دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(44)
لسيد حافظ والتجريب الغاضب
بقلم الدكتور عبد الكريم برشيد – المغرب
دراسة من كتاب
المسرح التجريبى بين المراوغة واضطراب المعرفة
السيد حافظ والتجريب الغاضب
بقلم الدكتور عبد الكريم برشيد – المغرب
مدخل للتساؤل
في الفعل التجريبي يتم طرح السؤال المركب التالي دائما:
الكاتب فى المسرح ما هو دوره الحقيقي؟ وما المطلوب منه بالتحديد،؟ أن يحاكى العالم - كما هو هذا العالم - أم أنه محكوم بأن يراه أولا، بعين الفنان الرائي والعراف والساحر، وأن يفهمه ثانيا، بوجدان الشاعر وبعقل العالم، وأن بفككه ثالثا، تماما كما يفعل الأطفال بألعابهم، وأن يعيد ـ رابعا ـ خلقه وإنشاءه وتركيبه من جديد؟
وأرى أنه بغير هذا، فإنه لا يمكن أن يكون الفن فنا، ومن الممكن أن يكون شيئا آخر، أي أن يكون في الكتابة الدرامية تقريرا صحفيا، وتكون نسبته إلى النقل أقوى من نسبته إلى الخلق والإبداع.
شيء مؤكد أن الوجود ليس كما ساكناً وثابتا ونهائياً، خصوصا في عين الفنان المجدد والساحر والمتمرد، والأساسي بالنسبة إليه هو التغيير دائما، أي تغيير الكائن والموجود، بحثا عن الممكن الوجود، وبالتكيد فهو لا يحاكى المخلوقات، كما هي هذه المخلوقات في شكلها ولونها ووزنها وكثافتها، ولكنه يحاكي مبدأ الخلق، وبهذا يكون فعله الإبداعي موازيا لما تقوم به الطبيعة في الواقع، وهو لا يستنسخ الزمن والمكان والأحداث والناس والعلاقات والمؤسسات، كما هى، ولكنه يعيد خلقها من جديد، لأنه لا يراها في شكلانيتها الظاهرة، ولكنه يتمثلها في حقيقيتها البعيدة والخفية والمضمرة وهذا ما وجدناه لدى واحد من المسرحيين التجريبيين في المسرح العربي الحديث، والذي عرفناه باسم السيد حافظ.
نعرف أن العالم- كموضوع فى المسرح - شيء لا وجود له إلا من خلال ذات المبدع، وكما تكون هذه الذات يكون موضوعها، والأساس دائما هو روح الذات المبدعة والخلاقة، وهو فكرها وخيالها، وهو فاعليتها، ونحن دائماً أمام موقف ما، موقف المبدع الناقد والرافض والمتمرد بالضرورة، هذا الموقف يتولد عن رؤية غير محايدة بالتأكيد، ومن خلال تجديد الرؤية والموقف، وتجديد الأدوات التعبيرية، يولد المسرح التجريبى ولادة شرعية، وبغير هذا يكون مجرد لعب، أو مجرد فعل تخريبي وعدواني، ولا شيء أكثر من ذلك، لأن فعل التدمير فيه لا يستتبع فعل البناء الفكري والجمالي.
إن التجريب - كتعبير فنى فكرى - هو بالأساس محاكاة للتغير الواقعى اجتماعاً ونفسياً وسياسياً وفكرياً، ومن هنا يكون للتجريب الغربى معنى، لأنه ثورة تسير بمحاذاة ثورات أخرى، ثورات يمكن حصرها فى الثورة السياسية والصناعية والدينية والفكرية، أما بالنسبة للمسرح العربى فماذا يمكن أن نقول عنه؟ هل نقول بأن التجديد حاصل فى المجتمع والفكر والساسة، وبالتالى يمكن أن يكون له امتداده الطبيعى في المسرح وفي سائر الآداب والفنون الأخرى، هذا هو السؤال الذى سنحاول الإجابة عنه، وذلك من خلال دراسة المشروع المسرحي لدى السيد حافظ، والذي هو مسرح تجريبى تأسيسي طموح، مشروع يغني الواقع بالفن والفكر، ولا يفقره بالادعاءات والشعارات الفارغة.
