دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 45 )
التحليل الدرامى
لمسرحية "حكاية مدينة الزعفران"
بقلم: عبد الحق قرطيط
دراسة من كتاب
المسرح التجريبى بين المراوغة واضطراب المعرفة
التحليل الدرامى
لمسرحية "حكاية مدينة الزعفران"
بقلم: عبد الحق قرطيط
يشكل الكلام الذي تنطق به شخصيات النص الرئيس لمسرحية ما ، وتشكل الإرشادات المسرحية التى يعطيها المؤلف النص الثانوي. وتختفي هذه الإرشادات المسرحية عندما تعرض المسرحية ، فهي لا تظهر إلا أثناء قراءة المسرحية، حيث تمارس وظيفة العرض. وهكذا يتكون النص المسرحي من قسمين متمايزين ، لكن لا يمكن الفصل بينهما.
هذان القسمان هما: الحوار والإرشادات المسرحية. وحتى وإن غابت هذه الإرشادات المسرحية ظاهريا ، فإنها تظل مع ذلك موجودة فى النص المسرحي مادامت تتمثل على الأقل فى أسماء الشخصيات وفي قائمة توزيع الأدوار وداخل الحوار. ويكمن الفرق الأساسى بين الحوار والإرشادات المسرحية في السؤال الآتى: من يتكلم؟([1])
ففى الحوار يتكلم هذا الكائن من ورق الذي نسميه الشخصية، أما في الإرشادات المسرحية ، فالكاتب هو الذي:
أ- يعين الشخصيات ويحدد لكل واحدة منها مكان وزمان حديثها وخطابها الخاص بها.
ب- يعين حركات وأفعال الشخصيات بعيدا عن كل خطاب([2]).
والإرشادات المسرحية ضرورية لتوجيه العرض المسرحي ، وإن كانت في حقيقة الأمر لا توجه إلا جانبا من هذا العرض، وبذلك يبقى على الإخراج كل الأشياء الناقصة التي لا يقولها لا الحوار ولا الإرشادات المسرحية.
ولا تظهر هذه الإرشادات المسرحية إلا أثناء قراءة النص المسرحي ، أما أثناء العرض فتتحول إلى علامات مسرحية تملأ الفضاء الركحي. لكن إلى من توجه أصلا هذه الإرشادات؟ أنها موجهة إلى عدة متلقين ، فهى موجهة إلى المخرج بقدر ما هي موجهة إلى الممثلين ، والى القراء ايضا. ومعنى ذلك أنه ينبغي علينا أن نميز بين الإرشادات المسرحية المتعلقة فقط بمسار السرد أو الحكاية والإرشادات المسرحية ذات الطابع الركحي الخالص([3]).
وعندما لا يعطي المؤلف الدرامي أي إرشادات مسرحية فمعنى ذلك أنه لا يريد أن يعطي أي معلومات أخرى تصلح للعرض باستثناء تلك الموجودة في نص الشخصيات ومعنى ذلك أيضا أنه يترك نصه مفتوحا ، إن لم نقل مبهما ، ويترك الحرية للقارئ دون أن يفرض عليه أي تأويل مسبق قد يصلح كنموذج للعرض. ولا يقف دور الإرشادات المسرحية عند حد التعليق على الحوار وشرحه ، أو عند تقديم المساعدات للمخرج والتقنيين والممثلين لإنجاز العرض ، وإنما يتجاوز كل هذا ليثبت أن المسرح هو أكثر الفنون ثراءا وتعقيدا لأنه نقطة التقاء كل وسائل التعبير ، ولأن جوهره يقوم على الجمع بين كل الفنون. والهدف هنا هو جمع هذه الفنون هو خلق عمل درامي يقلد خلق العالم. عمل يستطيع من خلال لعب الممثلين ، ونبرات أصواتهم وملابسهم والديكور والإنارة والموسيقى أن يقود الجمهور إلى حالة من الهوس الجماعى([4])
لقد وجد المسرح من أجل أن يخاطب أعيينا ، وآذاننا ، وعقولنا ومشاعرنا، لقد وجد من أجل أن يخاطب وجودنا برمته. لذلك لابد أن يتحرك الجسم في الفضاء الركحي وأن يملأه ، ولابد أن تدب الحياة في الديكور ، ولابد أن تخلق الموسيقى جواه ، وأن تخلق الإنارة عوالم تتأرجح بين النور والظلام بين الوجود والعدم ، بين الحزن والفرح .لابد للملابس أن تفصح عن خبايا الشخصيات ، ولابد للرسم أن يثبت رؤيته للعالم على لوحة أو جدار من خلال الألوان والخطوط والظلال. ولابد للنحت أن يعطينا الإحساس بأنه اختزل حركية العالم في سكون وجماد الحجر أو النحاس ، ثم لابد أن نعيش جميعا – جمهورا و ممثلين، ومخرجا وتقنيين – تلك اللحظة السحرية، وذلك الإحتفال المقدس([5]).
وإذا بحثنا عن الإرشادات المسرحية في مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" للكاتب المسرحي السيد حافظ وجدنا أن أهم العناصر التى تكونها هى:
1- البناء الدرامى:
إن مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" تتكون من فصلين : الفصل الأول والثانى وأكثر من ثلاثين مشهدا مسرحيا. فهي عبارة عن حكاية تطرح قضية العلاقة بين الراعي والرعية ، أو بين الحاكم والمحكومين وما يتصل بذلكمن نظريات حول إمكانيات الإختيار وفلسفة التمثيل (تمثيل الفرد للمجموع) ابتداءا من مبادئ الشريعة السماوية ، وانتهاءا بما حققته الشعوب من مكتسبات ديموقراطية من خلال ثوراتها عبر القرون.
ويذهب الكاتب من ناحية إلى أن السلطة تفسد الفرد. ويذهب من ناحية أخرى إلى أن الميزان الحقيقي في ضبط الأمور هو الشعب ، الرعية ، الناس([6]).
