن المفقود بهذا الشرط. بعبارة أخرى أنه حاول أن يجعل من قضية الديمقراطية فكرة سائحة فى كل دروب القهر والاستبداد تبعث فى الزمن الذى يرشح جبينه بالذل والعار فتحاول تخليطه.
من هنا نستشف بأن تمرد الكاتب ليس تمرداً عشوائياً بل تمرداً واعياً على كل أسباب الظلم والاستبداد ، إنه الدعوة إلى التغلب على مآسى الإنسان العربى ووضعه المزرى بالتحرر من رواسب الظلم والاستغلال السياسى. من هذه المنطلقات يعتبر التراث الرحم الحقيقى لكل انتاج جديد. وبما أنه لا يمكن الاعتماد على التراكمات الكمية وحدها فإنه لابد من ربطها بالوضعية الراهنة ومحاولة تكييفها لتصبح أكثر إنسجاماً واتفاقاً مع مفاهيم العصر ومقولاته. وذلك حتى يتحقق نوع من التوازن فى هذه الرؤية التوليدية إذا صح هذا التغيير.
من هذا المنطلق اخترت مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع " باعتبارها نموذجاً يصب فيه منظور الكاتب إلى التراث وكذا رؤيته إلى العالم باعتباره المؤسسة المرجعية لأى فن من الفنون.
التراث المتحرك وقضية الإنسان والوطن :
مسرحية حكاية الفلاح عبد المطيع نموذجاً
تتكون المسرحية من فصلين :
الفصل الأول : من ص : 5 – 28
الفصل الثانى : من ص : 29 – 61
يفتتح فيها الراوى كلمته : " سيداتى.. آنساتى.. سادتى هذه الليلة سنعود إلى الوراء إلى زمن كان الإنسان مفقود القيمة يهان، كان الإنسان الحيوان قوى النفوذ والسلطان، هذه الليلة نقدم لكم حكاية، وحكايتنا ليست عن هاملت أو هنرى الرابع أو حتشبسوت أو نابليون أو أى ملك من ملوك الأرض"([58])
فبنية المسرحية تنقسم إلى شطرين أو فصلين كما يسميه المؤلف. هذا الكلام الافتتاحى يحملنا إلى الوراء إلى حلقة تاريخية مبثورة من عمر الزمن ليحكى لنا حكاية الفلاح عبد المطيع، حكاية الإنسان العربى فى العصر المفقود السمات والملامح . إن عبد المطيع هو ذلك الإنسان المهمش يستجدى لقمة العيش لأطفاله العشرة ولا يجد من ورائها إلا النكاد والنكال.
المكان : نشير بالجزء إلى الكل – الكل الأصغر – (القاهرة / مصر) إلى الكل الأكبر (العالم).
"الراوى:قلبه يتسع ليحتوى العالم ويداه صلبتان فى صلابة صخر النيل"([59])
المكان منفتح ليشمل كل بقع المعمور التى يتولى ويسيطر عليها الاستبداد والقهر.
الزمن : يتجاوز الزمن النسبى الذى حدده انشتاين ليحقق ذاته عبر كل الأزمان. إنه الزمن المطلق.
إن المسرحية تتمحور بصفة عامة حول نسيج من العلاقات والانساق التحى تشكل فى حد ذاتها بنية تقوم على الثنائية الضدية : فقير / غنى – السلطة الرأى / الشعب المنفذ – القوة / الضعف.
لقد حملها الكاتب " بنية النص " مسؤولية كبيرة تتجلى فى فضح أساليب القهر والقمع التى تنهش جسم الأمة الإسلامية العربية وتمرير الوعى بين الجماهير وأشعارهم بالمسئولية فى هدم كل حكومة ديكتاتورية أو مؤسسة قمعية تستنزف قوى الجماهير الشعبية وتخلخل بنيتتهم المجتمعية الاستقرارية.
يقول حسب الله يحيى : " حكاية الفلاح عبد المطيع حكاية فيها دلالة حاضرة ومعانى كبيرة وفعل ماضى يأخذ امتداده الزمانى.. فى عصرنا.. ففى عصر المماليك .. يشكل مرض السلطان أهمية فى حياة الناس ، فإذا جاءه المرض، كان على الناس أن يرتد والملابس السوداء الحزينة ، وإذا شفى من مرضه ارتدى الناس الملابس.([60])
عبر المقطع الأول تنكشف بنية التصارع على المستوى الداخلى والخارجى. عبد المطيع فى تصامده مع الواقع الاقتصادى وغلاء المعيشة. يقول عبد المطيع مخاطباً حماره : يومان بلا عمل أنت وأنا "([61])
صراع داخلى يتجلى فى تصادمه مع زوجته نفيسة أو أم بثينة كذلك صراع بثينة مع زوجها هند : " لا أعرف لماذا تفعل معى هذا؟"([62])
والصراع الثالث بين أم بثينة وعشيقة زوجها فاطمة :
" فاطمة : صباح الخير يا أم بثينة.
نفيسه : من أين يأت الخير. هل يراك أحد ويجد الخير؟ هل يرى أحد وجهك ويشعر بالخير، الخير عندما يرى وجهك يفر يهرب، من أين يأتى الخير يا وجه النحس"([63])
صراع على مستوى آخر : بين عبد المطيع والسلطة بعد أن يقر عبد المطيع من سلطة الزوجة يقع فى يد سلطة قنصوه الغورى، لأنه لم يرتد ملابساً سوداء حزنا مع المؤسسة الاجتماعية التى ينتمى اليها. فهو لم يفهم ، يريد أن يرى مبرراً مباشراً لهذا الحزن حتى يعد لقائه مع مرسى وأم مرسى وأحمد يظل جاهلاً لسبب حزن المدينة، يظل الوحيد الذى يرفض منطق هذه المدينة.. إنه قاعدة استثنائية تريد تأكيد الفعل.
" عبد المطيع : أيها الناس أنا ذاهب إلى رئيس الشرطة (ينظر من حوله يكتشف أن الناس قد انفضوا من حوله، وأنه الوحيد الذى وقف مع الشرطة" ([64]). ستار الفصل الأول."
إن هذا الصراع والتناقضات تشكل خاصية تحدد بنية الحوار المسرحى فهى بذلك تعد مؤشر بنائى جديد فى تحديد بنية المسرحية التى تأخذ شكل سلسلة حلقية مترابطة.
الفصل الثانى ينفتح من جديد على الراوى:
" كل القاهرة نفذت الأوامر إلا هو"
عبر هذه الأوعية الحوارية يضاء القصر من جديد وما يندس تحت جدرانه من أجهزة قمعية مسخرة لخدمة السلطان – الوزير، مستشار أول ـ مستشار ثانى، منادى ، شركة... بالإضافة إلى ذلك أن نمطية النص تفرض علينا رؤى معينة متقصية فى أكتناه أغواره ومعاينته بل والغوص على المكونات الفعلية له والعلائق التى تربط بين لوحاته حتى يتم تحويله إلى نص مكتفه فاعل. وهذه الرؤية فى حد ذاتها تتغيى القفز على ما هو جزئى عرضى إلى ما هو جوهرى كلى.
وإذا كانت فاعلية اللغة تنبع من تلك الشبكة المفاهيمية التى تربط كل جزء بالآخر لتؤسس ما يسمى بالمعنى الكلى أو البؤر الرؤيوية التى تتمحور حولها المسرحية وهى إدانة الواقع والثورة عليه من أجل تكسير القيم الزائفة السائدة فيه وخلق تنظيم اجتماعى تسوده علاقات سليمة. كما نستشف من خلال النص الصراع القائم بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة. الفلاح عبد المطيع فى مقابل السلطان قنصوه الغورى الشعب المهضوم الحقوق فى مقابل الأعيان. عبارة الأستاذ عبد الرحمن بن زيدان: " إن هيكلة الحكاية تقوم على أساس من الثنائية الضدية . فمسار النص يتبلور فى أحداث متضادة وأماكن متباينة :
عالم عبد المطيع / العالم النقيض
الكوخ / القصر
عبد المطيع / السلطان قنصوه الغورى
الفقر / الغنى
الأبيض / الأسود
الأسئلة / الأمر
هم جماعى / هم فردى"([65])
بعبارة أخرى أن صلب المسرحية يأتى اعلاناً عن حدث بنيوى يؤطر حياة الشخصية المحورية " عبد المطيع" وهذا الإعلان هو بمثابة إظهار لنوعية الفعل ونقيضه عبد المطيع الفلاح البسيط / عبد المطيع المتمرد على السلطة. ومن ثم تكون مجموع الحواريات إضاءة وتوضيح عبر تسلسل الأحداث للأسباب الكامنة وراء هذه المحاذير التى يقع فيها عبد المطيع.
إن تسلسل الأحداث هنا لا يعنى ترتيبها الكيفى الزمنى، لأن عبد المطيع فى عهد قنصوه الغورى هو عبد المطيع فى أى عصر يسوده الاستبداد والقمع وخنق حريات التعبير، كما نستنتج بأن الأحورة فى كليتها تنطلق من الماضى للتأشير لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، وهذا ما يؤكد لنا دائرية الخط الزمنى.
الانطلاق من الماضى لإضاءة الحاضر، نلاحظ كذلك أن الإيقاع الزمنى لا يسير على وتيرة واحدة، فهناك عدة مستويات:
طريقة السرد : يمثلها الراوى والكورس والمنادى ، وهى ذات طبيعة إخبارية.
الخطاب المسرود الدخلى " المونولوج الداخلى" عبد المطيع حين يخاطب حماره : " يومان بلا عمل أنت وأنا، لا أعرف أنك غاضب عندما تكون عاطلاً تغضب منى.. من الدنيا من كل شئ.. السبب ليس منى.. لست مسؤولاً عن شئ مما حدث أتفهم..؟"([66])
نلاحظ أن هذا التعدد والتنويع الصيغى والذى يهيمن من خلاله الخطاب الحوارى بطريقة مكثفة، ثم تأتى صيغة المونولوج الداخلى المتمحورة حول الذات كتنويعة جديدة لتبديل مجرى الحكى. هذا بالإضافة إلى الخطاب المعروض المشخص والذى يشكل كما قلت لبابية البنية الحوارية.