التجريب من تجديد الرؤية إلى تجديد العالم
إن الحديث عن التجريب فى المسرح العربى يمكن أن يؤدى بنا إلى الحقيقة التالية، وهى أن التجريب الفنى والفكرى بابه موصود في بعض التجارب المسرحية العربية، وذلكك لأنه حوار بصوت واحد، ولأنه غير موصول بين المبدع والمتلقي والواقع والتاريخ، إنه رؤية مغايرة بكل تأكيد، وهو مفردات وأدوات فنية جديدة أيضا، وهو مقاربة جديدة لواقع لا يريد أن يكون جديداً أو مغايرا، وتلك هي المسألة، فعلى مستوى الخلق الفنى سنجد أن التجريب ينسى أو يتناسى الجمهور - بكل ما يحمله هذا الجمهور من ترسبات الماضى واحباطات الحاضر - ومن هنا، يبقى الإبداع، رغم فعل التجديد - تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وتقنيات – فعلا ناقصا، وذلك لأن الجانب الآخر فى الحوار غائب أو مغيب، ولهذا يكون من الضروري التساؤل بخصوص هذا الجمهور المسرحي، هل له وجود حقيقي؟ وإن كان موجودا، فهل تجددت روحه ورؤيته وثقافته المسرحية؟
هل تغيرت أدواته ومفاهيمه للحياة والمسرح؟
من هنا تجدنا مضطرين لأن نضيف بعض التساؤلات الأخرى، وذلك حتى ندخل المجال الحقيقى للتجريب الحق:
1 - هل يمكن للتواصل المسرحي، من خلال العرض المسرحي، أن يكون حقيقياً بين إبداع تجريبى متقدم وجمهور مسرحى متخلف؟
2 - كيف نسعى إلى خلق خطابات فكرية وفنية مغايرة، ثم نعمل على إيصالها إلى الآخر المتلقي، فى الوقت الذى لا وجود فيه لهذا الآخر الخالف والمختلف والمغاير؟
إن الكتابة التجريبية الأخرى لا تكتمل إلا بالقراءة التجريبية أيضا، ومن طبيعة الكتابة الإبداعية الجديدة ألا تكون فاعلة وحقيقية إلا بوجود قراءة جديدة، وهذا هو ما جعل كثيرا من المسرحيين التجريبيين غير (مفهومين)
3 - التجريب بالأساس ضرورة، فالواقع عندما يزداد الواقع اليومي والتاريخي تركيباً وتعقيداً، فإنه يصبح فى حاجة إلى أدوات مركبة ومعقدة أيضاً، وذلك حتى تستوعب التقنية الجديدة الموضوع الجديد، وحتى تكون قريبة من المضمون الفكري الجديد أيضاً، وحتى تكون أقرب إلى التعقيد الذهنى والنفسى للجمهور، ولهذا يكون من الضروري ن نتساءل: ــ هل وصل الواقع العربى إلى مرحلة دقيقة ومركبة ومعقدة حتى نبحث له عن لغات فنية وتقنية تكون أكثر تعقيداً وأكثر دقة؟
4 ـ ونعرف أن الإبداع الحقيقى يقف دائماً فى مواجهة السلطة، هذه السلطة التى لها أكثر من وجه، ولها أكثر من قناع، وإن أخطر سلطتين يواجههما الإبداع العربى اليوم هما سلطة الدولة وسلطة الجمهور، فالدولة تفرض مغازاتها والدوران فى أفلاكها، أما السلطة الثانية فتعبر عن ذاتها مسرحياً من خلال الشباك الغاشم الذى يرضى عن العادى والمبتذل والبسيط والسطحي والمفهوم والساقط، ولكنه يعادى الجديد والحقيقى، ويخاصم الغريب والغني والموحى.
إن الإبداع فى المجتمع العربى مطالب بأن يكون تابعاً للسلطة - فى جميع تجلياتها - عوض أن يكون سابقاً لها، والمطلوب من المبدع ألا يبدع، وأن يكتفي بأن يكون ساكناً وثابتاً وتابعا ومتخلفاً ومعادياً للتجريب وللاجتهاد، وأن يكون قانعاً باجترار المفاهيم البالية والقديمة، وأن يحذر السقوط في (البدعة)
إن الإبداع الحق يقوم أساساً على الحرية، أي حرية المبدع فى الخلق، وحرية الجمهور فى التجمع وفي التجمهر وفي الفهم، وهذا ما ليس له وجود مع وجود السلطة المستبدة والمتسلطة. يقول أبوللينر عن الكاتب المسرحى:
(من العدل أن يجعل الجموع والأشياء الجامدة تتكلم إذا راق له
وأن يغفل الزمان
وكذا المكان
إن عالمه هو مسرحيته
وفى داخلها هو الإله الخلق
الذى يرتب كما يشاء
الأصوات والإيماءات والحركات والكتل والألوان)
وهذا ما سنجده فى مسرح السيد حافظ، هذا المسرح الذى هو عالم آخر، له أزمانه المغايرة وأشخاصه وطقسه، والذى هو عالم سحرى يختلط فيه الواقعى بالحلمى والتاريخى بالاسطورى، والمحسوس بالمجرد، والمشخص بالمعنوى. هذا العالم له بنية الخاصة، سواء فى التركيب الذهنى والنفسى للشخصيات أو فى اللغة والحدث والمواقف، وهذا ما سوف نراه فى هذه المقاربة.
السيد حافظ : لسان حال جيل النكسة
من يكون السيد حافظ؟
من هنا التساؤل أبدأ من جديد، إنه أساسا مؤلف ومخرج مصرى من جيل النكسة، أى من جيل العنف والغضب والشعور بالإحباط، ومن هنا كان القلق ميزته الأساسية فى الكتابة، وهو في حياته وفي حياة مسرحه قلق وجودى واجتماعى معاً، لأنه يتردد بين رفض الشرط الإنسانى ككل ورفض الواقع المصرى ـ العربي المعاصر، والذي هو واقع تاريخى ساقته عوامل عديدة ـ ذاتية وموضوعية - إلى عنق الزجاجة، وبذلك كانت النكسة نتيجة طبيعية لكل ما سبقها وأوجدها، يقدمه لنا (محمد يوسف) كالتالى:
(ينتمى السيد حافظ إلى رعيل من جيلنا، شارك فى المظاهرات الطلابية التى انفجرت فى مدينة الإسكندرية عام 1968 أى بعد مرور عام الهزيمة الفاجعة فى عام 1976. وكان واحداً من هؤلاء المتظاهرين الذين خرجوا يتحدون الحكومة والنظام، ويطالبون بمحاكمة الجنرالات والضباط الكبار الذين انشغلوا بالكرة والأندية الرياضية عن الاستعداد العسكرى)
هذا الغضب على الواقع التاريخى - بكل مظاهره ومكوناته المختلفة – نجد له امتدادات تصل إلى الكتابة الدرامية عند السيد حافظ، هذه الكتابة الغاضبة والمتمردة، والتى يمتد رفضها إلى كل القوالب البالية المسرحية، فنجدها تحطم كل شئ، ولا تبقي على اي شيء، تحطم اللغة، وتحطم الشخصيات، وتحطم الحوار الساكن والمهادن، وتحطم البنية المسرحية التي تنتهي عادة إلى البنية السعيدة، وتحطم الرؤية السطحية والاختزالية التي لا تستحضر عمق القضايا وخطورتها، وتحطم كل المفاهيم المدرسية والعتيقة، والتجريب بالنسبة إلديه ليس ترفا، ولييس حادثا طارئا في مساره الإبداعي، ولكنه ضرورة وجودية وتاريخية، لأنه متولد عن حاجة نفسية داخلية للتغيير، أي تغيير الرؤية، وتغيير موضوع الرؤية، وتغيير أدوات الرؤية، وذلك من أجل ايجاد فن جديد لعالم جديد، عالم يقفز على قبح الحاضر المحمل بتداعيات الهزيمة الحضارية قبل الهزيمة العسكرية، والمثقل بكل عوامل ومقدمات النكسة.