2- الحوار المسرحي:
يبدو بوضوح من خلال المشهد الذي يحاور فيه مقبول الناس عندما تستيقظ ويعلمهم حقوقهم التى تنازلوا عنها للوالي وللسلطان.
مقبول: من يستطيع عزل خادم العامة؟؟
الكورس: السلطان ، أو الوالي ، أو الوزير.
مقبول: لا ... أنتم .. أنتم عينتموه ، وأنتم تستطيعون عزله([7]).
ولكنه لا يقول لهم كيف ؟! من خلال أي تنظيم؟! من خلال نظام الشورى النابع من الشريعة الإسلامية ؟! أم من خلال ديموقراطية المجتمع الرأسمالي القائم على مشروعية وضرورة نظام الطبقات المستقرة في مكانها مع تجريم أي اتجاه إلى إذكاء الصراع الطبيعى بينها ، ولو من خلال غريزة التطلع إلى مستوى أفضل ؟! أم من خلال التنظيم اليساري القائم على إذكاء الصراع بين الطبقات وحسمه لمصلحة البروليتاريا بوجه خاص أو الكادحين المنتجين بوجه عام؟! إن مقبول عبد الشافي – ومن ورائه الكاتب – يتركنا نتخبط في مأساتنا ، ولا ينير لنا طريق التنظيم ولا يوجهنا إلى سلبيات تنظيمنا الإجتماعى ، ولا يضرب لنا الأمثال من تنظيمات أفضل ، وكأنه يريد لنا في النهاية أن نواصل لعبة الكفاح دون عقل ، ودون تخبط ودون تنظيم ، كما نفعل منذ أن حكم الفراعنة مصر حتى الآن.
ولكننا نتنبه عند سقوط مقبول عبد الشافي من كرسي خادم العامة، رغم أنه صعد إليه بناءا على اختيار الجماهير ، لأن الإختيار في ذاته غير كاف ، وإنه إذا لم تراقب الجماهير سلوك السطة وأصحابها فالنتيجة دائما هي ما حدث لمقبول ، وما سيحدث لغيره ، ذلك أن أصحاب السلطة العليا ، ومن ورائهم الأجهزة – محلية كانت أم أجنبية – يمسكون بأيديهم الخيوط كل الخيوط ويلعبون اللعبة بمهارة تعززها خبرة طويلة وعريقة ورثوها من الفراعنة والأباطرة والقياصرة. إنهم يتحكمون فى الأسواق ، وفي البطون ، وفى العواطف ، وفي الأرزاق ، بل ويتحكمون أيضا في اتجاهات الجماهير بما يملكون من وسائل الإعلام والردع والقسر والتخويف والإرهاب من ناحية ، والمغازلة والترغيب وتحقيق الأحلام والتطلعات من ناحية أخرى.
وعلى ذلك فإن الكاتب يهدم بسقوط مقبول فكرته المثالية بأن الشعب صاحب الأمر والنهي ، وبأنه يقول لحاكم كن فيكون ، أو أنزل فينزل ،كما كان سلطان الآستانة يفعل بولاة الولايات تحت ظل الإمبراطورية العثمانية. ما الحل إذا ، وقد انهزمت أكبر تجارب الزعامة الشعبية في حياة مصر ، وكانت نتائج هزيمتها ما يعلم الكاتب والقارئ مما يجرى ؟! يبقى السؤال مطروحا ، ويبقى لتجربة الشعب وحدها أن تجيب عليه بكل ما تتضمنه كلمة "الشعب" من معطيات: من هو!؟ هل هو المنتجون أم المستهلكون؟! المتعلمون والمثقفون أم الأميون؟! التجار والأغنياء والملاك أم الفقراء والمعوزون والكادحون من أجل رغيف أسود ..مجرد رغيف أسود.. وبالكد بصلة؟! أم هو في النهاية مجموع تحالف فئات الشعب بكل ما بينها من تناقضات كما أرادت له ثورة 1952 أن يكون ؟!..([8]).
3- مقومات الفرجة في المسرحية:
3-1- أسماء الشخصيات:
إذا عدنا إلى مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" نجدها قائمة على شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية تخدم الحدث المسرحي فقط فالشخصيات الرئيسية تتجسد في شخصية مقبول عبد الشافي بطل المسرحية وزيدان وأبو المعاطي رئيس الكورس وزوجة البطل أم معتز.
أما بالنسبة للشخصيات الأخرى فهي ثانوية تؤدي دورا تكميليا في المسرحية وهى: الشاب أخر زوجة مقبول والشرطى 1 والشرطى 2 والعجوز وهى أمرأة في سن الأربعين والفلاح 1 والفلاح 2 ورئيس الجوقة والوالي والوزير والمنادي في العامة. ورجل 1 ورجل 2 ورجل 3 كرم النجار وجرسون المقهى وزوجة الوزير وخادمة القصر والحارس وشهبندر التجار وسليمان أحد الكورس وسكرتير خادم العامة مقبول عبد الشافى.
3-2- الفضاء الدرامى:
المسرح فضاء : فضاء دنيوي ، وفضاء مخصص، وفضاء احتفال، والفضاء المسرحي حقيقة جد معقدة لأنه يحتوى على :
أ- مكان مادي محسوس، هو مكان وجود الممثلين في علاقتهم بالجمهور.
ب- مجموع مجرد هو مجموع العلامات الواقعية أو الافتراضية للعرض.
ويمكن على العموم التمييز بين عدة أنواع من الفضاء هى:
1- الفضاء الدرامى: وهو الفضاء الذى يتحدث عنه النص، فضاء مجرد، على القارئ أو المشاهد أن يصنعه بواسطة الخيال.
2- الفضاء الركحى: وهو الفضاء الحقيقي للركح حيث يتحرك الممثلون سواء اقتصروا في تحركاتهم على الركح وحده أو تحركوا وسط الجمهور.