إن هذه التنويعات تضفى على البنية الحوارية بعد جمالياً وفنياً بحيث نعاين فى النص تبدلات رؤيوية. هذا التعدد على مستوى الرؤية يحيلنا على مستوى آخر من التنوع أو بالأخرى التقاطع فى بنية الشخصيات.
الشخصية المحورية : بنية الرفض والتمرد – الوعى المغيب.
إن هذه الشخصية النمطية هى امتداد للماضى واستشراف للمستقبل. وقد توقف الكاتب فى بنينة أبعادها بشكل يلحم الماضى بالحاضر، يجمع بين الأصالة والمعاصرة. لقد قال فى هذا الصدد يونسكو : " الكاتب المسرحى الجديد هو الذى يحاول أن يربط بين الحاضر وبين أقدم القديم ، وهو الذى يستخدم لغة جديدة وموضوعاً جديداً ليبنى بناء مسرحياً يهدف إلى أن يتخلص من كل ما هو ليس ضرورياً والى أن يكون مسرحياً إلى أقصى حد. فهو ينبث التراث ليكتشف التراث وهو يجمع بين الخاص والعام وبين الفردى والجماعى، من هنا أعبر عن أعماق انسانيتى وبذلك أصبح مثل الآخرين مشاركاً لهم متخطياً حواجز المكان والفردية، إذ أنى عندما أعبر عن عزلتى أعبر عن عزلة الجميع"([67])
إن عبد المطيع الفلاح البسيط يستمد انتماءه من هذا المجتمع الواقع تحت هيمنة القصر والفرض لا يجد بداً من اتخاذ فلسفة خاصة به توضع له سراديب القهر والتسلط التى يعيش فيها، إنه يتبنى فلسفة النفى أو ايديولوجية العرى أو الجد إذا صح هذا التعبير. إنه عن وعى أو غير وعى يعيش مغترباً داخل هذه الكلية المجتمعية ليعارض كل الضوابط والنواهى التى يرتكز عليها هذا المجتمع.
إنه يضرب كل القيم والمبادئ الزائفة التى يتعامل بها هذا المجتمع ليفرض حدوداً معينة يصوغ من خلالها تمرده ورفضه " لا أريد أن أكون قاضى قضاة أريد أن أكون من العراة"([68])
فحين يقول له السلطان : " لقد أعجبتنى قصتك عندما سمعت بها، قررت تعيينك يا عبد المطيع قاضى القضاة"([69])
إن الاعجاب هنا ليس إعجاباً به كذات وإنما خوفاً منه كمؤشر على الثورة على اعتبار أن الإنسان بؤرة للتناقض ، فعبد المطيع الإنسان البسيط هو ذاته المتمرده.
" رئيس الشرطة : (وهو يدور من حوله) أنت يا رجل متآمر.
عبط المطيع : نعم ؟ (بدهشة واستغراب)
رئيس الشرطة : تعلن العصيان.
عبد المطيع : ماذا تقول ؟
رئيس الشرطة : ترفض الاستجابة والخضوع والمثول لأوامر السلطان.
عبد المطيع : الشعير فى السوق شحيح.
رئيس الشرطة : تدعو للثورة.
عبد المطيع : الحمار جائع.
رئيس الشرطة : رموز وغموض وكلمة السر التى بحثنا عنها"([70])
وحتى يضع عبد المطيع منعاً كلياً من تصرفاته يريد قنصوه الغورى أن يعينه "قاضى القضاة" إنها فلسفة الإسكات والقمع، لكن عبد المطيع يرفض " لا أريد أن أكون قاضى القضاة ولكن أريد أن أكون من العراة".
السؤال الإشكال الذى يطرح هو : هل المفهوم الطليعى التجريبى كنظرية قائمة على أسس وتقنيات تنظيرية وعلى جهاز مفاهيمى موحد تحققت بالفعل عند السيد حافظ خصوصاً فى الأدوات التعاملية مع النص مثلاً : اللغة، الديكور؟
بالفعل إن السيد حافظ يلتقى مع منظور اللا معقول إلى اللغة فى كونها:
" أصبحت متوقفة عن التعبير وتقليدية أكثر من اللازم، فهى قناع يخفى الفكر والعاطفة أكثر مما يفصح عنهما.. ولذلك فمضمون المسرحية يكمن فى الحدث نفسه حتى أنه أحياناً يمكن الاستغناء عن اللغة كلية"([71])
فمن خلال المقطع السابق نجد أن رد عبد المطيع عبارة عن هلوسات لا معنائية لها داخل النسق الحوارى، اللهم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسرحية تنطلق من فكرة جاهزة يعمل على إيصالها للطرف الآخر – المرسل إليه - ، وهى صدم الإنسان العربى بهذا الواقع المزرى، باعتبار أن وراء اللا وعى يكمن الوعى والحقيقة، ومن ثم فمن وراء الكلمات تكمن الحقيقة، وعلينا نحن أن تغوص وراءها لاستشفاف معنائيتها ، علينا أن نقرأ النص ونفهمه من خلال اللغة الثانية، بعبارة أخرى علينا أن نستقرأ النص لاستخراج حمولته السياسية والاجتماعية.
إن تفكيك رمزية هذا الكلام تحيلنا على اللبابية والجوهرية الكامنة وراءه، وهى فضح وتعرية هذا الواقع بتصحيح وتغيير مفاهيمه المغلوطة بمفاهيم تغييرية جديدة. إن الرفض هنا هو بداية التجديد باستئصال شأفة النظم السائدة وبناء نظم ومفاهيم أكثر فعالية وأكثر خلخلة لبنية هذا الواقع، تتجاوز اللحظة لبناء لحظة أكثر تماسكاً وتوحداً.
عبر هذا النسق التكرارى الذى يتخلل المسرحية تبرز لنا الصورة الاجتماعية التى ترتسم فى ذهن الكاتب النازعة إلى حيز التطبيق. بمعنى آخر عبر هذه البنية المتشابكة اللحمية التى تؤطر المسرحية تظهر البؤرة الرؤيوية التصويرية للكاتب : التغيير الديمقراطية، تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتأكيد على الاستمرارية. وهذا يتفجر منذ رفع الستار : " حكايتنا ليست عن هاملت ... أو نابليون.. وإنما عن عبد المطيع الفلاح البسيط " . تجذير الحاضر من خلال الغائب ، إن إنبات الزمن الماضى فى هذه الحركة المتواشجة له رؤية خاصة تنحدر من الزمن الماضى لتتدفق فى سيل الحاضر – المستقبل.
من هذا المنطلق نجد السيد حافظ يكشف عبر بنية النص عدة قضايا وإشكالات كانت مطروحة على الساحة العربية ولا زالت مطروحة، إنها قضية الظلم والاستبداد التى تتجدر فى عمق التاريخ " فى عصر المماليك " فى مقابل البحث عن الوجه الآخر الموجب – الديمقراطية. وهنا تظهر محاولة التجاوز، فالسيد حافظ لا يكتفى بوصف عنف السلطة والممارسات القمعية فى علاقتها بالإنسان المقهور فى شرط تاريخى معين، بل يغوص فى أعماق التجربة الديمقراطية لفك ألغازها ومحاورة البنية العميقة القائمة على الثنائية الضد، الأنا فى مقابل الجماعة، الأمر فى مقابل التنفيذ ، وفى هذا كله نجد أن السيد حافظ لم يحدد الحيز الزمكانى ولكنه فيما يبدو لى لم يهمل أى شريحة من شرائح التاريخ العربى حيث ألقى الإضاءة من خلال الماضى على الحاضر.
لكن هذا التواشج والتكامل الذى يبرز على مستوى المحور الزمنى ينقطع ليتحول إلى رؤية انشراخ على مستوى العلاقات المكانية والعاملية أو الشخصية.
فالديكور رغم بساطته وتجريبه ، فهو يعكس على الأقل نوعاً من التقابل ليتنامى بعد ذلك هذا التصور حتى على مستوى الأحورة – الوجه الآخر للشخصيات – فخطاب المستشارين والشرطة فيه نوع من القوة والعنف، وخطاب الطبقة المسحوقة الممثلة فى عبد المطيع فيه نوع من السذاجة واللين.
" شرطى 2 : (يمسكه من قفاه ويسجب) هيا أمامى.
عبد المطيع : أنا أمزح معك.. ألا تحب المزاح ؟ يارجل دعك من هذا التصرف الأبله.. سأحضر معك لا داعى لهذا (يهمس فى أذنه : الناس ستقول عنك قاسى القلب دعنى.. سأحضر معك دون ضجوة"([72])
فمنذ بداية الفصل الثانى تتكشف الحركة الجديدة المؤسسة لبنية النص وهى الثنائية الضدية التى تبرز عبر سياق التحولات والمفارقة فى كل شئ. وهو انشراخ ينبع من مفهوم الاستمرارية " التمرد من أجل البقاء " أريد أن أحيا ولكن انطلاقاً من قانون أساسى أتبناه لنفسى " أريد أن أكون من العراة " انطلاقاً من قناعات خاصة.
إن هذه الصورة تشكل العلامة الأساسية الثانية التى تتمحرق حولها المسرحية ، وتتجلى هذه العلامة فى شبكة العلاقات " التشابك ، التضاد" الذى ينبع عن تصور الكاتب للوجود. التضاد الذى يشكل كنه العالم وتصادمه بالتشابك الذى يريد أن يخلقه الكاتب بل نبحث عنه نحن كذوات داخل هذه المنظومة الكلية.
إن توجيه المسرحية بهذه الصيغة :
محور تواشج والتكامل بين قطبى الزمن : الحاضر / الغائب.