يقول السيد حافظ فى استجواب صحفى:
(جيلنا من الكتاب الذى لم يظهر إلى الآن.. جيل رائع مليء بأشياء خفية مضيئة مكتوب عليها ممنوع الاقتراب من هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية مرتع للفوارغ من كل شيء فى الأقلام)
هذا الغضب ناتج عن إحساس باطنى بالغبن والظلم والقهر؛ فالمؤلف - من جهة - لا ينتمى لجيل الستينات - الذى كانت هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية مفتوحة فى وجهه. ثم إنه - من جهة أخرى - ينتمى جغرافياً إلى مدينة الإسكندرية، هذا الانتماء الذى يعنى إبعاده عن المركز، أى القاهرة، والتى هى السلطة الثقافية الواحدة والوحيدة والكلية، إنها الكل في الكل، وخارجها لا وجود إلا للفراغ. ومن هنا جاءت ثورته على الاستبداد السياسى موازية لثورته وغضبه على الاستبداد الجغرافى أيضا. ففى مسرحية (حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث) نقرأ هذا الإهداء :
(إلى جيلنا الرائع فى غلاف التكوين.. إلى أدباء الأقاليم)
إنه الحصار إذن؛ حصار جيل كتبت عليه الهزيمة فرضا، وفرض عليه أن يتحمل وحده تبعاتها، وهو أيضاً حصار أقاليم ليس لها من ذهب سوى أنها تقع خارج المركز الذي تمثله القاهرة، أى بعيداً عن مصدر السلطة السياسية والثقافية والفنية، يقول إبراهيم عبد المجيد عن المؤلف :
(وهو يعيش بالإسكندرية بعيداً عن القاهرة، والبعد عن القاهرة كثيراً ما يكون غنيمة ولكنه فى مجتمعنا - وخاصة فى مجال الأدب – مصيبة؛ فالكتاب والفنانون جميعاً مدعوون لهجرة الأقاليم والمدن من أجل هذا المرض الخطير المسمى "بالمركزية" مركزية مادية وروحية أيضاً)
وبهذا كان لتمرد السيد حافظ أبعاداه المتعددة والمتنوعة، فهو تمرد على السلطة وعلى تمركزها فى مدينة واحدة، وفى شخص واحد، وفى جمهور واحد له بُعد نفسى وذهنى وذوقى واحد، لأجل هذا كان دخوله المسرح التجريبى دخولاً شرعياً، لأنه دخول يهدف إلى تحطيم الأوثان وإلى هدم الوثنية، هذه الوثنية اللائكية التى تتجلى فى عبادة المدينة/ الصنم، وفي عبادة الشخص الوثن، والذي هو الزعيم السياسي في الوطن العربي.
إن فعل التجريب مرادف للتغيير، فهو يظهر دائماً فى المراحل الانتقالية؛ ففى فرنسا ظهر مسرح العبث مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد جاء ذلك كفراً بكل الشعارات فى العلم والتقدم والعقلانية والحرية والتفاهم والتعايش، أما فى العالم العربى فقد جاء التجريب مباشرة بعد النكسة، أي نكسة العرب فى 1967، لقد جاء فى الزمن الصعب ارتجالاً لواقع آخر، وكان محاولة لإيجاد وعي مغاير وفكر مغاير وفن مغاير ومسرح مغاير، جاء كفراً بعد إيمان، لحد السذاجة، وجاء تمرداً بعد خنوع، وجاء حركة بعد سكون، وجاء بحثاً بعد انتظار، وجاء صراخاً حاداً بعد صمت تاريخي طويل جدا. لقد كتب السيد حافظ مسرحيات لا تمت للمسرح التقليدي بشيء، وصور واقعاً عربياً متعدد الأبعاد والزوايا والمستويات؛ فبدا هذا الواقع غامضا وغريباً وملتبسا، وبدت مسرحياته أكثر غموضا وغرابة؛ فالشخصيات قد تكون رموزاً، وقد تكون أصواتا،ً وقد تكون حيوانات بشرية، وتبدأ الغرابة لديه فى أسماء مسرحياته:
1- حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث.
2- الطبول الخرساء فى الأدوية الزرقاء.
3- قرية المفروض فى مدينة الرفض ترفض رفض الأشياء.
4- الحانة الشاحبة تنتظر الطفل العجوز الغاضب.
5- هم كما هم ولكن ليس هم الزعاليك.
6- كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى.
7- ست رجال فى معتقل - ب شمال حيفا.
8- حكاية مدينة الزعفران
9- حبيبتى أميرة السينما.