3- الفضاء السينوغرافي والفضاء المسرحى: وهو الفضاء الذي يوجد داخله كل من الجمهور والممثلين أثناء العرض ، وميزته أنه يشكل علاقة مسرحية بين الإثنين.
4- فضاء اللعب (أو الفضاء الحركي): وهو الفضاء الذي يخلقه الممثل بواسطة حضوره وتنقلاته وعلاقته بالمجموعة. ([9]).
5- الفضاء النصي: وهو الفضاء الخطي والصوتي والبلاغي للنص ، إنه الفضاء الذي يجمع كل من الحوارات والإرشادات المسرحية. ويتحقق الفضاء النصي عندما لا يستعمل كفضاء درامي متخيل من طرف القارئ أو المستمع ، وإنما كمادة خام موضوعة من أجل سمع وبصر الجمهور([10]).
وما يهمنا في دراستنا هاته هو الفضاء الدرامي الذي يعارض إلى حد ما الفضاء الركحي. فإذا كان هذا الأخير يتحقق بواسطة المخرج ، فإن الفضاء الدرامي لا يتحقق إلا بواسطة القارئ أو المشاهد ، وذلك من أجل تحديد إطار لتطور الأحداث والشخصيات ويتشكل الفضاء الدرامي عندما نكون صورة عن البنية الدرامية لعالم المسرحية ، هذه الصورة التي تشكلها الشخصيات وأفعالها وعلاقتها ببعضها في إطار الحدث ، ومعنى ذلك أن كل قارئ أو مشاهد يمكنه أن يكون صورته الخاصة والذاتية عن الفضاء الدرامى([11]).
وإذا أنتقلنا إلى مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" نجدها متعددة الفضاءات فمن السجن إلى بيت مقبول إلى الجبل حيث يترك مقبول الناس ويذهب ليعمل حطابا من أجل كسب لقمة العيش ومن تم إلى القصر حيث سينصب خادما للعامة إنها فضاءات تعبر أحسن تعبير عن العيش في مدينة الزعفران هذه المدينة التى يقول عنها السيد حافظ أنها ليست على الخريطة وهي خارج الزمان واملكان ولكنها داخل الإنسان([12]).
وعلى الرغم من أن كل الفضاءات الدرامية في هذه المسرحية معروفة لدينا ومرتبطة في ذاكرتنا بحدث معين أو بشخصية بعينها، إلا أن الفضاء الدرامي العام للمسرحية الذي يملؤه مقبول عبد الشافي بحضوره القوي ودلالاته الرمزية العميقة هو فضاء لا يخضع لسلطة المكان والزمان ، فضاء يقع في تلك المنطقة التي يلتقي فيها الواقع بالخيال ، ويختلط فيها الحلم بالحقيقة ، وتمتزج فيها الحقائق بالأوهام. فضاء يجمع بين عالمين عالم الطبقة المسحوقة أو الرعية التي تعيش في محنة تحت ضغط عالم الطبقة الحاكمة أو النبلاء والذي يتجسد فى الوالي والوزير اللذين نجحا في خطة إفساد مقبول. وذلك بتنصيبه خادما للعامة والإنتقام منه بتعطيل مصالح المواطنين وبالتالي رفضه من طرف الشعب والإطاحة به من هذا المنصب ليصبح بعد ذلك مجمونا يغني في الطرقات.
وهذه الفضاءات نجدها مملوءة بعناصر متنوعة تتجسد في:
1- الديكور:
لقد أحتل الديكور مكانة هامة في هذا القرن ، حيث أيصبح عنصرا هاما في العرض المسرحي ، بخلاف ما كان عليه في القرون الماضية، حيث كان عنصرا سلبيا ، والديكور الجيد هوالذي يخدم أولا حركية المسرحية، فقد يتمتع بعدة مزايا كأن يكون مريحا للعين ومتناسقا ، وكأن يرسم بدقة الجو العام للمسرحية لكن كل هذه المزايا تبقى ناقصة إذا كان الديكور يعرقل إيقاع العرض([13])
وإذا كان الديكور هو مجموع العناصر التى تهدف إلى تنظيم الفضاء الركحي فإن المخرج الفرنسي غاستون باتي يرى مع ذلك أن وظيفة الديكور ليست فقط تحديد مكان اللعب أو عرض صور جميلة ، وإنما هو ايضا ممثل مساعد للممثلين الآخرين ، إذ يجعلهم في الوسط الذي يلائمهم وبذلك يسهل علينا الوصول إلى حياتهم الداخلية([14]).
وإذا كنا نتمحدث عادة في المسرح عن المدارس والاتجاهات والنظريات فإن المخرج الفرنسي لوي جوفي يرى أنه "ليس هناك نظرية لإنجاز الديكور ، ليس هناك نظام أو إرشادات ذات جمالية يمكنها أن تصلح لصناعة وخلق مكان درامي ، فالإحساس الموجود في المسرحية وحده يمكنه أن يصلح لصناعة أو ابتكار مكان الحدث"([15]).
وإذا عدنا لمسرحية "حكاية مدينة الزعفران" وجدنا السيد حافظ يعتمد على الديكور التجريدي في قوله: "على المسرح برتكبلات 80 سم ، 120 سم ، 40 سم ، 60 سم في شكل مدرج على اليمين.. أعلى يمين المسرح ت وجد بوابة السجن وهي من الديكور التجريدي وقد وقف حارسان أمامها"([16]).
- الستار بطيئ.... ([17])
وقد أعتمد على الديكور التجريدى ليترك لنفسه الحرية كي يعدل فيه عن طريق الإضافة أو الحذف حسب ما يقتضيه الموقف الدرامي لأن السيد حافظ وكما أسلفنا القول كاتبا ومخرجا. وهكذا يقول على لسان رئيس الكورس: على الجبل صعدنا كادت الصاعقة تأخذنا وجدنا كهفا مشتعلة به النار أقتربنا وجدناه([18]). فالكهف المشتعلة به النار رمزا للحرارة المشتعلة داخل جسد مقبول.