محور الثنائية الضدية التى تؤسس لنا بنية الفضاء واللغة "الحوار" والشخصيات.
إن السيد حافظ بهذه الخيوط المتكاملة يؤسس رؤية خاصة للعامل موضحة فى هذا العمل المسرحى الجاد الذى تكتمل فيه ملامح الدعوة والتطبيق. لقد أكد ملامح البطل التراثى من خلال منظور حداثى يجمع بين الأصالة والمعاصرة وبذلك ينحت مكانة بارزة فى المسرح العربى عامة والمصرى خاصة.
البطل الرمز وتجريبية الكتابة
سيكون منطلقى فى هذا الفصل هو التساؤل : ماذا يمكن أن تكون الكتابة المسرحية ؟ هل هى نسخ للواقع أو التقاط فوتوغرافى له؟ أم هى إعادة لهذا الواقع فى صورة هندسية تتحدد من خلالها قناعات الكاتب ومنظوره الخاص لهذا العالم؟
الإجابة لن تكون بالطبع فى قوالب جاهزة إنما ستكون منطلقة من بنى نصوص مسرحية سأحاول من خلالها رصد القيم والفكريات المنصهرة فى بوتقة هذه التجربة. وذلك من خلال استجلاء أصول ونواميس هذا المجتمع بعد تفكيك أنسجة بنيانه والوقوف على كل الوشائج العلائقية التى يمكن أن تساعدنا على إيضاح التجسدات المجتمعية.
إن الاسترشاد بهذه الطريقة قد يفيد البنى الفكرية على ضوء المواضعات الاجتماعية، فى تأطير النصوص بهذه الصيغة التى تمدنا بالفروض والاحتمالات والممكنات التأويلية.
من هذا المنطلق يمكن اعتبار الكتابة المسرحية صورة دينامية تنصهر داخلها مجموعة من المكونات والإطارات المتكاملة التى ترتكز عليها البنى المجتمعية كيفما كان نوعها.
ومن نافلة القول أنه لا يمكن فصل وتجريد الحركة الفكرية كظاهرة فعلية عن محتوى الأجهزة التنظيمية والمؤسسات الاجتماعية.
إن النكسة (67) فيما يبدو لى هى ذلك المفتاح الذى سيساعدنا على فهم الطقس الذهنى للمجتمع العربى ومن خلاله فهم الترسيمة الفكرية للسيد حافظ وقد انفتح السيد حافظ على مجتمع متفسخ بلغ فيه التردى ذروته. فلم يكن أمامه من وسيلة سو التمرد على هذه المواضعات الاجتماعية. لقد حاول التنصل من هذا الواقع المزرى ولكنه فى الوقت ذاته حاول إثبات ذاته من خلال نفيها. فعبر متاهات هذا الكون حاول أن يمارس حياته من جديد. إن تمرده يحمل فى طياته تناقضاً صارخاً، الاغتراب من أجل الاثبات، الابتعاد عن هذا الواقع الملطخ بدماء العار والهزيمة من أجل خلق صورة أكثر تكاملاً ونضجاً، وهذا ما نستشفه من خلال البنى الدلالية للخط الدرامى الذى تبناه السيد حافظ والذى حاول من خلاله تسليط الضوء على هذا الواقع المتكلس وإبراز خطوطه المتداخلة وتعرية تناقضاته والكشف عن الشبكة العلائقية بين الأفراد القائمة على الزيف وذلك من أجل إنارة الاغتراب الإنسان داخل هذا العالم.
إن كتابات السيد حافظ تحمل طابعاً إنسانوياً بل بل خصوصيات وتلوينات مميزة جعلته يستحق لقب " مسرح الإنسان" حسب تعبير عبد الله هاشم الذى يقول: " إن مسرح السيد حافظ مسرح الإنسان فى واقع اجتماعى معين يموج بالصراع وهو مسرح يقترب من المسرح السياسى"([73])
إن المسرح السياسى هو فى حقيقته اكتناه للمسئولية الفردية اتجاه هذا المجتمع. فحين يتساءل الإنسان عن اللحظة المطوقة لعنقه فهو يعبر عن السخط الداخلى. الذى يحيله إلى ثورة على الواقع وبالتالى فإن التصادم مع بنية هذا الواقع هى رفض له وبحث عن الجديد.
ويوضح عبد الله هاشم ذلك قائلاً : " المسرح السياسى فى جوهره ليس ومسرح شعارات ولا مسرح أفكار تلقى من فوق خشبة المسرح كما تلقى الخطابة، ولكن المسرح السياسى الحقيقى هو توضيح للرؤية الاجتماعية والسياسية فى بلد ما ... هو بلورة العواطف الثائرة فى شكل منظم، إن وظيفة المسرح الحقيقة هو إن يسأل الأسئلة التى يجب أن يسألها المجتمع فى لحظات القهر، ولا يجب أنم ننتظر منه أن يجيب على هذه الأسئلة، وإنما عليه فقط أن يسألها حتى تتخذ شكلاً محدداً"([74])
إن مسرح السيد حافظ هو مسرح ثورى يشهر سلاحه ضد كل أدوات القمع والتسلط التى تحاول تقزيم دور الإنسان داخل هذا الكون، إنه منبه لهذه الانسانية للخروج من مأزقها.
إن أبطال السيد حافظ يناضلون من أجل الحق ، ويتوضح ذلك من خلال البنية الدلالية التى تؤطر مسرحه ككل.
ففى مدينة الزعفران يقود البطل " مقبول عبد الشافى" ثورته تحت شعاره " الرفض لمعانى القهر"، "هيا نمضى من مدينة يبحث فيها الأقوياء عن الكلاب المفقودة ويسجنون فيها الإنسان"([75])
إنه استنهاض لهمم هذا الشعب المهزوم "يهربون، ويلغون العقل والوعى فى سيجارة حشيش أو ثدى إمرأة ، أو كأس، أو نوم، أو صمت"([76]).
إن مقبول عبد الشافى هو روح النضال ، هو سيف الحق الضائع الذى يظل الشعب فى انتظاره. إنه القيمة المفقودة فى هذا السوق الكاسد وعلى الشعب أن يبحث عنها فى لجاج هذا اليم العميق.
إن هدف البطل الثورى هنا هو تمرير التوعية بين تلك الشرائح الاجتماعية التى ينتمى اليها ، وترغيبهم فى تغيير الهيكلة الاجتماعية التى يعيشون فيها بل وأخذ حقوقهم بأيديهم لأن الحرية حق اجتماعى لا تمتلكه طبقة دون أخرى.
" إن أشخاص السيد حافظ نوعان متمردين وآخرين يجب التمرد عليهم ... الأول رافض والثانى يحاول الدفاع عن نفسه" ([77])
ونفس المواصفات التركيبية تنطبق على البطل " عبد المطيع " فى مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع" الذى يدخل اللعبة مع السلطة ويظل متشبثاً بأفكاره، وكذا " أبو ذر الغفارى" البطل الثورى اليوتوبى الذى ينظر إلى الأشياء فى بنيتها الشمولية المطلقة ومن ثم تبقى هذه الثورة ملونة بطابع فنتازى " ذلك أن أبطال السيد حافظ يصبون ثورتهم فى كتاباتهم وهتافاتهم ولكنهم لا يصنعون الثورة باى حال من الأحوال"([78])
وفى مسرحية " علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا" يصر الكاتب على ترديد نفس النغم، والهدف من وراء ذلك هو ألا نشيع النظر ونبكى على أنفسنا، يجب أن نقاوم وألا نسقط كبش فداء، يجب مواصلة المعركة ، أن الحياة تحث على الاستمرارية والمقاومة وهذا ما تصوره المسرحية من خلال تصادم العقليتين "السجين1" " السجين 2".
وعلى أى حال فإن مسرحية " 6 رجال فى المعتقل 500 شمال حيفا" حللت بشكل أكثر دقة وأكثر ملاحظة نفسية السجناء الستة لتعطى فى الأخير صورة أبعد عمقاً من الأولى إذ يتحقق فيها نقد لاذع لشبح الخيانة والتقهقر رامزة بذلك الضابط حسين، الشاب الفقير الذى يحاول أن يرقى فى أقرب وقت مهما كانت الوسائل. إن الكاتب بتصويره لهذه النمطية السلوكية يدين الطبقة المتوسطة ويحاول أن يحيى فيها صيحة الضمير.
إن السيد حافظ عبر هذا الخط الدرامى الذى اتخذه ذريعة تعالج آراء وقضايا تتجسد فى المأساة الإنسانية والخواء والفراغ الذى تعيشه، جعلت عبد الله هاشم يقول : " وكل مسرحيات السيد حافظ تحمل رؤية عميقة وجادة وهى لوقوف مع الإنسان البسيط ضد القهر والظلم الاجتماعى والسياسى"([79]).
من هذا المنظور يمكننا القول أن الخيط الرابط بين هذه البنى الفكرية هو انتشال الإنسان من هذا العالم المستنقعى واستنباته فى عالم جديد مبنى على مبادئ أكثر صلاحية للتأقلم مع وضعنا الحالى.
ترى هل اختار الكاتب هذا الخط الدرامى لتجسيد وقائع هذا العالم المزرى فحسب أم أنه توسل به لتجسيم منظوره الخاص من هذه الحياة؟
إن كلتا الحالتين تعطينا الجواب بنعم. إن البقعة الزمكانية التى ينتمى اليها الكاتب كانت كفيلة بتفجير هذه النمطية الذهنية التى تحمل المواصفات الاجتماعية والسياسية لعهد النكسة. والتى خلقت ما يسمى بلحظة الوعى/ التمرد.
إن هذا النوع من التمرد كما يقول عبد المجيد إبراهيم : " هو ضد المواصفات الاجتماعية سواء وضعها الإنسان بنفسه أو التقليد الزائف أو جاءت بها الحضارة"([80]).