هذه الأسماء هل لها معنى؟.. أكيد لها معنى، ولكن يبقى بعد هذا، هل يصل إلى القارئ المتفرج هذا المعنى؟ مرة أخرى نتساءل. أى قارئ وأى متفرج نعنى؟ شئ مؤكد أن هذه الكتابة الغاضبة الرافضة تتجه أساساً إلى جيل غاضب ورافض، وأكيد أيضا أن فعل تفجير الكتابة الدرامية التقليدية، جزء من تفجير هذا العالم، ومن تدير هذا الواقع، وذلك لإعادة بنائهما بصيغة أخرى مختلفة ومغايرة.
فلو تأملنا جيداً أسماء مسرحياته فماذا سنجد؟ سنجد أنها تتركب من المفردات التالية: (الكبرياء - التفاهة - اللامعنى - الخرساء - الرفض - الشاحبة - تنتظر - الطفل العجوز - الغاضب معتقل).. هذه الكلمات القليلة تختصر كل رؤية المؤلف للعالم، وهى رؤية مأساوية لحد العبث، كما تختصر شعوره القائم على الغضب وعلى رفض التفاهة واللامعنى من اجل تجاوز حالة الانتظار، ومن أجل رفض زمن الشيخوخة، ورفض حالة العجز والاعتقال.
يقول على شلش عن المؤلف :
(إنه شاب جريء جداً، وطموح جداً، حطم بطموحه وجرأته قواعد المسرح من أرسطو إلى بريخت) وهل هناك فعل تجريبي بدون طموح؟ وهل يمكن بناء الآتي الممكن الوجود، إلا بتدير وهدم هذا الكائن السائد والمتسيد؟
عن الطليعة فى منظورها العربى
أعمال السيد حافظ المسرحية تحدق فى الناس والأشياء بعينين اثنتين وليس بعين واحدة: العين الأولى مصرية ـ عربية، وهى مفتوحة على الـ "نحن" وعلى "الآن" والـ "هنا" أما الثانية فهى عين غربية ـ عالمية وكونية مفتوحة على المسرح الأوروبى كتجارب جريئة وجديدة ومثيرة ومدهشة، هذا الازدواج فى الرؤية والتعبير عنها هو ما حرر مسرحه من التبعية للمسرح التجريبى الغربى، وهو ما جعله يبدع فعلا تجريبيا فيه أشياء كثيرة من خصوصية المكان المصري، وفيه أشياء كثيرة من عبق الزمان العربي، وفيه شياء كثيرة من عبقرية الإنسان المصري والعربي.
ورغم غرائبية الأحداث والشخصيات والحوارات في مسرحه، فإنه لم يسقط فى اللا معقول، لأنه اكتفى بمحاورة الشكل العبثى، من غير أن يغوص فى مضمونه الفكرى، والذي هو مضمون وجودى محض، مضمون قائم على نظرة عدمية ترتكز على النفى، نفى المعنى، ونفى الحوار، ونفي اللقاء، ونفي وحدة الهوية، ونفي إمكانية أن يحدث شيء جديد في هذا العالم القديم، وأن يكون له معنى، فلا شيء في مسرح العبث إلا الخواء، ولا وجود إلا ل(شخصيات) بلا هوية، وبلا عمق، وبلا ملامح، شخصيات خاوية تقول أى كلام، وتتصرف أى تصرف، وكأنها من عالم مسرح الدمى، وهي لا تختلف عن غيرها، ولا يختلف غيرها عنها. هذا المسرح العبثى ليس هو مسرح السيد حافظ بالتأكيد، لأنه - حتى فى هلوساته المحمومة وفي تحليقاته وشطحاته - فهو لا يفقد الصلة بالأرض التى يقف عليها، ولا ينسى المكان والزمان والناس والقضايا. إنه يبتعد - شكلياً - ليقترب مضمونياً. فقد نجد أن مسرحياته بعيدة عن جزيئات الواقع، ولكنها قريبة من روح وجوهر هذا الواقع، وهي قريبة منه من لحد الانصهار والتماهي فيه.
عندما نقرأ كتاباته الأولى نجد أن السيد حافظ كان عضوا سابقا فى جماعة المسرح الطليعى، الشيء الذى يجعلنا نتوقف قليلاً لنتساءل : الطليعة - كمصطلح فنى، له أصل عسكري - ماذا تعنى؟
يقول بيرناردورت: (كل طليعة هى أولاً انقطاع عن باقى الجيش، وهى كذلك رفض للنظام والسلوم المشترك)
فالأساس إذن هو القطيعة والانقطاع، أي الانقطاع عن الماضى والحاضر وعن كل المكونات التى صنعت هذا الحاضر، بكل سلبياته وتمظهراته المختلفة والمتخلفة. الانقطاع عن شروط الهزيمة، والتي هى شروط مادية ورمزية لها وجود فى الإنسان وفى الرؤية المتخلفة للوجود، ولها حضور فى الفكر والفن والعلم، وفي المؤسسات والعلاقات، وفي السلوك اليومي، وفى اللغة اللفظية وكل اللغات الأخرى.
ويبقى أن نتساءل عن حقيقة هذه الطليعة، هل هناك فرق بين مفهومها - فى الغرب ـ ومفهومها لدى السيد حافظ وجماعته؟.. أكيد هناك أكثر من فرق، لأن الانهزام العربى هو انهزام عسكرى سياسى حضارى تاريخى اجتماعى، انهزام يمكن تفسيره وتعليله، لأنه نتيجة حتمية لشروط ثقافية وسياسية واجتماعية موضوعية، أما الانهزام الغربى فهو انهزام وجودى ميتافيزيقى، انهزام الإنسان أمام صمت الكون وانغلاقه وعبثه، ومن هنا فلا مجال للتفسير والتغيير، فلا شيء حقيقى إلا العبث والخواء والعدم والفوضى، هذا العبث الذى اتخذه الإنسان الغربى (موقفاً وجدانياً من الحياة قبل أن يكون موقفاً فكرياً من الوجود) وهذا العبث - فى بعديه الوجدانى والفكرى - هل نجد له صدى فى مسرح السيد حافظ، هناك إشارة إلى العبث جاءت فى مسرحيته (الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء)، ولكن ذلك لا يكفى، لأن المضمون لا يعرف أن العبث ليس مذهباً حديثاً، وأن أوديب قمة العبث وأن الأساطير والتراث تأكيداً والتغريب فى عدة وجوه ومراحل..