وينقلنا السيد حافظ عبر الديكور إلى قصر خادم العامة مقبول تتركه زوجته يظهر السكرتير في وجه أبو المعاطي الذي راح يتأمل القصر بدهشة([19]). هنا ومن خلال هذا المشهد يبتين الفرق الشاسع بين حالة مقبول من قبل وهو في الكهف وحالته وهو في القصر ولا شك أنه مندهش هو الآخر كصديقه أبو المعاطي وهذه أنواع من الديكور يبين من خلالها السيد حافظ تلك الفوارق الطبقية التى عاشها الشعب المصرى.
2- التوابع المسرحية(الأكسسوارات):
إنها أشياء ركحية(خارج الملابس والديكور) يستعملها الممثلون خلال المسرحية وإذا كانت التوابع كثيرة في المسرح الطبيعي ، فإنها بدأت تفقد فى وقتنا الحالي قيمتها المميزة لتصبح مجرد آلات للعب ، أو أشياء مجردة ن أما في مسرح العبث فإن التوابع تبين غزو العالم الخارجي لحياة الأشخاص ، بل إنها تصبح هي نفسها شخصيات تملأ الركح([20]).
وتكتسب التوابع دورها الإيجابي بفضل شكلها ولونها ووضعها على الركح ، ومدى قربها من عناصر ركحية أخرى أو بعدها عنها ، وكذا من خلال الدور المنوط بها والتأويلات المصاحبة لها. فالتوابع تظهر – فى الوقت نفسه – في العرض المسرحي كركيزة من ركائز الدلالة ، وكمادة "تشكيلية" وهي في الوقت نفسه معلومات وعلامة وقيمة حيث أ،ها تعطينا معلومات عن عالم خارج المتخيل وتحدد رؤية للعالم ، وتأخذ معناها من العمل المسرحي ، كما أنها في الوقت نفسه تعطي لهذا العمل معناه ، لذلك لابد من النظر اليها نظرة "سوسيولوجية" و "جمالية". وقد تقتصر احيانا وظيفة التوابع على مساعدتنا في اكتشاف المكان الذي توجد فيه ، كما أنه يمكن في بعض الأحيان اختزال تغيير الديكور في تغيير التوابع فقط([21]).
والتوابع في مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" كثيرة ومتعددة أبرزها المنبر حين تخاطب الزوجة مقبول: أتذكرك يا مقبول حين قلت أن كل الناس أطفال الله حينما تراك الناس على المنبر وتصلي خلفك أمام الله([22]).فالمنبر هنا رمز للعلم والنور الذي يمله فكر مقبول هنا تتبين النزعة الدينية لدى السيد حافظ المتأثرة بالخطاب الديني المنزل من عند الله بدل الخطابات الإيديولوجية الغربية التي طبقها الحكام المصريين بشكل منحرف وتحولوا إلى ديكتاتوريين بممارستهم للقمع والتشريد في حق الشعب المصري إلى درجة إن الإنسان المصرى المقهور أصبح لا يملك حتى ثمن الكفن عند موته وهذا ما عبر عنه السيد حافظ على لسان الكورس أثناء حواره مع مقبول. "هل تعرف أن أم حسن بائعة الطماطم قد ماتت ولم نجد ثمن الكفن"([23])
فالكفن هنا رمز للتقتيل والإعتقال الذي تعرض له الشعب المصري. ولعل بطلنا مقبول خير مثال لهذا الإعتقال حيث أعتقل لمدة عامين وخرج ليجد نفسه بدون عمل. ويحاول أن يعوض هذا النقص المادي بحمله للفاس وخروجه إلى الجبل ليعمل حطابا أو مزارعا "ضوء على زوجة مقبول بينما هو يحمل فأسا"([24]). فالفأس هنا رمز لإرتباط أبناء الشعب المصري بأرضهم رغم التنكيل الذي يلحقهم من طرف السلطة الفاسدة والهلع والخوف بأرضهم رغم التنكيل الذي يلحقهم من طرف السلطة الفاسدة والهلع والخوف الذي يطاردهم في كل مكان.
فبمجرد سماعهم تولية مقبول خادما للعامة خرجوا ليبحثوا عنه في الجبل ليحملونه ويفرحون بالمنصب الذي أسند إليه وذلك أملا في خدمتهم خدمة جيدة تليق بمستوى عيشهم (يحملونه) (وهم يخرجون) ([25]).
ولعل هذه الطريقة جاءت تعبيرا من الكاتب علىأ، مقبول قد مات ليس ذلك الموت الأبدي وإنما موت الحس النضالى لديه وهذا ما يؤكده صديقه أبو المعاطي بقوله:" وأنا في الشارع في الساحل في الأرض في ظل الأشجار. أحكي للناس عن صديقي الصفر. السيف القتيل"([26])ولعل الضرب بالسوط كذلك الذي تعرض له مقبول داخل السجن كل يوم خمس عشرة جلدة على ظهره([27]) أنكى طريقة لإبادة كل الأفكار التحريرية التي يحملها فكرة.
فالسوط رمز للقمع في أقصى درجاته . يتجلى ذلك بوضوح أكثر عندما تتدخل السلطة بالسلاح في آخر مشهد من مشاهد المسرحية وذلك لتفريق المتظاهرين حينما تمت الإطاحة بمقبول وألقى بالسيف وأخذ يصيح([28]). إنها النهاية الغير منتظرة له وبذلك لم يفقد الحس النضالى فقط وغنما فقدعقله وأصبح مجنونا يصيح ويغني في الشوارع.