إنه بعبارة أخرى يعالج قضايا مباشرة ليرتفع بها إلى رؤى أكثر شمولية وإنسانية. إن إنسان السيد حافظ هو ذلك الإنسان المأزوم المستلب، ولكن السيد حافظ لا يجعل هذا الاستيلاب يقضى نهائياً على هذه النفوس بقدر ما يصنع منها إنساناً حراً لأنه يؤمن أن الإنسان قادر على التغيير إذا لم يركن إلى الاستكانة. يقول عبد الكريم برشيد : " المسرح بحث فى وقائع الذات – ذات الفرد وذات الجماعى – وبذلك فهو يؤرخ للحلم والألم والفرح والصراع والغضب والخوف والطمع والنضال..."([81])، وهو ما نلمسه فى مسرح السيد حافظ.
إن اكتناه الظاهرة السلوكية هو فى واقع الأمر إبراز لملامح الصورة الاجتماعية ، من هذا المنظور بالذات تنطلق ابداعات السيد حافظ لتتخذ ابعادها الرؤيوية وقد كانت القاعدة الاجتماعية المؤطرة للذرة الكونية التى ينتمى اليها الكاتب عاملاً مهما لتحديد سمات شخصياته ونمطية تفكيرها المرتبطة بأوضاعها المعيشية.
وليس معنى هذا أن منظور الكاتب معصوم من أى إيقاعات ايديولوجية، بل بالعكس، إن هذا الشكل من التعامل يؤسس لنا منظوراً إيديولوجيا خاصاً فهو لا يريد أن يعيش الدائر الفلكية فى تراتبيتها أى فى تكرار ما مضى من الحوادث فهو ينطلق من جهة أولى من مبدأ أساسى هو رفض التقليد ليس كشكل أو طقوس خاصة وإنما كعمل مفروض يتسم بالأحادية، لأنه فيما اعتقد أن تكرار الظاهرة أو النمذجة بجميع سماتها سيكون عملاً ببغاوياً تكرارياً لا أثر فيه للإبلاغ وللتجديد. ولأنه من جهة ثانية المبدع الحقيقى هو الذى يقفز من شئ الشئ إلى خلقه، ومعنى الخلق هو استيعا هذا الشئ ونقله من الراهن إلى المحتمل أى من اللحظة المتحققة إلى اللحظة الممكنة.
إن السيد حافظ بحق مبدع سواء تعامله مع الشخصيات المتخيلة لتجسيد منظوره أو مع الشخصيات التراثية كما أشرت سابقاً. وكنموذج على سمة الوعى المغيب الذى يهجس بأبعاد اجتماعية انسانوية نجد ضياء فى " ستة رجال فى معتقل 500 شمال حيفا" يجسد هذه النمطية يقول : " شفتى يا حبيبتى النيل ما تخليش النيل يأخذ موج البحار أم العواصف أم الجنون والغضب"([82]).
أو قوله كذلك فى حوار داخلى يفصح عن مكنونية هذه النفس المأزومة تحت ضربات القهر : "يا حبيبتى الصبر مقدمة أولى، الصبر مقدمة ثانية، الصبرى نتيجة، نتيجة الصبر بشاعة، الصبر سفينة ماشية، ماشية على خطى نجوم حمرة رهيبة، يا حبيبتى أنت غريقة"([83]).
إن هذه الهلوسات المحموعة هى اللاوعى بل هى الحقيقة التى يجب أن نعرفها ويجب أن نكتنه أعماقها، إن السيد حافظ لا يقف عند المستوى الاستظهارى الوصفى بل يتجاوز إلى مرحلة الكشف والبحث، فحينما يتحدث تنقلنا شخصياته التراثية معها إلى الأجواء النموذجية المثالية، ولا أقصد هنا بالمثالية، التجريدية بمستواها الفلسفى المتعالى عن حيثيات الواقع التجريبى، بل أقصد بها مستوى حضور نموذج أسمى تتجسد فيه مفاهيم وقيم إنسانية معينة. بمعنى آخر أن السيد حافظ يناقض اللحظة الراهنة لا من أجل الهدم فقط وإنما من أجل خلق حركة تفاعلية وتحاورية. إن هذه الحركة التجاوزية التغييرية هى مفصل التجدد والإبداع الذى وصل إليه السيد حافظ.
إن شخصياته بصفة عامة تحمل هواجس شعب، بل إنها شاهدة إثبات للحظة التصدع والتناقض الذى يعج به المجتمع ، بل إنها اختراق لحجب اللحظة بطموحاتها وأحلامها. ومن هنا فهى تكتسب معنائية خاصة، لأنها تتجاوز لغة الأنا لتتفجر عبرها لغة الذات الجماعية والأبعاد المستقبلية التى تكتته أصواتها ومواقفها.
وهذا الوجه المستقبلى لا يطرح فقط على مستوى الشخصيات بل حتى على مستوى الزمان والمكان.
من أجل تركيز هذه النمطية هذه النمطية الكتابية اختار السيد حافظ المسرح التجريبى بقوالبه وتقنياته الحديثة لتجسيد فهم جديد ورؤيا جديدة للواقع تتجاوز الصيغ المتواجدة فى مجال المسرح بصفة عامة. وتظهر هذه التجاوزية فى تداخل الأزمنة – مثلاً إضاءة الحاضر من خلال الماضى – فهذه الوحدة الزمانية عند السيد حافظ متجاوزة، إذ أن غرضه ليس الربط بين حلقات الزمن فى صيغة دياكرونية وإلا لما اختلف دوره عن درو المؤرخ فى سرد الأحداث بتفاصيلها، إذ أنه يختار حلقة ما من تاريخنا ويحاول تشكيلها وفق معطيات العصر كما فعل مثلاً حينما اختار العصر المملوكى فى حكاية الفلاح عبد المطيع وحاول صياغتها بشكل جدلى مع عبد المعطى الحاضر.
إنه يشكل من الزمان وحدة دينامية كما جعل من إنسانه وحدة متحركة ونشيطة، بل كتلة علاقات تبلور وتطور الأحداث ، إن الزمن بصفة عامة عنده ينطلق من مبدا استحضار لحظة الغياب فى الحضور. قد تبدو هذه الصورة فى الظاهر سالبة تعكس صورة الأنا على الهنا الذى هو اللا مكان – فردوس الشورى– مدينة الزعفران . غير أن هذ التغييب له ايجابياته التى تكمن فى فرض وحدة زمكانية تبحث لها عن التأصل ، عن التحرر بدل ا لانقياد لقواعد مفروضة. إن السيد حافظ يحث عن الزمن الممكن ولا أقول المطلق البعيد عن التحقق التاريخى لأن ذلك سيزيد انغلاقاً من ضمنية التأويل أو أى قراءة تفسيرية. ولكن فيما يبدو لى هو زمن مستقبلى يسقط اللحظة من حلقة الزمن ليعيد صياغتها الممكنة. بعبارة أخرى أنه هادم للحظة التوثر، بناء للحظة التعرب من الكائن إلى الممكن. يقول الكورس فى مسرحية "مدينة الزعفران" : مدينة الزعفران ليست على الخريطة خارج الزمان والمكان داخل الإنسان"([84])
ويمكن أن نصادف الزمن من خلال الترسيمة العاملية أى من خلال حوارات الشخصيات – مثلاً عبد المطيع هو الزمن المملوك – وكما تقول :
" إن العناصر التى تساعد على التشخيص Les didascalies ترتبط دائماً بالحوارات، كما أنها تفسر لنا اللحظة التاريخية بجملة من العلامات قد تكون هذه العلامات أسماء لشخصيات تاريخية معروفة أو مرحلة معينة"([85]).
وهذه السمة بالضبط تبصم مسرح السيد حافظ . كما يمكننا أن نستشف اشارات للزمن من خلال حوارات الشخصيات وهذا التأطير للحيز الزمانى أو المكانى يكشف عن مدى التزام الحوار فى التعبير عن ملامح الشخصية ومميزاتها من جهة وكذا عن الفضاء المسرحى الفنى تتحرك فيه. وهذا هو السبب الذى يشد المتفرج إلى الشخصية، هذا الانشداد فى حقيقته هو اندماج فى المرحلة التاريخية التى تدور فيها الأحداث، وهذا ما تؤكده الناقدة Anne حينما تقول : " أن البعد فى الفضاء المسرحى يقابله بعد فى الزمان ، بمعنى أن كل ما هو زمانى يمكن أن تجسده وحدات مكانية"([86]).
وكما يقول برشيد : " الماضى فى المسرح قبل أن يكون مجرد وقائع فهو مباحث وقيم وحقائق ، وبذلك كانت غير زمانية، لأنها وجدت يوماً، وتوجد الآن، ويمكن أن توجد وتتكرر مستقبلاً"([87]).
عندما يجسد السيد حافظ هذا المنطق الزمنى، فهو يستعير اللحظة التاريخية من اجل إظهار الظلال التى تمتد وراءها والخلفيات التى تكمن فيها بمعنى آخر أنه يجعل من اللحظة التى يتم فيها الحدث نافذة يستشرف منا الآتى:
" المستقبل القريب أو البعيد – إن بيت القصيد من وراء هذا الأسلوب المسرحى هو كشف خلفيات هذا الواقع الهجين التركيب والمهترئ وتعرية وفضح مباذئه المزيفة، وذلك من أجل دفع المتفرج إلى الوعى بواقعه، هذه البوتقة التى تحصر أنفاسه وتخنقها ومن ثم مبادرته إلى التحرر ومطالبته بتهيئ الجو الديمقراطى الملائم.
"وحين يركز الكاتب على المواقف السلبية فلأنه يريد أن يصدم هذا الإنسان بواقعه ليذكره بمصيره الاجتماعى والإنسانى ويحفزه على الجدل، فولادة اتلجدل فى المسرح يعنى بداية جديدة لوعى الجماعة ومدركاتها لمصائرها اليومية المستقبلية"([88]).