هذا إقرار بأن العبث قديم جداً، وأن له جذوره فى الماضى البعيد وامتداد فى الحاضر وما بعده، ويبقى أن العبث - كإحساس باطنى أو كمفهوم أخلاقى - شيء والعبث كمذهب فكرى متكامل شيء آخر، ويبقى أن نؤكد أيضا على الحقيقة التالية، وهي أن العبث الغربى هو نوع من الترف الفكرى والحضارى، إنه القفز على القضايا الاجتماعية والسياسية لمعانقة القضايا الميتافيزيقية المجردة، إنه تساؤلات ما ورائية تتخطى الخبز والكرامة والعمل والحرية والعدالة الاجتماعية والاعتقال والاستغلال والاضطهاد والقهر النفسى والجسدى والغربة والمنفى والتمرد السياسي للبحث عن معنى الوجود.، وما أظن أن هذا هو نفس ما كان السيد حافظ يسعى إليه.
إن (عبثية) السيد حافظ يمكن ردها إلى أصولها المصرية والعربية الحقيقية، وهي مرتبطة أساسا بالوضع الاجتماعى والسياسي المحدد، مكانياً وزمانياً، وليست عبثية مطلقة، إنها الكشف عن اللامنطق واللامعقول فى المجتمع، أى فى العلاقات وفي المؤسسات، وفي العقليات والنفسيات، وبهذا فقد كان تمرده تمردا ثورياً، وبهذا فهو فعل معقول جدا، وذلك في مواجهة واقع تاريخي لا معقول، وغير مقبول، إنه فعل واقعي وحقيقي، يمكن أن يثمر التجديد والتغيير مستقبلا، أي تغيير الإنسان، وتغيير الدولة، وتغير الأمة، وتغيير النظام العام، وتغيير الوعي العام، وتغيير الذوق العام.
عن البطل المسرحى والأقنعة المسرحية
وعندما نسأل، أو نتساءل: عن أى شيء يبحث أبطال السيد حافظ في مسرحياته، فإن الجواب يأتينا كالتالى، إنهم يبحثون عن الممكن، وليس عن المحال، يبحثون عن مدينة يغيب فيها (ممارسة القهر على المواطن، وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والعجز والتخلف(
وإذا كان هؤلاء الأبطال يقفون بين حدى الإيجاب والسلب، فإننا نجد على رأسهم شخصية أبى ذر الغفارى، ذلك (الصحابى الجليل الممسك بسيف الحق القابض على الجمر) إنه رمز التمرد عنده، وهو تمرد اجتماعى سياسى يقرن الفعل النظرى بالفعل العملى ويزاوج بين كلمة الحق والسيف الذى يحمى الحق وينصره، هذا البطل الملتحم بالناس وبقضاياهم اليومية يعيش النفى والغربة، وذلك شيء طبيعى ما دام أنه يحمل فكراً مغايراً وأخلاقاً مغايرة وتصورات حقيقية للعلاقة بين المواطن والمواطن، وبين الرعية والراعى. ولأنه يرفض الواقع المزيف فقد كتب عليه أن يعيش غربته النفسية والاجتماعية والفكرية.
(وتموت غريباً فى أرض الله الواسعة
وتموت غريباً بين خلق الله الجائعة
وتموت بعيداً ولم تحسم القضايا
بين أغنياء البلاد والفقراء العرايا)
تتكرر كلمة الموت ثلاث مرات، وتتكرر كلمة (غريباً) مرتين وتبقى الكلمات الأخرى هى أرض الله الواسعة وخلق الله الجائعة والفقراء العرايا وأغنياء البلاد مما يؤكد نية التمرد لديه، وذلك لأنه فى حقيقته تمرد على الظلم والقهر وعلى التفاوت الطبقى الفاحش.
(وبين قصور السلاطين والأمراء بيوت الفقراء
بلا طعام
والموائد تمتد فى حدائق القصور الغناء
بأطيب الطعام
وأنت هنا.. تشرب رملاً وتأكل رملاً هنا..)
كما أنه تمرد على السلطة القائمة على القمع وعلى التجسس على أنفاس الناس (بين كل رجل ورجل رجل من الشرطة السرية وبين صوتك وصوت الناس التضليل والضلال المبين)
وإذا كان كتاب اللا معقول يؤكدون على غياب المعنى فى الوجود، فإن السيد حافظ يشير إلى وجود المعنى وإلى وجود الحق والحقيقة، ولكن هناك من لا يريدهما فيعمد إلى التضليل والتجهيل، حتى يغيب الوعى، ويسود الجهل، وتبقى الدنيا كما هى الدنيا ساكنة من غير تقدم، وجامدة من غير تغير ولا تحول.