3- الملابس:
لقد احتلت الملابس مكانة مهمة ومتنوعة في الإخراج المعاصر ، حيث أصبحت بحق "الجلد الثاني للممثل" كما قال المخرج والممثل الروسي تايروف في بداية هذا القرن. فإذا كانت الأزياء قد سعت طيلة حقب مسرحية عديدة إلى أن تتماشى فقط مع المواقف ، فإنها بدأت الآن تحتل مكانة طموحة جدا داخل العرض المسرحي ، حيث تعددت وظائفها واندمجت داخل مجموع العمل المتعلق بالدلالات الركحية. فالزي المسرحي يعطي عادة معلومات عن الشخصية تتعلق بالعمر والجنس والمهنة والانتماء الإجتماعي. وما يهم هو تطور الزي خلال العرض ، وكذا المعنى الناتج عن تناقض أو تكامل الأشكال والألوان.
ولابد لعين المتفرج أن تشاهد وتحس بكل ما ألقي على الزي المسرحي – كحامل لعلامات – من حدث ، ومزاج ، وموقف ، وجو. ولعل الصعوبة تكمن في جعل الأزياء حيوية ومتحولة لا يتم استهلاكها بمجرد أن يمعن المتفرج النظر فيها لبعض دقائق ، بل يجب أن تظل ترسل علامات في الوقت المناسب ، وحسب جريان الأحداث وتطور العلاقات العاملية([29])
وتأخذ الملابس في مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" قيمتها حيث يفضل السيد حافظ أن تكون ملابس الكورس فقيرة وبسيطة([30]) لتوافق موضوع المسرحية الذي يدور حول علاقة الحاكم بالمحكومين الذين يعانون القمع والتشريد ففي قلب منتصف المسرح يظهر مقبول في ملابس بيضاء([31]) فاللون الأبيض هنا رمز لبراءة مقبول. ثم يخلع هذه الملابس ليبدو بملابس الفرسان([32])فملابس الفرسان هنا تختلف عن الملابس البيضاء وكلا اللباسين يعبر تعبيرا جيدا عن شخصية مقبول فلابد له أن يبدو بملابس الفرسان لأن الوضع الذي يعيشه مزري للغاية لذا وجب عليه النضال من أجل تحقيق العيش في وضع أفضل.
ويكرس صديقه زيدان هذا الوضع المزري بكلامه.
لا تسبني.. أنا اسرق الحذاء وأضع بدلا منه حذاء قديم لأنني لا أملك في بعض الأحيان حذاء([33]).
لكن هذه الملابس التي يرتديها مقبول ستختلف بدخوله القصر وتنصيبه خادما للعامة "ودخل القصر رغم أنفه وخلعت الناس ملابسه المهلهلة ليرتدي جبة خادم العامة ويحمل سيفه ويجلس الكرسي الأنيق ويرتدي النعال الذهبي ذا البريق"([34]).
فهذا التغير جاء رغم أنف مقبول وأمرأته كذلك ارتدت أفخر الثياب([35])لتخرج إلى النزهة مع زوجة الوزير على ضفاف نهر العراء([36]).
إلا أن رغد العيش هذا لم يدم طويلا فبتعطيل مصالح العامة وتقصيره في خدمة الشعب بالإنطواء على نفسه داخل القصر ومقته للمنصب الذي اسند له ارتفعت أصوات الكورس ضده لتنادي بخلعه من هذا المنصب ليخلع بالتالي جبة خادم العامة ويخلع الحذاء ايضا ليصير حافي القدمين مثل باقي أفراد الشعب([37]). وأمرأته كذلك عادت إلى الكوخ وارتدت الملابس المهلهلة وجلست في الطريق([38]).
فبارتدائه لملابس الملوك وخلعها بعد ذلك ليرجع إلى وضعه السابق وربما أنكي من ذلك أحسن دليل على انقام الحكام من أبناء الشعب المناضلين من أجل الخبز بتحطيم أفكارهم وطموحاتهم فإما أن يتماشى مع خططهم فيصبح مثلهم وإما رفضه تلك الخطط فيؤدي به الأمر إلى الهاوية أو إلى قارعة الطريق.
4- الموسيقى:
إذا رجعنا إلى مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" نجد السيد حافظ لا يعير اهتماما كبيرا للموسيقى لأن موضوع المسرحية يحمل هموم المظلوم في هذه المدينة التي توجد داخل هذا الإنسان فالقمع والتشريد لا تتناسب معه إلا موسيقى حزينة أو طبيعية كموسيقى البلابل التى تنشد الأناشيد البيضاء([39]).
ونجد الموسيقى متجسدة بكثرة عند الطبقة الحاكمة فمن موسيقى الطبول([40]) إلى الموسيقى الهادئة التي تعزف أثناء الليل([41]) إلى أن ينام مقبول الذي أصبح يعيش داخل الصر باعبتاره خادما للعامة. إلى الموسيقى الطبيعية التي يستيقظ عليها في الصباح المتجسدة في أصوات البلابل العذبة([42]).
5- الرقص:
الرقص كذلك نجده قليلا في المسرحية لا يتجسد إلا من خلال هتافات الكورس بسقوط خادم العامة([43])وهتافاته ايضا عندما أعلن عن تنصيب مقبول في هذا المنصب بحيث احتشد في شكل هرمي يهتف بصوت خافت([44]).
من خلال هذا التعبير عن الفرح يتبين بوضوح مدى القمع الذي تعاني منه الطبقة الفقيرة من المجتمع فهي لا تفرح وترقص وتهتف إلا عندما تسمع خبرا فيه بصيص من الأمل للعيش أفضل إلا أن هذا الفرح لا يدوم طويلا نظرا لأساليب المراوغة التى يتخذها الحكام حتى ينتقموا من خصومهم الذين ينادون بالحرية والمساوات.