بعبارة أخرى أن هذا النوع من القراءة مشروط بعدة ثوابت:
أولاً: الإطار الاجتماعى.
والمستوى الذهنى والفكرى كبنية دالة على اللحظة التاريخية التى برزت فيها، إنها محاولة تكاملية تؤكد على جدلية اللحظتين: التاريخية/ والآنية المستقبلية. فماذا يقصد الكاتب من وراء انغلاقية المكن؟.
ربما يكون الحصار النفسى المفروض علينا، وهذا ما يؤكد من جهة ثانية أن المسرح كمواصفات مكانية يهجس بأبعاد ضمنية تتعلق بتصميم علاقة جدلية بين مستويين:
الداخلى والخارجى. أن تقديم مواصفات وتلوينات مميزة لهذا الحيز "السجن، الغرفة التى لا تتسع لعشرة أفراد " حكاية الفلاح عبد المطيع" ، فالسجن مثلاً يوحى بالظلام، الاختناق ، وهذا يدفعنا بدوره إلى التساؤل عن كنه النفس البشرية وتحليل اوالياتها باعتبارها عوامل توجد على هذا المكان. فهى الأخرى تؤكد على هذه الانغلاقية والعتمة النفسية ولا أدل على ذلك من لون الملابس الأسود، تقول سامية أسعد: " يمكن أن يكون المكان المسرحى أيضاً على علاقة بالنفس البشرية خاصة بعد التقدم الذى أحرزه التحليل النفسى، أن المسرح يعتمد أساساً على إخراج مضمون داخلى إلى الخارج" ([89])
كما أن السيد حافظ يميز بين بعدين فضائيين متمايزين الأول: فضاء خيالى يرتفع بالقارئى/ المتفرج إلى أجواء فنطازية والثانى: واقعى سيناء يتخذ مواصفاته من خلال البنية التاريخية والاجتماعية المؤطرة له. وهذا ما يؤكده آرطوحين يقول/ " ينشأ المسرح عن الفوضى المنظمة ويتم هذا الانتظام فى مكان معين وإطار معين ، هذا المكان المسرحى بوصفه مكاناً منظماً يرجع بنا إلى قراءة جديدة ممكنة لعلاقة الإنسان بالمكان الثقافى والاجتماعى الذى يعيشه... إن هذا المكان المسرحى واقع معقد للغاية وهو ليس بالضرورة صورة لشئ ما حتى ولو اشتمل على بعض العناصر المصورة كاللوحات"([90])
داخل المكان المتخيل فى العمل المسرحى، هذا المكان الذى يتخذ عدة مسارات فى كتابات السيد حافظ فهناك المكان المطلق مثل فردوس الشورى، مدينة الزعفران، فهذه الأمكنة لا وجود لها على الخريطة الأرضية، وهناك المكان المحدد والذى يشير إليه من خلال تكثيف انغلاقيته "علمونا أن نموت" "6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا"
يبقى السؤال الاشكال المطروح هو : هل أبطال السيد حافظ تتخذ نمطية واحدة؟
فى الحقيقة أنه رغم تعدد نماذج السيد حافظ السلوكية فإن هناك وشيجة علائقية تربط منطقها وهى طرح قضية الديمقراطية وحرية الفرد فى المجتمع وقضية الاغتراب والتهميش.
هذه السلوكيات البشرية تتبلور فى النماذج التراثية وشخصيات متخيلة – الشخصيات التراثية المتمثلة فى أبى ذر والفلاح عبط المطيع. هذان النموذجان هما تجسيد لصورة البطل المأساوى فى مواقف اختيارية ومواجهات مصيرية. بمعنى أنه بطل يجازف ويخاطر بكيانه كذات من أجل اثبات قضية موضوعية تتجاوز الأنا إلى النحن، والفردانية إلى الجماعية. وبصفة عامة أن إضاءة الكاتب لهذه الشخصيات لا ترصد السلوكات والمواقف الظاهرية فقط وإنما يتعدى ذلك إلى رسم خطوط التشابك والصراع بين نوازعه الباطنة وشروط وجوده وموقعته فى ضوء هذا المسار التشابكى.
إن أبطال السيد حافظ ليسوا أبطالاً اشكاليين بل هم رؤى مستقبلية للأمة العربية بصفة عامة ومن هنا يمكن القول أن السيد حافظ كان رائياً كبيراً جسم ذروة الأحداث التى تعيشها الأمة العربية، لتعريته لما يمكن أن يكون عبرة للمستقبل. أى أنها ليست هندسة آلية معينة للعالم فى لحظة معينة وإنما هذه الأبطال تتخذ شكل ترسيمات عاملية وملامحها تتشكل عبر قابليات للحركة أوعدمها، فالشخصيات المتخيلة مثلاً لا تخرج عن حدود هذه الدائرة التى رسمها السيد حافظ لأبطاله. فعبر هذا البناء الشبكى تتحرك هذه الأبطال فى حركة مصيرية نضع الحياة والمصير فى الميزان، وكما قلت رغم تعدد هذه النماذج فهدفها واحد هو الديمقراطية الاجتماعية".
" عندما نتساءل بل نسأل عن أى شئ يبحث أبطال السد حافظ فإن الجواب يأتينا كالتالى: أنهم يبحثون عن مدينة يغيب فيها ممارسة القهر وعلى المواطن وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والحجز والتخلف"([91])
إنها الشخصيات التى يضعها فى إطار المفاهيم التجديدية التى يعتمد عليها فى معاملة التجربة المسرحية حيث يعتمد على ديكور رمزى تجريبى يحاول أن يبتعد به عن الواقعية حتى لا يسجن ذهن المتفرج داخل بؤرة ضيقة ويدفع به إلى التفكير فى كل قطعة توضع على الركع والأبعاد التأويلية الممكنة التى يمكن أن تتخذها.
إن مضمونها هذا المحور تعتبر عنصراً مهماً فى بلورة العملية المسرحية، فكما تعتبر الشخصيات والحوارات والبناء الدرامى جزءً من النسق الكلى للمسرحية فإن تغيير قطع الديكور من فصل إلى فصل آخر هو تغيير بل انتقال بالجمهور من حيز إلى حيز آخر.
وقد عرف هذا المجال – الديكور – وما يتبعه من إضاءة وظلال تطوراً كبيراً، فبعد أن كان الديكور ارستقراطياً محضاً أصبح تجريدياً بسيطاً هدفه بالدرجة الأولى صياغة نوع من العلاقة ما بين الجمهور/ المتلقى وما بين خشبة المسرح وهذا ما عبر عنه ربريخت بفكرة التغيير للعالم".
مثلاً فى مسرحية " الخلاص " الديكور بسيط جداً يتغير أمام الجمهور – تكسير الإيهام بالمسرح – سرير بسيط ، كرسيان، مائدة، فى الحد الثالث تظهر صورة لمدينة السويس مع تغيير جد مبسط، إضافة إلى هذا العنصر ففى مسرحية مدينة الزعفران مثلاً : كوخ صغير، شجرة مع بعض الأشياء التجريدية، مثل استخدام ألوان مختلفة وخصوصاً الأبيض والأسود وفى مسرحية 6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا" – الزمان : بعد أحداث 5 يونيو 67 . والمكان : أحد المعتقلات فى الأرض المحتلة والديكور تجريدى مبسط.
اللغة فى مسرح السيد حافظ :
أين يمكن موقعة لغة السيد حافظ داخل الخانة الكبرى أى بنية النص التى تنتمى اليها.؟
إن مستوى اللغة عند السيد حافظ لا يسير فى خط دائرى مغلق تتوزعه محاور عدة:
مستوى اللغة الفصحى.
مستوى اللغة العامية.
مستوى اللغة المختلطة بين العامية والفصحى.
المستوى الأول : يجمع إلى رصانة الأسلوب موسيقى إيقاعية تلون المقاطع فتحس وكأنك أمام قصيدة شعرية. ففى " مدينة الزعفران" نجد هذه النغمة تسرى على لسان الكورس: " ولكن لمن تغنى أنت ؟
ولمن أغنى أنا ؟
وهل صوتى عبر المسافات والقصور ؟
وهل صوتك ينشق فى الجبل فيثور " ([92])
وعلى لسان الراوى فى مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع"
" الراوى : كان يكره الأهرامات لأنها قتلت جده ولا يدرى أنها رمزاً للعبودية كان يكره ولا يدرى أن هذا العصر منحنى القامة مقهور المعانى، مندس بين أصابع المهانة"([93])
إن هذه الأمثلة التى اخترت ملونة بأسلوب شاعرى مكثف برؤى ومعان تبسط من خلالها ذوق الكاتب الشاعرى. واستناداً على قول عبد الكريم برشيد أقول أن : "البناء الشعرى عند السيد حافظ لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى. الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ" ([94])
المستوى الثانى : ويتدرج على نفس الوتيرة ليتنامى عبر ايقاعات صوتية بل مناجات ذاتية ترسم لنا لوحة عن أعماق الكاتب المصدومة بهذا الواقع. تقول المجموعة فى مسرحية "الخلاص" : يا توتة يا صفصافة.
يا كلمة يا خوافة لس ما أنش الأوان.
يا سفينة اللى ركبوكى.
مش هما اللى صنعوك
دفعنا ثمنك ليالـــى"([95])
يقول احمد فضل شبلول : أن السيد حافظ استطاع أن يجرى الحوار الشعرى أو الشاعرى على لسان الشخصيات كل حسب دوره وحسب إدراكه ومفهومة وحسب نظرته للحياة"([96])
المستوى الثالث : وهو لغة " الدراجة" أو مستوى اللغة المختلطة.
" رجل غريب : مسرحيتك القديمة عجبانى قوى.
الذى يحاول : القديمة.؟
الأمير للذى يحاول : ماذا حدث ؟
الذى يحاول : منذ ست سنوات لم أكتب مسرحية.
