دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 87 )
رواية " نسكافيه ".. بين النكسة والثورة
دينا نبيل عبد الرحمن
دراسة من كتاب
((التشظى وتداخل الأجناس الأدبية فى الرواية العربية))
" الجزء الأول "
إعداد وتقديم
نـجـاة صـادق الجشـعمى
نموذج أخر من ناقدات الأدب العربي..
(الناقدة دينا نبيل عبد الرحمن)
الناقدة والقاصة الموهوبة.. من الصعب والمثير للشك والحيرة أن أهدر أو أتغاضى عن اسم من أسماء الحاذقات والمبدعات اللواتي تتواصل أقلامهن في رسم اللوحات والعبارات والأفكار الواعية والأنفاس المعطرة بحب الوطن وعشق الأرض وقيمة المرأة دينياً واجتماعياً وعربياً ودورها الريادي دائماً وصلابتهن والتزامهن ثقافياً أفتخر بكوني امرأة وبدون مجاملة مما لمست منهن التعاون وأعتز بثقافتهن وطموحهن برقي النقد الأدبي بجمالية فكرية ودلالات وخطوات تكنيكية لتشكل استراتيجية فكرية للنقد الأدبي الحديث وإعلان ثورة الحس والطموح والجمال الفني وتشضي الفنون الأدبية والتحرر من التقليد والتسلق التملقي.
التشظي والشمولية لدى الكاتب والروائي (السيد حافظ) والمصداقية في التوثيق التأريخي في طيات الرواية جعل من الرواية العربية سجل ومصدر توثيق ليس كما كان يسمى (أدب الثورة).. أي الاستمرار في المكاشفة مع القارئ.. أما الافكار فتعتمد على المادة والروح.. (دينا نبيل) أكدت على مصداقية الروح لأنها تعتبر السر الإلهي الذي يجعل الإنسان يسمو بنفسه فوق مطالبه الدنيوية..هذه هي ثورة الأستاذ الكاتب والروائي (السيد حافظ) العارمة الصاخبة.. التي لا تعرف الخوف والتردد يوماً.. يحمل صفات النبي وأحلام الصوفية وأشواق الناسك وتوبة الفاجر وتعفف الفقراء والفناء من أجل الحرية والانطلاق بالرغبات.. هل يعني هنا الكاتب التحرر نحو الإغراء والجنس؟
هل يستعرض الشهوات ويحث على الفساد والاستباحة للعرض؟
هل اعتبر المرأة صفقة تجارية؟ هل العلاقات الحميمية بين آدم وحواء مبنية على العرض والطلب؟ كل هذا وذلك هواجس وشكوك يتبادر للقارئ والمتلقي أو من يظن ذلك عندما يقرأ لكن ما أكدته الموهوبة اللبيبة الواعية عكس ذلك تماماً وتناولته من منطلق إنساني أولاً بحيث اعتبرت اختيار الكاتب السيد حافظ.. للشخصية (لمى) رمزا لنموذج المرأة وتحررها. معنى يصور لنا استباحة الوطن، وتميز أيضاً بحبه العميق له وعواقب النكسات التي تعرض لها غير من طباع وأخلاق وأصول التربية التي سمعناها وعشناها فهناك الآلاف إن لم يكن الملايين من جنس ونموذج (لمى) في العالم بصورة عامة والوطن العربي خاصة لكن لن يفصح عن هذه الأخلاقيات التي هي الآن أكثر بازدياد التجارة بالجسد مقابل المال والعيش والحصول على متطلبات الحياة بصورة رخيصة جداً
دينا نبيل.. يا صاحبة القلم الفصيح والريادي النقي الذي يؤمر من قبل ضميرك وحبك للوطن حقاً.. الإنسانية الرائعة التي تمتعت بها (دينا نبيل) يجعلنا نستعيد الأمل والرجاء في جني ثمار ما زرع الأجداد والآباء.. الحق أقول: إن المدخل كان عزيزا عسيرا؛ لأننا نفتقد الثقافة الحقيقية. أو أنها مصابة بالتقرح والكتابات المبهمة ذات الكلام المبعثر يخلو من الأفكار الواقعية التي تعالج المجتمع الحالي.. عظيم نسخ قلمك وما خطه أثبت لنا أن النقد الأدبي والكتابة لعبة الجنون المباح.. لعلنا نقترب من الجوهر.. طالما سعينا إليه بعيداً عن السرد التقليدي وانتظار الأحداث.. ماذا فعل البطل والبطلة؟ لعبة اللف والدوران التي تجعل القارئ يتوقع النهاية بعد ربط الأحداث.. بعد كل هذا استبينت مما قدمته (دينا نبيل) بقلمها الذهبي اقتراب جني الثمار بضربة (مؤنقة) قلبت لنا المدلولات بعمق الإحساس والمصداقية.. بقراءتها وثقافتها ونقدها الذي قهر لغز الورق وفجر مداد القلم.. مما كشف لنا الشرخ في بناء الوطن وعلاقتنا الوطيدة بحبه، وعلاقة الكاتب والثقة المتبادلة بينهما.. أي (الوطن.. الناقد والكاتب والقارئ) إذ الكل في بوتقة واحدة كشف وجع الروح يحدث إما التضحية أو التمرد.. وهذا ما ننتظر.. وسوف يحدث دون شك وجدال.. لقد اتسمت رؤاك بالاتزان والرقي لحسك الأدبي والثقافي الرائع.. فلابد من تنقية الوطن.. من الأدران وبتر وتنظيف التقيح.