6- الأصوات الإصطناعية:
وظفها السيد حافظ ليبين استحالة العيش بإطمئنان في مدينة الزعفران يتجسد ذلك في تعليمات السكرتير حين يتكلم مع أبو المعاطي ثم تقول بصوت خافت([45]). بحيث يتحتم عليه أن يصطنع صوتا غير صوته المعتاد وهذا يدل على تحكم السلطات حتى في أنفاس المواطنين.
حتى الكلام يجب أن يتكلموا بالطريقة التى تريدها وإلا سيتم التنكيل بهم عن طريق الزج بهم في السجن إلى غير ذلك من أنواع التعذيب. وتتجسد الأصوا الإصطناعية أيضا في آخر المسرحية.
(الستار بطيء.....) (مع مزج الأصوات....)([46]) وهي أصوات اصطناعية تضفي طابعا جديدا على التجربة المسرحية للسيد حافظ بحيث تعطي للعرض المسرحي نكهة خاصة وتعبر عن انتهاء عرض المسرحية.
7- الإضاءة :
من المؤكد أنه ي مكن خلق الفضاء الدرامي انطلاقا من الإضاءة يمكنها أن تقوم بالأشياء الآتية:
أ- تغير في مساحة الفضاء عن طريق إضاءة منطقة معينة فقط وترك باقي المناطق الأخرى في الظلام.
ب- تظهر علاقة الفضاء بالزمان عن طريق تغيير إضاءة الفترة الزمنية.
ج- تحذف حدود الفضاء عن طريق عدم إضاءتها ، وبذلك تخلق لدينا وهم الفضاء اللامتناهي وغير المحدود.
د- تصور الجو بطريقة تجريدية ، وكذا "واقع" فضاء خارج الركح([47]).
ولا تكمن أهمية الإضاءة في أنها تشكل عنصرا من عناصر اللغة الدرامية ، بل تكمن أيضا في كونها تخدم مجموعة من اللغات الدرامية الأخرى ، حيث تبرز بعضها وتخفي بعضها الآخر ، وحيث تلون بعضها ، وتظهر اللون الحقيقي لبعضها الآخر.
بل أنها تكون فى الغالب في خدمة الممثل ، فتعزله عن المجموعة أحيانا وتجعل الممثلين مجموعة متجانسة أحيانا أخرى ، كما يمكنها أن تركز على الحركات الميمية للمثل أو على تعابير وجهة. بل إن الإضاءة هي التي تخلق إيقاع المسرحية بحيث تفصل بين المشاهد ، وتكشف عن الحالة النفسية لشخصية ما ، وتتدخل في الحدث عن طريق خلق قطيعة أو إقامة علاقة بين الشخصيات ، كما أنها تبرز انسياب الزمن ، وبذلك فهي تملك قيمة مجازية ورمزية([48]).
وهكذا فإن للإضاءة وظائف درامية و سميولوجية لا حدود لها ، فهي تضئ حدثا وتعلق عليه ، وتعزل ممثلا أو عنصرا من عناصر الركح ، وتخلق جوا ، وتعطي للعرض ايقاعا ، وتسمح بقراءة الإخراج ، وتوضح تطور الحجج والمشاعر ، كما أنها تنسق بين باقي النظم الركحية الأخرى إما عن طريق خلق علاقات بينها أوعن طريق عزل بعضها عن بعض([49])
ونجد للإضاءة في مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" حضورا متميزا حيث وظفها السيد حافظ في أربعين إشارة تقريبا. سواء ما تعلق منها بالتعميم ، أو الإظلام التام ، أو الإخفات ، أو تسليط البقع الضوئية ، أو تلوين الإضاءة . الكورس (الإضاءة عليه فقط) ([50]) (الأضاءة على قلب منتصف المسرح. وقد جلس الكورس حول مقبول) ([51])ففي هذين المشهدين تسلط الإضاءة على الكورس ومقبول فقط لأنهم هم الذين تنبني عليهم جل أطوار المسرحية حيث سيصبح البطل مقبول في رتبة عالية من الحكم بفضل الآخرين وهم الكورس الذين يستطيعون تنصيب وعزل خادم العامة.
وبعد ذلك (ضوء أصفر على المرأة والشاب) ([52])فالمخرج في هذا المشهد أعطى للإضاءة اللون الصفر الذي يرمز إلى نور الشمس فهذا النور الذي خيم على زوجة مقبول وأخيهار الشاب إنما يعبر عن نور الحكمة بينه وبين السلطة. فحينما يعود مقبول من السجن وتناديه زوجته (يذهب إليها الضوء يختفي) ([53]) ولاختفاء الضوء دلالة على أن المشهد مؤثر ويريده المخرج أن يمر في الظلام بحيث أخذت الزوجة زوجها مقبول إلى البيت لخوفها عليه من أجهزة القمع المتجسدة في السلطة التى تطارده أينما حل وارتحل. ثم تعود الإضاءة جديد إلى يمين المسرح حيث جلس الوالي والوزير([54])يتدبران أمر مقبول ويدرسان حالته وهو بدون عمل. ثم يحمل هذا الأخير الفأس (ضوء على زوجة مقبول بينما هو يحمل فأسا) ([55])ليصعد إلى الجبل ويعمل حطابا أو مزارعا وبرخوجه من البيت ستختفي الإضاءة من عليهما([56]) ليمر هذا المشهد هو الآخر في الظلام وهو مؤثر جدا لأن مقبول شعر بالغبن أثناء جلوسه بدون عمل. تهزه نفسه للعمل فى مهنة لا تليق بمستواه. ومقبول هنا لا تهمه المهنة بقدر ما يهمه الإنسلاخ عن الواقع وحب العزلة عن الناس وكأنه يريد أن يكون متصوفا لا دخل لشؤونه بشؤون السلطة ليترك أموره إلى الله. من هنا تبدو جلية تلك النزعة الدينية لدى السيد حافظ التي يجسدها في مسرحيته هاته بطلة مقبول.