هذا هو القناع الأول للبطل فى مسرح السيد حافظ، أما القناع الثانى فيمثله (سيزيف) وسيزيف والواقع هو رمز العبث الوجودى، إنه لا يحقق هدفاً معيناً ولا يصل عند حد ما. هذا البطل العبثى يتسرب إلى مسرح السيد حافظ فنجده فى المسرحية التى تحمل اسم (سيزيف القرن العشرين) ونتساءل. لماذا سيزيف بالذات؟ ولعل السؤال الأكثر أهمية هو كيف قرأ - المؤلف الجديد الأسطورة القديمة؟ هل استنسخها - كما هى، أم أنه أعاد كتابتها من جديد بوعي جديد؟
لا شك أن السيد حافظ، باعتباره كاتبا مسرحيا، لم يختر التملص التام من جاذبية الفكر الأدبى الغربى، خصوصاً وأنه كان يعيش مرحلته الإبداعية الأولى، ومع ذلك يمكن أن نقول بأن سيزيف الجديد هذا، قد جاء وهو يحمل على ظهره هموم الإنسان المصري ـ العربى، فهو لا يعانى من أزمة وجودية تتجسد فى حضور السؤال وغياب الجواب وفى البحث العبثي عن معنى للوجود وعن غياب هذا المعنى.
سيزيف عند السيد حافظ يزاوج بين الهمين الوجودى ـ الميتافيزيقى والهم الاجتماعى المادى حيث نتلمس (مقالب السلطة والبيروقراطية) أن التمرد على العبث الوجودى هو فى جوهره عبث لأنه (ثورة) على اللا متغير، إنه العبث الذى يواجه العبث فلا يثمر شيئاً غير العبث، وليس هذا هو مطلب كاتب مسرحي من جيل النكسة، كاتب يسعى لأن يتغير كل شيء نحو ما يخدم إنسانية الإنسان، ونحو ما يؤكد مواطنة المواطن في وطنه، ونحو ما يجعل مدينته مدينة مدنية بشكل حقيقي .
إن مسرحية السيد حافظ تختفى أساسا (بالإنسان المتمرد على المواصفات الاجتماعية والحضارية) أى أنها تتجاوز المطلق إلى ما هو نسبى، وتركز على الاجتماعى المحسوس عوض، أن تغوص فى الميتافيزيقا وفى المجردات الذهنية.
أما القناع الثالث للبطل فهو الذى يمثله الفلاح عبد المطيع، وهو رجل بسيط، يعانى الفقر والتسلط، مطالبه محدودة ومتواضعة وبسيطة جدا، ولكنه مع ذاك يجد نفسه محاصراً بين سلطتين ظالمتين، سلطة الزوجة فى البيت، وسلطة الحكم خارج البيت، وهو بينهما يعانى الكبت الاجتماعى والسياسى، يفرح من غير فرح ويحزن من غير حزن، ويتزوج من غير حب، ويفعل من غير اقتناع. إنه يعيش داخل آلة جهنمية تسمى المجتمع، وهذا المجتمع قائم على اللامنطق، فلا شئ فيه معقول، ولا شيء له ما يبرره. وهو مطالب بأن يسمع أوامر الحكم، وان يطبقها حرفياً، من غير أن يسأل عن معناها ومعزاها، حسبه أن يطيع فى البيت وخارج البيت، حتى يكون أهلاً للاسم الذى يحمله، عبد المطيع، والذي يفيد الطاعة العمياء والخرساء.
هذا البطل إذن، هو الحلقة الثالثة فى مسرح السيد حافظ، وهو شخصية واقعية حقيقية بسيطة، وهو يختلف بالتأكيد عن (سيزيف) المتمرد الوجودي والأسطوري، وعن (المناضل) الثوري أبى ذر الغفارى، الثائر الطوباوى، وهو بهذا أقرب إلى المواطن الشعبي المقهور، منه لى الشخصية التاريخية أو الأسطورية.
ملامح الكتابة/ الضد عند السيد حافظ:
إن الكتابة الدرامية لدى السيد حافظ تتمرد على كل الأصول التقليدية. إنها الكتابة/ الضد التى تقف داخل وخارج الفن المسرحى؛ فهى كتابة تؤمن بالمسرح - كمظاهرة شعبية وإبداع فنى وفكرى - ولكنها تكفر بقواعده البالية، والتي هى ـ في أغلبها ـ قواعد مدرسية مستهلكة، وهي قوانين جائرة ومستبدة، لا تختلف كثيرا عن القوانين الاجتماعية والسياسية، وماذا يمكن أن يكون موقف كاتب متمرد وثائر من الاستبداد سوى أن يرفض كل القيود - داخل وخارج الفن المسرحى؟ وكذلك كان.
(فعندما نشر مسرحيته الأولى عام 1970 "كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى" أثارت أثناء مناقشتها فى جمعية الأدباء بالقاهرة جدلاً لا حد لغلوائه وعدم تعقله.. أطلق البعض يرجمها بدون هوادة وبغير رحمة لأن هذا البعض صدمته غرابتها لما هو مألوف لديه)
هذا الهدم هو فى جوهره هدم للصيغة الغربية للمسرح، هذه الصيغة التى تريد أن تكون المسرح كله، فى كل مكان وزمان، وعند كل الشعوب، ولكن، أهذا مطاب ممكن؟ أهو ضرورى أن يكتب كاتب عربى من مصر - يعيش فى النصف الثانى من القرن العشرين - أن يكتب كما كتب موليير وراسين و(كورناى) فى القرن السابع عشر؟ إن إحساس الكاتب بأنه يحمل مضامين مغايرة ألزمه بأن يبحث لها عن أشكال مسرحية مختلفة ومغايرة، وفى انتظار أن يعثر عليها يوما، فلابد أن يبدأ من حيث يجب البدء، أى من هدم المسرح فى شكله التقليدى، وذلك ما هو فعله السيد حافظ في مسرحه، قد يكون ذلك الهدم فوضوياً فى البداية، لأنه لم يعط البديل الفكرى والفنى، ولكنه هدم ضرورى، أولاً لتحطيم قدسية الأوثان المسرحية، وثانياً لتأكيد الشعور بالحاجة إلى مسرح آخر، وثالثا لفتح الباب أمام الأجيال القادمة من أجل أن تؤسس كتابتها المسرحية الجديدة والمجددة.