هل تحلم مصر بحلم وطني أو قومي أو فردي؟
أو هل تمنت مصر أن لم يمت عبد الناصر؟؟
كتاب في حلقات
((التشظى وتداخل الأجناس الأدبية فى الرواية العربية))
" الجزء الأول "
رواية " نسكافيه ".. بين النكسة والثورة
دينا نبيل عبد الرحمن
" إلى القادم.. لا أدري من أنت ؟
ومن تكون؟ ومن أي مكان ستأتي لتغير وجه التاريخ العربي القبيح الآن..
أكتب لك لعلك تقرأ ما كتبت، وتعرف حقيقة ما جري لي ولنا ، فذنبنا الوحيد أننا وجدنا في زمن الأقزام ، ويظنون أنهم قامات، أكتب إليك ولا أعرف هل سأراك وأنا حيّ أم يراك أولادي وأحفادي، نحن مضطرون أن ننتظرك.. مقاومتنا حتى الآن لا تفيد. / 9 "
هنا اختار السيد حافظ أن يتكلم.. أن يعزف على كمنجات بلا وتر في ليل محاق طويل مخاطباً فارساً خفيّاً ينتظره لا منذ بضع سنين وإنما منذ آلاف السنين، فينطلق ضارباً يده في عمق التاريخ وفي عمق الشخصية المصرية بمحاسنها ومثالبها في نظام أبدي دون قيود الزمن؛ فيعري الواقع القبيح ويحلله بغية زلزلة ذهن المتلقي حول ما اعتاد التسليم به وإفاقته من غيبوبته للتصدي الحاسم للظلم والقمع. لا تتطرق رواية " نسكافيه " إلى سردٍ يدغدغ مشاعر القارئ ليقدّم نحيباً على أمجاد سالفة ونواحاً على حاضر مظلم ومستقبل ضبابي، وإنما تجسّد حالة إنسانية متشظية عانت ويلات التغريب والانتكاس إثر هزيمة 67 ، يقدمّها الكاتب بمصداقية عالية معتمداً على التوثيق التاريخي والصحفي في طيات السرد. لا تعدّ الرواية منتمية لما يعرف بـ " أدب الثورة " كونها كتبت فقط قبل الثورة أوتنبأت بها، وإنما لأنها تعمد إلى مكاشفة الواقع وإنارة عقل القارئ بحقيقة واقع وطنه الصادمة ، يقول:" ينام الثوار في أحضان الوطن كأنه شوك في أجسادهم ولا يستريحون أبداً . كان هذا الوطن دوماً عاهرة لا تنحني ولا تستسلم للفضيلة أبداً مهما كانت التحذيرات ، ودائماً يتربص بها القوادون والمرتزقة. / 240 ". فجسد البلاد يعانى التفسّخ إذ:" كشفت برقع الحياء، وجاء الفاسدون وضاجعوا عقلها وسرقوا أموالها، وانطلقت سياسات الانفتاح لتفتح كل الأبواب " فما عادت روح الوطن تجد لها مأوىً . يقول العالم الألماني هيجل:" إن أفكار ومفهومات المصريين القدماء نابعة من مصدرين أساسيين وهما: الشمس والنيل، رمزا الإنسانية " المادي والروحاني ، لذا لجأت الحضارة الفرعونية إلى احترام الجسد بالتحنيط لأنه إناء الروح . انطلاقاً من تلك الفرضية تقدم الرواية أنموذجين متناقضين يمثلان الروح والجسد يلتقيان أحياناً وينفصلان أحياناً أكثر، ليطرح الكاتب من خلالهما قضية الجسد المصري المتهرئ المشوّه بغية إعلان الثورة عليه.