فمقبول يريد أن يعيش زاهدا في هذه الدنيا ولكن لسوء حظه حتى الطبيعة تعلم مصيره المنتظر وتتأسف لحاله. "نور الشمس يرسم سؤال في الأفق"([57]) فالإضاءة في هذا المشهد طبيعية. تعبر عن ملل مقبول من واقعة المعاش فهو دائما مطارد يريد هذه المرة أن يبتعد عن الشر الذي سمارس على المظلومين في مدينة الزعفران ليبحث عن الراحة العقلية لنفسه المريضة بكثرة القهر والتعذيب.
وفجأة يصطدم بالواقع وتتعالى أصوات الكورس واحتفالاته بتولية مقبول منصب خادم العامة ليجد نفسه محصورا بين أفكاره التصوفية وما ينادي به الآخرون.(ضوء على الوالى والوزير.. ضوء على الكورس الذي احتشد في شكل هرمي يهتف بصوت خافت) ([58])وبذلك يصير مقبول منطويا على نفسه داخل القصر لا يشع نوره إلا قليلا كما جاء على لسان أبو المعاطي."صار هو الآن في القصري. القنديل يسمونه خادم العامة"([59]) أصبح مثل القنديل يذوب شيئا فشيئا إلى أن يتم عزله بشكل قاسي جدا حيث سيسحبه الحراس([60])وسيختفي الضوء من عليه ومن على الحراس ليرسم لنا المخرج مشهدا مؤلما في الظلام حيث ستتدخل السلطة بالسلاح لتفريق المتظاهرين ضد مقبول وبذلك يكون السيد حافظ قد نجح نجاحا كبيرا في رسم جميع مشاهد مسرحيته بطريقة جميلة تبرهن على أنه كاتب مسرح تجريبي بإمتياز.
- تجليات التجريب في المسرحية:
1- على مستوى الحوار المسرحي:
تقوم المسرحية على حوار لامع ، فكل شخصيات المسرحية تتحاور فيا بينها بناءا على موقف فكري لدى السيد حافظ بحيث أراد لهذا الحوار أن يكون حاملا لمواقفه وانفعالاته تجاه السلطة المستبدة المتسلطة . ويجسد ذلك مقبول عبد الشافى بطل المسرحية في صراعه الدائم مع هذه السلطة وحوارته الحاسمة التي تنير عقل الناس في مدينة الزعفران وتدعوهم إلى القيام بالثورة ضد الجور والمقع. يبدو ذلك بشكل جيد في حواره مع الكروس وتوعية هؤلاء بأنهم يملكون زمام الأمور كلها وباستطاعتهم عزل خادم العامة والوقوف فى وجه السلطة وهو حوار سياسي محض يبرز النزعة السياسية القائمة على الأفكار الثورية.
مما يتيح لنا فرصة الحكم على هذه المسرحية بإدراجها في إطار المسرح السياسي لأن جل حوارتها تكشف الوضع الذي تعيش عليه الطبقة المسحوقة وتدعو إلى رفض هذا الوضع وتغييره. وذلك بالاعتماد على فكر مقبول وشجاعة موقفه تجاه الطبقة الحاكمة في مدينة الزعفران.
2- على مستوى الشخصيات:
يملك السيد حافظ في هذه المسرحية قدرة بالغة على التجسيد ويملك قدرات واعية على رسم شخصيات هذه المسرحية بدقة وعمق وهذا ما يدل على معرفته العميقة والواعية على أن الشخصية الإنسانية في المسرح هي التي تمنح الدفئ والدم والحرارة([61]). بحيث نجده يعتمد كثيرا على شخصية البطل مقبول في تحركاته ومواقفه المتوهجة بالخطابات السياسية داخل مدينة الزعفران مع الإهتمام أيضا ببعض الشخصيات الأخرى كزوجة البطل أم معتز وأبو المعاطي رئيس الكورس. وعلى العموم فكل الشخصيات في المسرحية تلعب الدور الموط بها بشكل يتناسب مع أفكار السيد حافظ.
3- على مستوى الأحداث
إذا رجعنا إلى المسرحية نجد جميع أحداثها تكرس ذلك الصراع الطبقي داخل مدينة الزعفران. هذه المدينة التى ليست على الخريطة ولكنها داخل الإنسان. فالأحداث كلها تنبني على قيمة هذا الإنسان ودوره فى الحياة. وهل هو إنسان إنسان أم إنسان ح يوان؟. والواقع أن الحق مات في الإنسان. فمن ينقذ الإنسان من الضلال غير الحرية([62]).
من هنا تنطلق أحداث المسرحية المتجلية كلها في النضال والإستماتة من أجل الحرية التي تمت مصادرتها في المدينة مما جعل البطل مقبول يجري دائما وبصفة مستمرة وراءها مما أدى به إلى السجن الذي تلقى فيه تعذيبا مريرا. وبعدها سيخرج ليصبح حاكما للعامة إلا أنه في الأخير لم يستطع استغلال مكانته لإثبات قدراته الفكرية وتحقيق أحلام الجماهير التي أعتمدت عليه كثيرا في حل مشاكلها.
وفي الأخير سينحدر ويفقد عقله وبالتالي سيستبد حلمه الكامن في النضال من أجل الحرية.
4- على مستوى الحكاية:
إن مسرحية "حكاية مدينة الزعفران" عمل فني توفر له كل ما يحتاجه العمل الفني الناجح فالمسرحية تحمل فكرة إنسانية عميقة يحاول المؤلف أن يعالجها ويقتحمها ويثيرها على المسرح. إنه يقبض في مسرحيته على قلب مشكلة كبيرة من مشاكل الإنسان المعاصر وهى الحرية([63]). وبذلك يكون السيد حافظ قد تميز عن غيره من المؤلفين بمسرحيته هذه التى تجسد ذلك النضال المستثمر للشعوب من أجل الإنعتاق من الهيمنة والسلطوية والقمع الذى يتعرض له كل تواق إلى الحرية. وهذا ما جعلها تسرق الأنظار وتنال إعجاب المتلقى.