وبعد هذا لا بد أن نسأل: ما هى ملامح الكتابة التجريبية عند السيد حافظ؟
يمكن أن نقول بأن كل مسرحية لديه لها بناؤها الدرامى الخاص، فهو فى كل إبداع جديد يجرب شكلاً جديداً، وهذا البناء المددد والمتجدد، بأى شيء يمكن أن ننعته سوى أنه لا أرسطى، بمعنى أنه لا يلتزم بقواعد أرسطو، سواء من حيث التمييز بين التراجيديا والكوميديا، أو من حيث الوحدات الثلاث، أو من حيث وحدة الحدث، أو من حيث تطوره التصاعدى وتأزمه وانفراجه، أو من حيث طبيعة الشخصيات ومفهوم التراجيديا، فالحدث فى مسرحه فعلا موجود، ولكنه حدث ممهور بالغرابة، وهو غالباً ما يكون ساكناً أودائريا و حلزونيا، ونجده قائماً أساسا على الانتظار، وعلى الترقب، وعلى الترصد، وإذا تحرك هذا الحدث، فإنه لا يتحرك فى خط مستقيم، ولا يصعد إلى الأعلى بالضرورة، ولا يتحرك بين التأزم والانفراج، وقد يبدأ من الخلف أو قد يعود إلى الخلف بشكل سينمائى (فلاش باك) هذا الحدث يبدأ عادة متأزماً، ربما لأن الانفراج ـ في وعي الكاتب ـ نوع من التفاؤل الكاذب، وعليه، فإنه لا مجال للتمويه على النفس والكذب على الجمهور والقراء.
أما المكان فى مسرح السيد حافظ فهو مكان مسرحى خاص، مكان مرتبط بالمسرحية كعالم جديد وكون جديد، وبذلك فلا مجال للبحث عنه فى خرائط العالم. إنه المكان الذي يقع خارج الجغرافيا، أما الزمن فهو متحرر من الساعة ومن عقاربها، إنه الزمن الحلمى والاسطورى والخرافي والسوريالي. وقد يحدث أن يكون للمسرحية تاريخ محدد، ولكن هذا التاريخ يظل غائباً كوقائع - لها ارتباط بمكان محدد وزمن محدد وأشخاص معينين - لأنه روح قبل كل شيء آخر، وهو بهذا إحساس وظلال نفسية وحالات فكرية قبل أي شيء آخر.
فالزمن فى مسرحية (حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث) يدور (أثناء الحرب العالمية الثانية، والمكان، مخبأ عام فى أحد أحياء الإسكندرية) أما فى مسرحية (الحانة الشاحبة العين تنتظر الطفل العجوز الغاضب) فإن المؤلف يحصر الزمن (بعد أحداث خمسة يونيو - الفترة الأخيرة من القرن العشرين الفترة التى تبدأ فيها الشمس فى الاستغراق والظلام يزحف)
أما المكان فى نفس المسرحية فهو (جزيرة السمان - فى صحراء رام الله - فى خطوط المواجهة "السويس والإسماعيلية" فى داخل الأرض المحتلة - فى بقاع آخر "من المجتمع") وبرغم هذا التحديد، فإن السيد حافظ لا يمهمه أن يقدم صورة واقعية وطبيعية للمكان والزمان، لأن الأساس لديه هو ألا يكون الديكور واقعياً، وذلك حتى لا يسجن ذهن المتفرج داخل بؤرة واحدة ضيقة (الديكور رمزى - تجريدى - يستخدم أشياء بسيطة فى ديكور هذه المسرحية)
وتدور المسرحيات الأخرى فى إطار مكانى/ زمانى غريب؛ فمسرحية (ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى) تقع أحداثها فى دولة "فردوس الشورى" (الفردوس الأخضر سابقاً) أى أنها دولة ليس لها موقع جغرافى على خريطة العالم، لأنها دولة تقع على حدود اللازمان واللامكان، بمعنى أنها دولة "معنوية" تظهر فى عصور التخلف والعجز والقهر والهزيمة، قد لا يكون لهذه الدولة وجود على خريطة العالم، ولكنها بالتأكيد لها وجود فى الذهنية العربية، لأن الأسماء قد تتغير، ولكن المسميات تبقى كما هى حاضرة وموجودة وقائمة، فالمهم إذن ليس الدولة، في حد ذاتها، ولكنه ما يقع، أو ما يمكن أن داخل هذه الدولة الغريبة والعجيبة من أحداث وممارسات غريبة وعجيبة.
وإذا كانت التسمية غريبة، فإن الأحداث والمواقف والشخصيات والحالات والمواقف هي غريبة هي أيضاً، فالمؤلف يترك للمتفرج حق القراءة الحرة، والقائمة أساسا على الإسقاط، أي إسقاط مكانه على مكان المسرحية، وإسقاط زمانه على زمانها الخاص، وبهذا يصبح الواقع مرآة للمسرحية، وتكون المسرحية مرآة للواقع، وتكون العلاقة بينهما علاقة جدلية.
ومن أمثلة الأمكنة الفنطازية مدينة الزعفران فى مسرحية (حكاية مدينة الزعفران) هذه "المدينة" ليست مدينة واحدة بقدر ما هى مدن متعددة وهي دول كثيرة تتمدد على الخريطة - السرية للعالم العربى والعالم الثالث حيث (تبرز صورة الحاكم الفرد المتسلطة الذى يمارس علناً الاستئثار بقوت الشعب وبثروته وإمكاناته بالظلم والإرهاب والقمع ومحاولاته الدائمة للتمسك بمنصبه وسلطته ضد كل القوانين والتشريعات والأعراف، ورغم كل النكبات والهزائم ومظاهر التخلف والفساد والخراب)
كل هذا يؤكد الحقيقة التالية: وهى أن السيد حافظ - فى تجريبيته - لم يفقد ارتباطه بالأرض التى يقف عليها، والتي يكتوى بحرها وبردها وتخلفها وانهزامها وعذباتها.