الأميرة : لتحتفل اليوم بعيد ميلادى.
الذى يحاول : مسرحيتى منذ ست سنوات منتحرة فى مكتبة المسرح.
المدعـو : يا سيدى دفنوها فى الذكرى.
الذى يحاول : ذكرى ؟
المدعـو : فى ذكرى الانسياق.
الذى يحاول : أى انسياق ؟
المدعـو : انسياق إلى السينما " ([97])
أو قول مقبول عبد الشافى فى مسرحية مدينة الزعفران : " طوبى للأحزان فى أعماق الإنسان. طوبى للأشجار والإنسان السجين والإنسان السجان"([98])
أو قول ضياء فى " 6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا" : الجدران الهشة سارت على الطريق ملتفعة مثل حرير الجدران الهشة تويها كان حرير والمصيبة العيون كانت شعاه يتحدى نور الشمس مع أن لون العيون كان شعاع بهتان"([99])
ملامح الخلق الفنى عند السيد حافظ :
من هذا البعد السيكو – ابداعى – يمكن تحليل بعض انتاجات السيد حافظ. وسأبدأ بمسرحية " حبيبتى أميرة السينما" لأنها تمثل إحدى العلامات البارزة فى انتاجه.
إن اكتناه البنية الدلالية للمسرحية تحدد لنا الانساق الأساسية التى تتمحور حولها المسرحية وتتمحرق ، النسق الأول : يتداخل فيه مستوى الذات الأميرة/الفن. التى تبحث عن التأصل. إنه النسق التفسيرى للحظة التوثر – حضور الرؤية كأفق يتحرك ضمن بنية الخطاب – بين الآن والآتى.
النسق الثانى : يتمثل فى هيكلة الشخصيات الأخرى : الذى يحاول، ا لمخرج، الغريب ، الممثلة. كل هذه الشخصيات أو العوامل تمثل أصواتاً متداخلة تتصارع فيما بينها. إذن فبنية النص تشكلها علامتين متقابلتين : الفن فى مقابل أدوات ليست بريئة ، النقد ، الإخراج، التمثيل. ولذلك فهى تكتسب داخل النسق الكلى كوحدات متكاملة وقبلاً خاصاً بها، يجعلها مركزية الأهمية. تظهر هذه المركيزة فى خصائص انجاز فاعل وتأسيس مشروع.
" الذى يحاول : ومسرحية أخرى فى ذهنى.
الأميرة : ما رأيك أن نؤلف مسرحية سوياً دون أن تكتب ؟ أقوم أنا بدور غانية وأنت بدور شاب مجرم يريد أن يتفاهم معها "([100])
بعد مساومة وأخذ ورد تقول الأميرة : " والأجرة؟
الذى يحاول : 50 قرشاً.
الأميرة : نعم ؟
الذى يحاول : ستين .
الأميرة : لا " ([101])
إن الخطاب ليس خطاباً بريئاً ، بحيث أن بنية الأحورة والمناقشة تبقى غامضة تبحث لها عن امتداد وإضاءة لأبعادها. أن الأميرة تبدأ بحركة ارادية ترتكز أساساً على فاعلية انقلابية ايجابية، إنها إرادة المغامرة والتجاوز فى عوالم بلا ضفاف.
" الذى يحاول : أين كنت ؟
الأميرة : كنت ارتكب إثماً.
الذى يحاول : إثماً مع من ؟
الأميرة : مع رجل كبير لا أعرفه.
الذى يحاول : هل ذهبت له؟
الأميرة : خطفونى.
الذى يحاول : حملوك وأنا لا أشعر؟
الأميرة : إنه العلم والتكنولوجيا .
الذى يحاول : ومن الذى خطفك ؟
الأميرة : تقصد اغتصبنى ... تقصد أرسل رجاله يختطفوننى، ثم اغتصبنى شخصية مرموقة كانت مقنعة "([102])
هنا نجد أن الغموض يتبدد فتصبح الأميرة تملك الأبعاد الخاصة والملامح المحددة بنفى أحد الطرفين فى منظور القارئ / المتلقى. لأن مستوى التفاعل بين طرفى هذه البنية بعطينا صورة أكثر جلاء. " الفن من أجل الفن" . إن القتل هنا يهجس بأبعاد وبؤر خاصة. إن القتل فيه تجديد للحياة وإعادة للخلق ، البعث الحقيقى. فتراكم الخطابات فوق الميرة فى الآونة الأخيرة يوضح لنا هذه الصورة . حين نفهم أن الكاتب كان يقصد من تحويل فعل الجسد – الذات إلى مقاومة الفن وفاعليته كإبداع وابتعاث عبر تلك الحركة المتأنية بين بدء الحوار وتنقله بين عدة مستويات . حينذاك يصبح ممكنا إعادة صياغة صورة الأميرة بصورتها الأساسية وبفاعليتها المتأججة تصبح تشكل بنية فاعلة أكثر توحد بالمرموز إليه – الفن.
" الأميرة : كل دول كان معايا.. كانوا معايا فى يوم .. لا كانوا معايا كل يوم.. وأنا كنت معاهم (تنظرهم.. يدخل الرجال مقنعون والرجل المهم والرجل الغريب وتعود بظهرها حتى تنام على السرير.. يضحك الجميع" ([103]).
من هنا تصبح شخصية الأميرة صورة عضوية تمزج بين بعدين. حيث الكاتب ينجح فى خلق هذه العملية المزجية بين مستويين، بحيث لا نشعر أننا أمام هذه المفارقة وبهذا تكون بنية المسرحية منفتحة أمام كل تفسير أو تأويل.
يقول عبد الله هاشم : " إن مسرحية أميرة السينما تعالج مشكلة الفكر والفن والثقافة الجادة أمام طوفان الأجهزة الإعلامية التى تحول الفن إلى تجارة ودعارة.. فالأميرة فى هذه المسرحية تمثل الفن الذى لم يلوث ، الآتى من وجدان الشعب حتى يأتى الذى يحاول أن يطوعه لكل شئ، ولا تهمه الوسيلة، المهم المحاولة فى كل شئ والتطويع الذى يحاول... ثم يدخل المخرج والناقد ورجل غريب كل منهم يحاول استغلال الأميرة لغرضه الخاص حتى تنتهى الأمية بأن تسقط خطابات كثيرة عليها وهى نائمة على السرير، وتظل تتراكم عليها حتى تصبح كومة عالية قاتلة للأميرة تحت سيل المجاملات العقيمة المليئة بها هذه الخطابات وتموت الأميرة... أى يموت الفن الأصيل ولا تبقى إلا القشور"([104])
إن قمة التوثر النهائى فى المسرحية أى موت الأميرة تحت سيل عارم من الخطابات. إنه احساس لا واع من الكاتب فى تحمل مسئولية القتل تحت تأثير داء قاتل هو : النرسيس الذاتى، وتسيير جهاز مؤسساتى كل واحد يريد أن يخضع الأميرة لمقاييسه الخاصة دون أن يمنحها الفرصة فى الاحتفاظ بكينونتها الخاصة. إن الكاتب يفسر هذا التهالك على تلبية نزعة النرجسية والأنا فى كل مؤسسة هو ما يفقدنا أصالتنا وهويتنا التى لم تتنكر لنا، وتنكرنا لها.
تقول الأميرة : كل دول كانوا معايا وأنا كنت معهم.
الذى يحاول : كل الكلام اللى بيننا مالهوش لازمة دلوقتى.
الأميرة : إزاى.
الذى يحاول : لأننا ياما تكلمنا.
الأميرة : كانت أحاسيسك فى وادى ثانى.
الذى يحاول : أحاسيس فى لحظة مفقودة.
الأميرة : أنا كنت خايفة عليك.. فاهم.. جايز فى يوم أقول لا.. أدفع ثمنها حياتى والا حياتك" ([105])
إن الكاتب لا يريد أن ندير ظهرونا للتراث وأن نتركه يسقط ويموت تحت تراكمات عدة : الأنا من جهة والجسم الغريب الذى يريد تلويثها – الأمير/التراث ودفعها إلى ارتكاب العار من جهة أخرى. إنه بعبارة أخرى يدفعنا إلى تجديد منظورنا للتراث وليس قتله كما فعل الذى يحاول والمخرج والرجل الغريب والرجل المهم. إنه يدفعنا إلى تحقيق الذات الجماعية من خلال إلغاء الإيقاع الفردانى الأنانى.
يقول عبد الله هاشم : " إن شخصيات هذه المسرحية هى رموز قائمة حاول المؤلف تجسيدها كأشخاص بالمبالغة فيهم، وكذلك المبالغة فى الديكور ومناظره المتعددة حتى يضعناها وراء حدود الحقيقة وشبه الحقيقة، حتى نصل إلى الأشد صدقاً من الحياة نفسها. أى إلى الصورة المكبرة والمسرحية للحياة، صورة تغوص بعمق تحت سطح الواقع ، أن المؤلف المسرحى الذى يتمتع بحرية حقيقية ويستطيع التعبير عن أعمق ما يشغله سوف يشبه نفسه حتى ولو تنوع الانتاج. فهو أكثر اثباتاً من المؤلف الذى يتتبع مقتضيات البدع العابرة. إن مسرحيات السيد حافظ رغم تصويرها شخصيات من أنواع متباينة جداً، تظهرنا على تجانس كبير فى الرؤية وفى الوسائل الفنية المستخدمة لتقديمها" ([106])
إن السيد حافظ فى اعتماده على جهاز مفاهيمى جديد وأدوات تحليلية حديثة حاول أن يقرأ من خلالها شخصيته التراثية والمعاصرة، لكن الجديد عنده بالفعل هو أنه جرد هذه المفاهيم من مضمونها الغربى وحاول أن يقرأ من خلالها واقع وآلية الإشكالية العربية المطروحة على الساحة.