1- الروح قبل الجسد:
الروح أصدق وأشفّ من الجسد لإنها السر الإلهي الذي يجعل الإنسان يسمو بنفسه فوق مطالبه الدنيوية، تلك هي خلاصة المسحة الصوفية بمفهومها الثوري لدى السيد حافظ، يقول:" بلا خوف سأدق عليك الباب، بلا خوف أحضرى حقائب أفراحك وذكرياتك المتشردة والنبية والصوفية والماجنة ودقى على الباب فأنا الناسك والفقير والمتجرد وأنا جوهر المقامات والفعل واللب والوجد، وأنا عندما أعشق، أعشق حتى الفناء وأظل ظمأن الروح والجسد " ، فيرى أنّ الثورة الحقيقية هي التخلّص من ربقة الجسد والانطلاق في فضاءات الروح ليشف البدن وتتحرر الروح مما يمكّنها من الرؤية السليمة ومن ثمّ يتمكن الإنسان من التغيير الحقيقي . حتى عند تعامل الكاتب مع " كتابة الجسد " واقتراب اللغة أحياناً من تابو الجنس، إلا أنّ الكاتب لا يلجأ إلى الإغراء وإنما جرّ المتلقي إلى أنسنته وإلى تعرية واقع الوطن الذي يقع في شراك الفساد واستباحته من قبل الرأسمالية التي أضاعت القيم وجعلت الوطن جسداً أو صفقة تجارية تخضع للعرض والطلب .
2- " لمى ".. أنموذج الجسد:
يعمد الكاتب إلى " رمز " أنموذج المرأة المتحررة ليصور جسد الوطن المستباح لتقريب الصورة للمتلقي ولعدم قدرته على الإفصاح عن المرموز إليه ." لمى القيسي " – بطلة الرواية - ليست امرأة عربية عادية، إنها صورة صادمة إلى أبعد الحدود ، بل قد تميل إلى استحالة وجودها في الواقع كونها تمتلك ذلك القدر المبالغ فيه من التحرر والشبق نحو الرجال حتى بدت في صورة " المومس" التي لا تقف رغباتها عند حد. فهي المرأة المتمردة الغارقة في الضياع والبوار، وتسخّر كل ماحولها من أجل تلبية مطالبها المادية والجسدية والعاطفية بما في ذلك أبنائها. يلجأ السيد حافظ في هذه الرواية إلى استخدام المرأة كرمز لجسد الوطن، فالمرأة في الأدب رمز للوطن بمعناه الشامل الذي يتسم بالاستقرار والهدوء والعشق، فيكتشف المتلقي تلك الصفعة القوية عندما يقول: " هناك أوطان مومس وأمم وشعوب مومس / 219. إن ربط الأنموذج المتحرر المتجسّد في شخصية " لمى " بالوطن شديد القسوة لذا يلجأ الكاتب إلى التشفير الدلالي ، فباستقراء القرائن التي لازمت " لمى " على مدار السرد يلحظ المتلقي مدى التشابه بينها وبين الوطن بصورته المرفوضة ؛ فعامر زوجها الذي " يشبه قادة حرب 1967 /25 ". فيمثل أنموذج القادة الذين لا يفهمون طبائع شعوبهم مما أدى لاتخاذهم قرارات فاشلة واختيار خلفاء لهم فتحوا البلاد على انفتاح غير محمود العواقب يجسّده الكاتب في صورة " لمى " التي عانت من ضيق أفق زوجها وعدم قدرته على احتوائها بل وعرّفها على الأغراب ويرى انفتاحها معهم دون تحرج ، فكانت تبحث عن الحب في كل مكان.
وعلى صعيد الأمومة نجد أن تلك الأنثى / الوطن تضحّي بأبنائها وتلقي بهم في الضياع ، فيقوم الكاتب بإدخال نصوصٍ موازية في شكل " همسات " معانقة السرد كي يفضح مفارقات الوطن المغيّب ، يقول مثلاً:" الأمة العربية العظيمة أنجبت ابن رشد ، والأمة العربية العبيطة جعلت ابن رشد يحرق كتبه خسارة فيها / 99 ". ومن هنا تفقد المرأة / الوطن سلطة الأمومة " الماتريركية " الممثلة للحب والمساواة بين الأبناء ونبذ الشقاق، وغدت امرأةً لعوباً تبحث عن ما هو غير شرعي إثر ارتمائها في أحضان الفساد والماسوشية . إن شخصية " لمى " تترجم واقع الوطن بمرارة ، وكيف انتهى العصر البطولي برحيل عبد الناصر وعودة الثورة المضادة والطبقات القديمة وحيتان الانفتاح الاقتصادي والاستهلاكي، وحكم البنك الدولي والشركات متعددة الجنسية. إنّ البحث الشره عن الحب ومطارحة الغرام في حقيقته كشف لحقيقة الشعور الداخلي والثورة المحتقنة التي ترفض الواقع لكن لا تقوى على تغييره ، مما دفعها إلى مقارعة الآخر، يقول السارد: " لمى تتعامل مع الرجال على تبادل الأمكنة هي رجل وهن نساء / 211 " ، فكانت " لمى " تبحث عن منازلة الرجال في خصائصهم التعددية ، لأنها ترفض واقعها ولا تستطيع تغييره ، فغدت صورة مشوّهة للمرأة، كما صار الوطن جسداً مشوّهاً.
3 - " وحيد سالم ".. أنموذج الروح:
إذا كانت شخصية " لمى " تمثل رمزية جسد الوطن المستباح ، فإن شخصية " وحيد سالم " تمثل أنموذج الروح المصرية ذات التراث الثقافي والفلسفي العريق وآمال القومية العربية التي تحملها على كاهلها يقول: "مات عبد الناصر وأصبح في مصر لا يوجد أي حلم وطني أو قومي.. بل حلم فردي.. فتّح مخك واضرب واهرب واسرق.. قررت حينئذ الهروب للنساء.. قررت الكتابة والسفر / 149 " ، مما يدل على الغربة الوجودية والذات الضائعة التي فقدت الجسد المطمئن .
يوظّف الكاتب أسطورة " إيزيس وأوزوريس " وعلاقتها بإعادة الروح للجسد المتقطع عبر علاقة " وحيد " بـ " لمى "، يقول " وحيد ": "وظل الفتى مسكون بحب امرأة استثناء، تجمع قلبه الأشلاء" ، فـ " وحيد" يجد في " لمى " أنموذج " إيزيس " التي تجمع أشلاء جسده وتعيد له الحياة ، ولكن الصدمة الكبيرة كانت في نهاية الرواية عند تنكّرها له إثر خسارته أمواله ووظيفته وصار مهدداً بالطرد والسجن. ومن هنا فقد أوضح السيد حافظ عمق المعاناة الإنسانية عندما يتنكّر الوطن لأبنائه ويقدّمهم قرباناً للفساد ويقتل الإبداع فيهم ، فيرديهم إلى الضياع وتظل أرواحهم هائمة في الخارج بحثاً عن جسد وطن مستقر ، ومن ثمّ يتحول المرء إلى حطام فاقداً هويته وموطنه وذاته ، إذ إن الجسد الراهن قد فقد إمكانيته على الحفاظ على الروح المصرية الأصيلة التي تحدت الصعاب عبر القرون . وأخيراً، وبعد أربعين عاماً من التشرذم وضياع الهوية والكرامة المصرية التي رمز لها الكاتب في الأخير بــ" الحقيبة الضائعة " يعثر عليها الشباب يوم 25 يناير 2011 ، ويقدومونها للبطل . فالكاتب يطرح مبدأ الثورة في بساطته إذ إن الجسد الحالي الذي عانى ويلات الفساد والطغيان قد آن له أن يستبدل إذ أنّ به مرضاً عضالاً قد استشرى وتفشّى ، فلابد من تنقيته من أدرانه وبتر ما يمكن بتره وتنظيف التقيح كي يؤتي العلاج بثماره ، وتعود مصر لروحها القيادية ودورها الريادي.
دينا نبيل عبد الرحمن
0 التعليقات:
إرسال تعليق