5- على مستوى الكتابة المسرحية:
يتناول السيد حافظ للمواضيع الكبيرة والحساسية مثل الكفاح من أجل الحرية الذي تجسده مسرحية"حكاية مدينة الزعفران" يكون قد أحدث ثورة في المسرح العربي. فالكاتب يهتم اهتمام بالغا في هذه المسرحية بمعنى وجود الإنسان وبالدور المنوط به من أجل انعتاقه. كما أنه يعمل على إيقاظ المتفرج ليشعر بأن هناك ماهوعجيب وماهو مؤلوف وما هو خارق للعادة ضمن حياتنا اليومية وهذه هي وظيفة المسرح الطليعي. كما أنه يقتحم في مسرحيته هذه اقضية معقدة شغلت كاهل الإنسان العربي في عصرنا الحديث. لذلك نجده يلجأ إلى أشكال ومضامين طليعية تتجاوز كل الحدود التي قامت عليها الحركات الطليعية السابقة . بحيث نلمس كل ركائز التكوين الإجتماعي في هذه الحكاية. وهكذا استطاع السيد حافظ أن يمنح ويحقق للمسرح الطليعي المصري استقلال ذاتيا وأن يحرر المسرح العربي من كل ما يمكن اعتباره من باب استبداد الكلمة المكتوبة. فهو يحيا وكأنه كله حواس التقاط تسجل وتعمل من داخل سيطرة التوتر والشعور بالحصر.
مما جعله يقدم لنا كتابات مسرحية جديدة ومتطورة مشحونة بالإنبهار المدهش، والمثير النابعين من صميم التكوين الإجتماعي والفلسفي لديه مما يجعله يتميز بنمط معين من الكتابة المسرحية عن باقي الكتابات الأخرى.
خاتمة:
إن التجريب المسرحي لا يمكن أن يتأصل في بلد بينه وبين عتبات الديموقراطية أشواط بعيدة ولا يزدهر في دولة لا تسمح مؤسساتها بوضع المسلمات موضع المساءلة، ولا تحت قيادة عسكرية أو شبه عسكرية لا تعرف سوى معنى الطاعة المطلقة والتصديق المطلق للقائد الزعيم الملهم ، ولا في ظل سلطة سياسية لا تعرف سوى معنى الإجماع ولا تحت هيمة طائفة دينية تنفي حتىغيرها من الطوائف فى الوجود أو الاختلاف عنها في التأويل.
ولا يصل فعل التجريب إلى درجة الحضور في ثقافة تفزع من الآخر ، وتتعود فيها الذات النظر إلى المغاير نظرة الريبة ، كأنها تختزل الموقف المتعصب للقطر المنغلق على نفسه. ذلك الذى ينظر إلى الأقطار المختلفة نظرة التوجس المستريب. ولن يصل فعل التجريب إلى حدة الأدنى في المجتمع الذي يقمع فيه النقل نقيضه العقل ، أو تكون السيادة للتقليد على الاجتهاد ، والإتباع على الإبداع ، والتعصب على التسامح ، والإجابة المطلقة على السؤال المفتوح.
وكثيرة هي التجارب التى قمعت بأسم الجماهير الكادحة ، وبعضها تحت راية الشعار ، وطن حر وشعب سعيد ، مع أن الوطن الحر يعني حرية الحوار مع النفس والآخر بالقدر نفسه ، والشعب السعيد هو الشعب الذى لا ينظر أفراده بعضهم إلى بعض نظرة الريبة ، وهذا ما ينبطق على تجربة كاتبنا الطليعي السيد حافظ الذي كون أول مسرح تجريبي في مصر إلا أنه تعرض للسخرية والتهميش من طرف الذين احتكروا اهيئة الثقافة المصرية والذين يقول عنهم أنهم فارغون من كل شيئ في الأقلام.
بحيث زوروا التاريخ زورا وبهتانا ونسبوا لأنفسهم حركة التجريب في المسرح.
وإذا رجعنا إلى أعمال هذا الكاتب الفنية وجدنا أن كل ما يقوله صحيح. بحيث تبرهن له هذه الأعمال عن الكفاءة العالية فى مجال الكتابة المسرحية التجريبية. فمسرحية من نوع جديد وباستلهامة للواقع الإجتماعي المصري عبر التاريخ وإدراج ذلك القمع المتجسد في الديكتاتورية المتسلطة التى حكمت مصر في مسرحيته الجميلة "حكاية مدينة الزعفران" التى يغلب عليها الطابع السياسي البارز من خلال الصراع بين سلطة الحكم المستبدة والطبقة المسحوقة التي لا تملك في أغلب الأحيان قوت يومها. وقد أنتهيت من خلال دراسة هذه المسرحية إلى النتائج التالية:
1- أن هذه المسرحية عمل فني توفر فه كل ما يحتاجه العمل الفني الناجح.
2- بحث السيد حافظ من خلال هذه المسرحية عن حرية الشعب في التعبير عن آرائه.
3- نزعة الكاتب الفكرية والفلسفية التي يعرضها بوعي وحكمة تتجسد في صراع الشعب الدائم والمستمر مع السلطة من أجل الحصول على الحرية المفقودة.
([1]) الدكتور يونس لوليدي: مقومات الفرجة في الكتابة المسرحية البحرينية – المناهج المعاصرة في الدراسات الأدبية ، منشورات وحدة النقد الأدبي المعاصر ناهجه وقضاياه ، كلية الآداب ظهر المهراز فاس ، سنة 1999 ، ص : 91.
([6]) سعد أردش: مقدمة حول مسرح السيد حافظ – السيد حافظ: ستة رجال فى معتقل ، سلسلة رؤيا للإبداع ، الطبعة الثالثة ، الكويت، 1980 ، ص : 19.
0 التعليقات:
إرسال تعليق