يقول الدكتور الجابرى : " إن تحديد القراءة ومكانها واللحظة الحاضرية التى تمت فيها من الأهمية بمكان ، إنها المعطيات التى تتحكم فى القراءة، فتحمل القارئ على قراءة أمور معينة بكيفية معينة" ([107])
التمرد والتلقائية فى مسرحيتى :
" مدينة الزعفران " و " 6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا"
إن الفلك الذى تدور فيه المسرحية الأولى يتجدر فى أعماق الإنسانية ويكتنه أغوارها ، مما يجعل رؤية الكاتب شمولية تطل عبرها لتشمل المحيط الانسانوى عامة. بينما المسرحية الثانية يمكن القول أنها تدخل فى إطار شوفينى فهى تخص بلداً بعينه هو الشعب المصرى إثر هزيمة 67. وإن كانت القضية تدخل فى إطار أشمل هو الصراع العربى الإسرائيلى. غير أن المواقف التى تثار على لسان الشخصيات يبرز من خلالها هذا الطابع المحدود فى طموحات الإنسان المصرى المقيدة بين جدران تلك النفوس المصدومة. وكما ينظر الأستاذ سعد أردش لهاتين المسرحيتين بأنهما محاكمة مزدوجة لكل من المؤسستين العسكرية والمدنية. الأولى تحاكم المؤسسة المدنية والثانية تحاكم المؤسسة العسكرية.
إن أهم ملاحظة توصلت اليها من خلال قراءتى لهذه النصوص هى أن السيد حافظ يكثف من الحيز المكانى المغلق فمدينة الزعفران، و 6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا، والفلاح عبد المطيع، علمونا أن نموت وتعلنا أن نحيا. كل هذه المسرحيات تعتمد على فضاءات مغلقة وهى السجن. فهل يا ترى هذا التكثيف من الانغلاق له ما يعلله عند السيد حافظ ؟
ربما يكون ذلك تعبير عن المحاصرة النوعية لهذا الجيل " المحاصرة الداخلية: الانعزال والاغتراب عن هذا العالم : و" محاصرة خارجية" داخل هذه القوقعة الجهنمية المساماة بالعالم التى يخضع بموجب قواعدها لأساليب من القمع والخنق.
يقول الدكتور السعيد الورقى: " والمحصور هنا هو إنسان العصر الذى يمارس حياته بمشاعر متوثرة تثيرها آلاف الأشياء المحيطة التى تحاصر الوجود الإنسانى فى الزمان والمكان"([108]).
إن هذا النوع من المحاصرة يؤسس داخل إنسان السيد حافظ تمرداً تلقائياً ويحفزه على التساؤل وبداية التساؤل تفجير للشحنة المكبوتة وزعزعة القيم السائدة. وبالتالى فرض حدود لهذه الذات واستنبات لمعالم الشخصية المتحررة من قيود هذا العالم. وكما قال ألبير كامو مستبدلاً الكوجيتو الديكارتى : " أنا أشك إذن أنا موجود" ب" أنا أتمرد إذن أنا موجود" إنه كان يهدف إلى خلخلة المنظور السائد ليعلن بداية استقرار الذات بل والإحساس بالمسئولية. وكما قال السعيد الورقى: " إن مسئولية البطل الثائر كما يراها السيد حافظ مسئولية نابعة أساساً من انتمائه إلى هذا الإنسان ومن وعيه لواقع عصره وإحساسه بمسئوليته تجاه هذا العصر بمحتواه المادى والفكرى"([109]).
إن البطل عند السيد حافظ انطلاقاً من هذه التساؤلات يتولد لديه الوعى المأساوى كما يقول كولدمان. هذا المنظور المأساوى يتوزعه محوران أساسيان. إما السالب وإما الإيجاب. ما الصحيح وما الخطأ..؟
فجميع الترسيمات الحوارية عند السيد حافظ تصطبغ بهذا المفهوم وتتنامى عبر هذه الوتيرة.
فإذا كان المستوى الحوارى لدى العوامل هو بمثابة مرحلة توسط لإظهار البنية الدلالية العميقة للنصوص. فإن السيد حافظ كمبدع لتلك الذوات يجسد البنية الدلالية للخط الدرامى الذى تبناه فى موقعه الإنسان داخل هذا العالم. وبالتالى رسم الحدود التى يعيشها والمعاناتة التى يكابدها، وفى نهاية المطاف طرح السؤال: ماذا يمكن أن نحقق وكيف السبيل إلى ذلك ؟
ففى مسرحية " علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا" يتحقق هذا التساؤل : يقول السجين الأول : لقد مات أتسمعين ؟ لقد مات.
المرأة الخريفية : مات ... كيف ؟([110])
وأتساءل بدورى: كيف يموت الوعى وتموت روح المقاومة. إن السؤال كما قلت سابقاً يكسر جدار التراجع والخوف.
" السجين الأول : كان يبوح ونحن نصغى.. ولم يكن يغضب من الطرق الاستفزازية قال أن القائد لا يستفز.
المرأة الخريفية : الركود كان يصارع الركود.
السجين الأول : نقص التطور هو المشكلة"([111])
يقول حسن عبد الهادى : " أما شخصيات السيد حافظ فإنها ضائعة فى خضم الحياة تبحث عن القيمة التى زيفتها أصابع الحضارة الحديثة، وتعيش وحشية رهيبة فى طريق سعيها إلى تلك القيم والمثل السامية سواء كان ذلك على الصعيد الاجتماعى الإنسانى أم الأصعدة الأخرى كالدين والسياسة والأخلاق.([112])
وبالفعل أن هذه الترسيمات العالمية بمفهوم كريماس.
تظل غارقة فى سراديب هذا العالم الكابوسى بعلاقاته المتفسخة، والتحلل والفساد الذى بلغ حده الأقصى. كل هذه العوامل تؤسس محفزاًَ لهذه الشخصيات لتتحرك وتفعل.
" السجين الأول : سألته مرة... الدفاع الذاتى ؟ أم الكفاح العضوى . ابتسم لى وقال : الأول تهميد للثانى. سألته : الدفاع الذاتى أم حرب العصابات..؟ الدفاع الذاتى أم الحرب الشعبية ؟ ابتسم قال فى النهاية الدفاع الدفاع ومات.
المرأة الخريفية : مات اليوم أم الأمس ؟
السجين الأول : لا أظنهم قتلوه اليوم أو أمس... أظنهم قتلوا فيه الغد([113]).
ونفس النغمة نجدها تسرى فى الحوار الذى يدور بين هادى وفؤاد من مسرحية الخلاص.
" هادى : كل السويس يوم 5 يونيو كانت عايزة الفرح.
فؤاد : والفرح ليه ما تعيش ؟
هادى : ما تسألشى ليه ؟
فؤاد : أمال أسأل مين ؟ " ([114])
ويزيد موضحاً :
" هادى : أنا اتقتلت فى السويس
فؤاد : قتلوك إزاى.
هادى : يوم 5 يونيو
فؤاد : انا اتقتلت وجاى أقول لك خود بتارى"([115])
إن هذه الاسقاطات تفسير إلى أى حد كانت الهزيمة محفزاً على صنع وخلق الكلمة / الفعل. إن النكسة كمجموعة أحداث تشكل المتنفس الذى خرجت عبرة تأوهات هذا الجيل فى صرخة تصم أذان العالم. بهذه النظرة البسيطة فى أرجاء ابداعات السيد حافظ ألخص منظوره لهذه الترسيمة المسرحية التى لفها فى تلك النغمة الشاعرية ليقدمها فى ذلك الوعاء المأساوى الحزين.
لقد انتظم السيد حافظ فى خانة المؤلفين المسرحيين لكنه لم يعاد المجالات الأخرى. وقد غرف من البحر التراثوى فأروى عطشه وغليله شعراً ونثراً ومن ثم لا نستغرب إذا وجدنا كتاباته تفوح منها رائحة صدى لهذا الذوق السليق والموهبة الفذة.
إن التصادم مع الواقع جاء صراعاً على الورق ونفثاً لكل الآلام والأحزان، كلمات أسى ولحن ميلودى وهذا هو السبب الذى جعل انتاجات السيد حافظ بهذه المواصفات المميزة تؤسس سيمفونية خالدة كما يقول الدكتور السعيد الورقى : "والسيد حافظ فنان معاصر بهذا المفهوم، فهو يعيش أعماله بمشاعر مستنفرة متحفزة ومتفتحة، إنه يحيا وكأنه كله حواس التقاط وتسجيل – وتعمل هذه الحواس عند السيد حافظ من داخل سيطرة التوتر والشعور بالحصر، فيقدم للمتلقى شحنات متوالية من الإنبهار المدهش والمثير، فهو لا بقصد من فنه أن يهدهد حواس المتلقى وإنما يرمى إلى أن يحدث فى داخله صدمة المباغتة التى تولد فيه التوتر والحيرة والتساؤل.
وبسبيل البحث عن أحداث توالى القرع بالصدمات، يبحث السيد حافظ عن كل ما يمكن أن يساعده فى غايته، ولعل هذا هو السر فى أن أعماله باستمرار تجارب تجريبية"([116])
خــاتـمـة
لعل أهم الاستنتاجات التى توصلت اليها فى هذا البحث المتواضع تتلخص فيما يلى :
أن السيد حافظ كاتب تجريبى: فهو ينتمى إلى المدرسة الطليعية التى تصب مرتكزاتها ضمن المنظور الحداثوى، بمعنى آخر أن الكاتب فى تعامله مع اللامعقول أو التجريب لم يكن مجرد تمثل لأدوات ومفاهيم تحليلية حديثة من أجل مسايرة التطور المسرحى فى الغرب، وإنما كان تعامله مع هذه الظاهرة عن قناعة خاصة تؤكد بأن الفكر ليس له موطن خاص. ومن ثم جاءت كتاباته إفرازاً جديداً تتموضع فيه الذات العربية فى قوالب غربية. أى أن السيد حافظ استوحى الإطارات الغربية لكن الشحنة المضمونية انصبت على معالجة الهموم العربية.
فيما يخص التراث نجد أن السيد حافظ لم يكتف بنسخ هذا الموروث والتقاط جميع تفاصيله. بل انتقى الطروحات والنماذج الحاملة للرؤية المستقبلية . لقد حاول مساءلة هذه البنية التراثوية وفكك مفاهيمها وبالتالى صياغة بنية جديدة حتى تتقاطع فيها وتتلاحم الممارسات الماضوية على ضوء أحكام واقعية لحظية.
السيد حافظ نموذج لمحيطه وبن لحظته : على ضوء النصوص الإبداعية للسيد حافظ كتجسيد للبنيات الفوقية والمنظومات الفكرية الفنية تتوضح الشروط الاجتماعية التى أفرزت لنا هذه النمطية الكتابية، باعتبار أن أى كتابة ابداعية هى إضاءة تفسر المعمار الاجتماعى والسياسى المقترن بأى إبداع.
إن السيد حافظ يدخل ضمن هذا السياق ليؤسس ممارسة خاصة تفجر الوعى بالمسئولية . وهذه الممارسة المتطلعة إلى تغيير بنيات هذا المجتمع تحمل فى طياتها بصمات المسار المجتمعى الذى تنتمى إليه والذى رافقته عدة ملابسات – الثورة الناصرية 1952، نكسة (67) – وبالتالى تتحدد نمطية الوعى الطليعى القومى بل الإنسانوى الذى نادى به السيد حافظ. ضمن هذا المنتظم الاجتماعى بصورته المتحققة بعد النكسة يظهر المؤلف كمرآة عاكسة لتطلعات هذا الجيل ومفسرة للمنظومات الفنية التى تخضع للصيرورة الاجتماعية. هذه الصيرورة النوعية يلتقطها السيد حافظ كمضامين تغنى البحث وترضع حواديه. بل أن هذه الكتابات تؤسس وتفرز لنا ملامح الرؤية الخاصة للكاتب بل تنجز لنا صياغة مفهومية تختزل صورة الواقع الممكن الذى ينشده الكاتب.
وأتساؤءل إلى أى حد وجهت الممارسات الاجتماعية الحقل الثقافى الذى يمثله السيد حافظ؟ بمعنى آخر إلى أى حد استطاع أن يكثف اللحظة الاجتماعية من خلال معالجته الفنية؟
إن السيد حافظ بما له من خصوصيات وتلوينات مميزة استطاع أن يبسط لنا جهازاً مفاهيمياً جديداً تبرز من خلاله إدانته لأساليب العالم القمعية والمزيفة. وهذا ما يجعل جل كتاباته تدور فى فلك واحد، هذه الدورانية والتكرارية هى طابع تأكيدى على منظومة رئيسية هى الطابع الانسانوى الذى يبصم جميع انتاجاته دون استثناء.
إن هذا المنظور لم ينجز عبثاً ولا ممالأة منى ولا ومجاملة ولكن جاء بعد معاينة وتقص لبنية النصوص التى توافرت لدى. والتى تثبت هذه الحمولة الفكرية الفنية التى تحدثت عنها. من بين هذه النصوص : " حكاية الفلاح عبد المطيع، علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا، الخلاص، حبيبتى أميرة السينما ، 6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا ، أبو ذر الغفارى، مدينة الزعفران....." إن هذه النصوص فى مجملها هى دعوة اجتماعية انسانوية.
لقد كان الهدف الأول الذى أتغيا من وراء هذه المنطلقات هو أن الإبداع ابن لحظته، ما دامت الشروط الاجتماعية الإيديولوجية هى الموجهة لمشروع المبدع فى تجليه علاقة العمل الفنى بالمسار التاريخى المعيش . لكن هذا المنظور قد ينفعل بلحظته ويتجاوزها إلى ما لا نهاية وعندها يصبح التاريخ الكائن تاريخاً ممكنا.
وكاستنتاج أخير أرى أن النقد الموضوعى المنصف هو الذى يدين بتعيته النسبية للنص الأدبى، فينطق المسكوت عنه فى النص ليؤسس على لغته لغة خاصة. ولا شك أن الكثير من الانتقادات التى وجهت إلى السيد حافظ كانت حيفا وظلماً فى حقه تغلب عليها السمة المؤسساتية ، بمعنى آخر إن الدراسات النفدية فى جلها والنقاد الذين قاموا بهذه العملية كانوا حفارى قبور، خدامين أكثر مما هم نقاد مبدعين يعون مسؤوليتهم أمام هذا الفن ويتمثلون أدواته بكل موضوعية وصدق . إلا القليل منهم أذكر على سبيل المثال الدكتور السعيد الورقى والاستاذ سعد أردش، وعبد الله هاشم وهم فئة قليلة.
المراجع
الكتب :
د. على الراعى : المسرح فى الوطن العربى – عالم المعرفة ، 1980.
د. شوقى ضيف : الأدب العربى فى مصر – دار المعارف ، 1976.
د. عبد الله هاشم : مسرح السيد حافظ الطليعى – دار الكتب، 1985.
د. لطفى فام : المسرح الفرنسى المعاصر – الدار القومية للطباعة والنشر 1964.
يوسف الشارونى : اللامعقول فى الأدب المعاصر ، دار الكتاب العربى ع226.
حنا عبود : مسرح الدوائر المغلقة – منشورات اتحاد الكتاب 1982.
د. حسن حنفى : التراث والتجديد " موقف من التراث القديم" – دار التنوير.
د. محمد عابد الجابرى : نحن والتراث – دار الطليعة ط2 ، 1982.
سارتر : دفاع عن المثقفين – كاليمار – باريس 1972.
د. رشاد رشدى : نظرية الدرامات من أرسطو إلى الآن–دار النشر – بيروت.
عبد الكريم برشيد : حدود الكائن والممكن – سلسلة الدراسات النقدية (3) دار الثقافة.
المجلات :
مبارك ربيع : الرواية العربية الجديدة – مجلة الأداب ، 1980، ع 2-3
أمير اسكندر : الثورة والمسرح الدرامى فى مصر – المجلة، عدد 103، 1965.
احمد عنتر : قضايا المسرح المصرى المعاصر–فصول، مجلد2،ع3، 1982.
عبد الكريم برشيد : السيد حافظ بين التأسيس والتجريب – المهد عدد 3-4 السنة1 ، 1982.
جيمس روس : ترجمة فاروق عبد القادر – المسرح التجريبى من استانسلافسكى إلى اليوم. فصول، مجلد 2 ع 3، 1982.
محمود سمرة:مسرح اللا معقول مارتن اسلين. العربى عدد:124 السنة 1969.
اسماعيل الامبابى : الإبداع والتجريب فى مسرح السيد حافظ – مجلة المعرفة عدد : 254، السنة 23.
زينب منتصر : مقدمة فى استخدام التراث – الأقلام ، عدد : 7 السنة 12 نيسان 1977.
يوسف عبد المسيح ثروت : " استفتاء الطليعة" – المسرح والتراث – الطليعة الأدبية ، عدد : 3 ، السنة : 3 ، 1977.
محمد مسكين: حول الكتابة المسرحية – آفاق ، عدد:5 نوفمبر 1985.
عبد الرحمن بن زيدان : دراسة لمسرحية أبى ذر الغفارى – مجلة الثقافة العربية – عدد : 6 ، السنة : 12.
حسب الله يحيى : مجلة فنون العراق ، عدد: 84 نيسان 1980.
د. محمود القاسم : مجلة الباحث ، السنة 5 ، عدد : 3/ 27 آيار حزيران 1983.
المسرحيات :
السيد حافظ : مسرحية الخلاص – مطابع صوت الخليج.
السيد حافظ : ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى، الحانة الشاحبة اللون تنتظر الطفل العجوز الغاضب ، مطابع صوت الخليج.
السيد حافظ : حبيبتى أميرة السينما ، مطابع صوت الخليج.
السيد حافظ : حكاية الفلاح عبد المطيع، مطابع صوت الخليج.
السيد حافظ: 6 رجال فى معتقل500 شمال حيفا، مطابع صوت الخليج.
السيد حافظ : علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا، مطابع صوت الخليج.
الجـرائـد :
عبد الله هاشم : صحيفة الجماهيرية ليبيا – 25 سبتمبر 1981.
أحمد فضل شبلول : جريدة الثورة – عدد : 12 / 19 اكتوبر 1981.
د. سعيد الورقى : جريدة السياسة الكويتية – 14 فبراير 1980.
حــوارات :
حوار مع السيد حافظ : الأسبوع المغربى – 10 مارس 1984.
أحمد غانم : السيد حافظ ومرآة لجيلى – 5 مارس 1985.
ملحــقات :
سعد أردش : مقدمة حبيبتى أميرة السينما للسيد حافظ.
إبراهيم عبد المجيد : السيد حافظ حالة من التمرد والتحريض الحضارى ملحق بمسرحية أبى ذر.
من المكتبة الخاصة :
د. عبد الرحمان بن زيدان : حكاية الفلاح عبد المطيع " مسرحية السخرية والتقاط المفارقات".
([15]) المسرح التجريبى من استانسلافسكى إلى اليوم ، ترجمة فاروق عبد القادر – فصول ع3 السنة : 82 – ص : 255 .
([20]) عبد الكريم برشيد : مسرح السيد حافظ بين التأسيس والتجريب مجلة المهد ع 3 – 4 السنة 1، 1984 ، ص : 65.
([31]) برشيد عبد الكريم – مسرح السيد حافظ بين التأسيس والتجريب – المهد ، ع:3-4، السنة 1 : 1984، ص : 68.
([57]) د. عبد الرحمن بن زيدان : دراسة عن مسرح "أبى ذر الغفارى " مجلس الثقافة العربية ، ع6 ، السنة 12، ص: 42.
0 التعليقات:
إرسال تعليق