الشعر : من اللفظ إلى الصورة
أما من حيث اللغة، فهناك هذا التداخل بين النثر والشعر و"البناء الشعرى" عند السيد حافظ لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى. الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ، وهو نوع من اللغة يبعث فى النفس ذلك الحنين وتلك الوحشية إلى المثل العليا فى الوطنية وفى الأخلاق وفى الدين، وفى التنظيم التى تبعثها الصور التراثية الشعبية من ملاحم وحواديت ومواويل وأشعار؛ فالمؤلف يستنطق الصور التاريخية والتراثية.
وهذه الصور، في مسرح السيد حافظ، هى الشعر الحى والمحرك.. إنه "الحواديت" فى أغرابها وأجوائها وعجائبيتها، إنه المواويل فى جرسها وأنفاسها وآلامها وتأوهاتها، إنه الملاحم التى تتداخل فيها الصورة والكلمة والمنفعلة بالحيوية والحركة؛ فالسيد حافظ يفهم الكتابة الدرامية على أنها:
(كل واحد لا يتجزأ. فلا شعر ولا نثر، لأنهما معاً يكونان لحظتين متداخلتين من الوجود. فى البدء يختلفان، ولكنهما فى الأخير تنتهيان إلى شيء واحد. فى العمق لا وجود إلا للشعر، أما فى السطح فهما يختلفان بالتأكيد، وما بعد الاختلاف غير الائتلاف، وما وراء الكثافة غير الشفافية، وما نهاية العلم إلا الشعر، وما خلف الشعر إلا الحكم وهناك - عند نقطة معينة - تكف الأشياء أن تناقض بعضها البعض، لأن الشعور بالوجود يصبح لحظتها مرادفاً للعلم بالوجود وذلك هو الشعر/ العلم، والعلم/ الشعر)
فالسيد حافظ فى تجربته الوجودية كثيراً ما يميل إلى هذه النقطة التى ينتقى فيها التناقض بين الأشياء؛ فيتحول النثر إلى شعر، ويتحول الشعر إلى علم والعلم إلى حكمة، ويصبح في فعل إدراك الناس والأشياء والكلمات والعبارات قائما على العقل والقلب وعلى الروح والوجدان معا، وعلى الحس والتخيل، ولعل هذا هو ما يفسر هذه الحرارة الموجودة فى مسرحه، والتي هى حرارة تنم عن التحام الذات بالموضوع، وتعبر عن انصهاره واندغامخ فيه، وهو بهذا كاتب يكتب عن عالم ينهار، من غير أن ينسى أو يتناسى أنه جزء من هذا العالم الذى ينهار، وبذلك فهو يكتب بقلق وبعنف وبغضب وبحزن وبحس مأساوي، إنه يصرخ بصوت عال، ويفكر بصوت مرتفع، حتى أنه فى بعض الأحيان تختفى الشخصيات كلها، ولا تجد أمامك إلا المؤلف الممتليء غضباً وسخطاً وشاعرية. إن المهم لديه هو أن يكتب، وبحسب كثافة الحالات وتنوعها تتغير كتاباته، فتكون نثراً أو شعراً أو كل هذا داخل العمل المسرحى الواحد؛ ففى مسرحية (علمونا أن نموت فتعلمنا أن نحيا) نجد أن الإشارة الأولى - الفصل الأول - بالفصحى أما بالإشارة الثانية فهى بالعامية.
وفى مسرحية (الحانة الشاحبة تنتظر الطفل العجوز الغاضب) نجد أن مجموعة الرجال تتحدث العامية، أما مجموعة النساء فتتحدث العربية الفصحى، وقد يحدث أن تتحرر اللغة من حدودها فتصبح حديثاً مسرحياً فيه شيء من الفصحى وشيء من الحديث اليومى، ففى الفصحى يرسم المؤلف الحقيقى والتاريخى والنظرى، ما في العامية فيرسم اليومي والواقعي، وبالتأكيد، فإن لغة واحدة، لرسم عالمين اثنين لا تكفي .
فالعامية إذن، في مسرح السيد حافظ، لها دورها، وهي شخصية حقيقية مثل كل الشخصيات الأخرى، وبها يرسم اليومى والحسي والواقعى، وذلك انطلاقاً من الأمثال الشعبية، وانطلاقا من الحكايات ومن الحكم ومن التعابير السائرة ومن ألعاب الأطفال اللفظية من مثل:
(سلام : شوف يا بنى .. حادى بادى (يشير إليه والى نفسه) كرومب زبادى. بنت العسكر.. راجت تسكر.. مين سكرها.. قمح السكر..)
ويبقى أن نشير، فى ختام هذه المقاربة، إلى أن التجريب فى مسرح السيد حافظ هو مجرد مرحلة، ويمكن أن نعتبر مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) بداية مرحلة مسرحية جديدة، وهى مرحلة التأسيس التى تأتى عادة بعد فوضى الهدم والتجريب؛ ففى هذه المسرحية يعود السيد حافظ إلى التراث العربى وإلى الوجدان الشعبى، وذلك من أجل صياغة لغة مسرحية أخرى، قديمة وجديدة في نفسي الآن، لغة تملك القدرة على التعبير عن الهم العربى وعن فكره وروحه، هذه المرحلة تحتاج بالتأكيد إلى دراسات مفصلة أكثر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق