دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 86 )
مقام البوح على شرفة الجسد
رشفة من فنجان قهوة سادة
د. حنان حطاب
دراسة من كتاب
((التشظى وتداخل الأجناس الأدبية فى الرواية العربية))
" الجزء الأول "
إعداد وتقديم
نـجـاة صـادق الجشـعمى
كلمة عن الدكتورة / حنان حطاب
أتأمل كلمات قد قرأتها يوماً ما لكن أين؟ لا أتذكر.. كما تعلمون العمر يتقدم وسني الزمان رانت على قلوبنا الأوهام والأحزان.. لكن الذات للذات تتصابى وتعشق النفس وقد تكون تحلم وتتمنى في يوم ما يتحقق ذلك الحلم فتكتب على الورق الأبيض بمداد القلب وأحياناً بمداد الروح والدم.. وتقول الذات أشعاراً وقصصاً وروايات.. فمن الضروري استبعاد عواطفنا إذا كنا نريد الوصول إلى قرار سليم.. لأننا نرى بأعيننا، وعواطفنا تسكن بأعيننا..
هل تعلم ذاتي أنني علمت عنك الكثير والكثير.. هو من عرف الكثيرات الكثيرات غيري.. وأنا عرفت واقعاً بعيداً عنه أشواك وأحلام فتاة مهزومة ليست لها ذكريات.. تسربت من بين يديها الحياة تبخرت ذاتها أمام عينيها.. يطلب مني وردة وأنا كلي أشواك.. دليل براءتي صورتي فلن أحتاج أن أقدم برهان طيبتي.. ألا تصمتي أيها الذات وتكملي لنا ما قرأتي..
الأستاذة (حنان حطاب) من الجزائر من النضال والحرية ورفض السيطرة والاستعباد والمقاومة ومناصرة المرأة وإبراز مشاركاتها ودورها في المجتمع للبناء وتجدد الفكر والثقافة.. ليست المرأة القابعة في القبو تنتظر شبح الموت وإنما المتحررة ليس بمعنى البذخ والخلع وإنما بالتعفف والحلم والأناة والتعقل والتدبير والتبصير والتمعن والمشاركة ببناء الحضارة والرقي.. الجزائر التي سجلت في سجلات التاريخ بطولات انتصارات ليس فقط للدفاع عن الأرض وتحررها وإنما لتحرر العقل والفكر من دنس الأبجديات المصابة بفايروسات الأنا والضد والافتقار اللغوي والعاطفي والتقنية الفكرية ومعرفة ما يغذي الفكر ويدعم الأواصر الأيونية للإبداع والتقدم في مجالات الأدب والنقد الحديث.. من بلد يغذي الفكر ويهتم بالأدب والعلوم والفنون.. بلد المليون شهيد..
الدكتورة حنان حطاب.. ناقدة وأستاذة بجامعة (محمد لمين دباغين) في سطيف الجزائر..
تعددت الدراسات للنصوص الأدبية المتميزة والبارزة ومنها نصوص الكاتب البارع الأستاذ (السيد حافظ) التي حازت على الإعجاب والانبهار وأحياناً أخذت تدرس في الجامعات كمادة مقررة ضمن المنهج في قسم اللغة العربية.. اختارت الأستاذة والناقدة (حنان حطاب) ركن من أركان الرواية والأهم ما في النص لأنه الرابط الوثيق والحبل المتين والعروة الوثقى لا انفصام لها ألا وهو.. البوح والعشق في حرف الأستاذ السيد حافظ.. فقالت: البوح على شرفة الجسد.
(وحين أبوح أفتح لأنثاي جنون الروح وتمرد الكون والمسكوت عنها الذي لا يخاف دوماً أن يلوح وأحياناً أشتهيك شهوة الأنبياء للنساء ومن عجائب البوح نرى العجائب أنه يشيب الشباب والصبايا وله طقوس مختلفة من ذات إلى ذات ومن قلم لقلم في صحراء الفؤاد تتناثر القصص والحكايات ومنها متوج بالحميمية ورشف العشق ومنها ما قتل.. فتكون الكتابة هنا سحراً لمن لا سحر له.. تأكدت أن الحياة كتاب وما بين دفتيه تحفه الأسئلة والقراءات والتأويلات وخطوط بيضاء في ظلمة داكنة من فنجان قهوة سادة..
الدكتورة حنان حطاب.. والأستاذة الناقدة ذات الحرف الممشوق والرشيق الذي إذا ما حل تتراقص الشهقات وتدنو منه الشفاه لتلتقف قبلة منه وتمتص رحيقه لتتعطر وتنشر العطر على جسد العاشقين.. ولحرفها فلسفة في حياة تكتحل بها الذات ويدنو السمر والسهر لقراءة تلك الدرر في سماء الأدب والنقد.. فماذا أفعل؟ هل أتجاهل؟ أم أحرص وأحرس هذه الدرر من كيد البشر.. بعد كل دراسة نقدية أكتشف قيمة وجمالية وحقيقة لتحفة فنية فأصبحت عاجزة غير قادرة على الإيفاء والخشية والخوف ترتعش أناملي من احتمال أن تتحول إلى لصوص لتسرق هذه الحروف المذهلة والبارعة الجمال بالمعنى والمكنون وأحيانا تطفر دموعي أتذوقها مالحة تحرق جفون الأبجدية ليأسها وتحديها الحاني لتلك المشاعر الخفية المتحدية رغبة الذات لتلوع الجسد.. فتبوح للأبجدية بمصداقية.. هذا ما أكدت عليه الأستاذة والدكتورة (حنان حطاب)..
يقول ابن رضوان: الأوطان أحلام وأكفان وأماكن وهمية تصنع لنا جواز سفر في الروح قبل المدن..
بين القبول والحب شعرة.. الناس تكره وتحب بعضها بلا سبب.. الناس تحب أحياناً بسبب واهٍ.. خلق الإنسان ساذجاً أم شريراً..؟ لا أدري.
البوح على شرفةٍ الجسد.. رشفة من فنجان قهوة سادة.. إثارة فضولي للنظر في تلك الخطوط البيضاء وهي تبوح للعتمة وتشق السواد الحالك للفنجان وأنا أتأمل تلك الصور المرصوصة والأشكال المرسومة مشغولة الفكر في حل رموزها وتفسيرها لأنني عشت أكره الفنجان طول حياتي إلا رشفة من فنجان أبجدية البوح.. هل أحتاج أن أتأكد ما يكن في ذات الذات أم إعجابا وانبهاراً بما رسم على جسد الرواية لكي تغدو كتابة الذات طوقاً للنجاة.. وحبلاً للخلاص الذي يقود تلك الذات لذاتها.. تقول الدكتوره (حنان حطاب).. الكتابة قد تكون احتراف أو هواية.. أو كما قالت الدكتورة: قد تكون عادة.. وفعلاً وجودياً يضمن توازن الذات وتحددها واستمرارها.. فرحلة الذات تكشف الظلمة وبتلك المناطق ذات السواد التي طالما بحثت عنها لتكحلها ببياض البوح وزرقة السؤال الدائم.. إذا هذه هي فلسفة الكاتب البارع ذات الحرف الذي شهق البوح للجسد ففاح عطر العشق بالقبل وقطرات الندى تساقطت على الشجر وعاد ربيع الأصم ونطق الأبكم..
أبدعت الدكتورة (حنان حطاب) بوصفها للذات ومكنوناتها بذلك الفنجان معتم السواد ربما ينطق من صخب أجساد متعطشة وأرواح متمرة وأحيانا الذوات تفقد ذواتها فتبحث عنها من خلال رشفة من فنجان السيد حافظ في قهوة سادة على رشفة جسد سهر..
تقول الدكتورة (حنان حطاب).. رواية قهوة سادة.. جريئة تعلي صرخات الجسد بكل ركن من أركان الرواية.. فبدأت الرواية (بحكاية عشق سهر والقمر) علاقة سهر والعشق وتنحي عبد الناصر.. بذكاء السرد والحكي لتلك الشخصيات وخيوط الرواية المتشابكة.. لكن الكاتب بذكائه وعبقريته وخبرته والقدرة الفنية والحسية حبكها وجعل المتلقي شريكا معه ومتابعا أيضا..
أنا شمس.. أحرفي تذيب الجميلات في نهر الجنون.. ويشربهن في نخب العشق.. فاحذري الشمس في السماء ضياء.. وفي الأرض بهاء وماء وارتواء ونماء ونساء.. يهمني اسمك.. سهر.. سهر العنوان أنت الوحيدة التي غزت قلبي وروحي..
الدكتورة حنان حطاب.. تعرج على معنى اسم سهر.. يعني الجبل.. الليل البحر.. السحر.. وأحلام الشباب المراهقين والرجال العجائز على أبواب البوح والعشق.. لسهر.
وكاظم وعشق سهر.. عشق المعلم لتلميذته.. وعشق شهرزاد لأرواح سهر.. شهرزاد تلك المرأة الجميلة ذات الوشم الأخضر والجمال الذي يذهل البشر وكل من عرف سرها ذاب واندثر.. ذات البصيرة الخارقة الملمة بالأسرار وحاذقة وذات عين خارقة في قراءة الفنجان.. ملمة بتفاسير الأحلام وقراءة المستقبل.. ونظرات عيون العاشقين.. وتميز جمال شهرزاد وسهر بذلك العطر والعشق.. المبهر للبشر..
رغم ثورة الجسد ورغبة الذات.. تظل الجميلات يسحرن الرجال ويتزوجن.. القلق والصداع في صمت.. وهل من مدكر.. فالكاتب البارع والمبدع العبقري (السيد حافظ) لن ينسى عذابات الروح.. عذابات الوعي الحسي فللجسد والروح مكانة رفيعة لديه.. فيقول:
هناك أرواح معذبة تأتينا بفيض من نور وإبداع يرفرف على الجسد وعلى الدنيا التي تاه فيها الحق مع الباطل والمفلس مع الغني في الإبداع على مقهى زهرة البستان أو نوادي الإبداع الأدبية والنقدية..
وتستمر سهر وفتحي رضوان خليل..
أترقب ليلى كي أصحو
وأسامر نجمة أو بدرا
بفؤاد منفطر آس
محترق يتقطر جمراً
لا تبتعدين يا سهر.. فأنت الروح والجسد
أنت مني.. فلا تبتعدين عني..
مقام البوح على شرفة الجسد
رشفة من فنجان قهوة سادة
د. حنان حطاب
أستاذة بجامعة محمد لمين دباغين
سطيف – الجزائر
قد تعجز الذات عن فهم ذاتها.. واستيعاب الآخر من حولها، حينها يتحول العالم الإنساني إلى كتلة من التناقضات التي لا تحيلك إلا على أزمة حقيقية، غير أن الذات بوصفها تمردا / ثورة، تحاول الخروج من مأزقيتها نحو عالم التكشف والبوح عن اللامعبر عنه، فلا تجد سبيلا لها غير هداية الكتابة، والانطلاق في كشف عوالمها الداخلية، لتغدو كتابة الذات طوقا للنجاة..وحبلا للخلاص الذي يقود الذات لذاتهاوإلى آخرها وتغدو الحياة فعلا كتابيا تحفه الأسئلة والقراءات والتأويلات، وكأن الكتابة إعادة خلق شيء من شيء آخر.. أو بعث للروح بعد أن جفت القرائح والأجساد وتهاوت جثثا مواتا إلا ذات فيها.
من هنا تغدو رحلة الذات كشفا عن المنطقة المظلمة فيها وبحثا في مناطق السواد وتكحيلها ببياض البوح وزرقة السؤال الدائم.
من هنا تغدو الكتابة سحرا لمن لا سحر له.. وفعلا وجوديا يضمن توازن الذات وتجددها واستمراريتها.. فلا تكف مساءلة الذات لذاتها عن مداعبة وعينا في محاولة للانوجاد.. فالبحث عن الذات رحلة وجودية ترتحل عبر مفاصل الحياة الإنسانية، وعبر جسد قهوة سادة فتنطلق ال "أنا" متحدثة عن رغباتها وأهوائها وتمثيلاتها الغريزية(*) وما تفتقد في الواقع، وتتحول الكتابة من مجرد سواد إلى بياض، إلى نوع من الفلسفة في الحياة، ويتحول فعل الكتابة رغبة في بلورة الأسئلة التي تمنح للوجود معنى حقيقيا، معنى يحرر المبدع ويحرر معه القارئ والمتهم من احتمال التحول إلى مجرد رؤوس وسط قطيع.. فالذات حين تشعر بثقل العالم فوق كاهلها، تلجأ للكتابة فيصير فعل الكتابة معادلا للنجاة، والمخرج الوحيد المضمون للانفلات من ثقل الروح المتعبة..، فالكتابة تمكننا مساءلة المجتمع وتسعى لخلخة قيم استشرت بعنف فيه".([1])
وقهوة سادة جاءت لتجيب عن تقلبات هذه الذات وأوجاعها.. كيف تتموقع هذه الذات أمام ذاتها.. ثم كيف تنكشف أمام آخرها، كيف تتعرى ذات سهر وتنكشف أمام ذاتها وأمام آخرها ممثلا في كاظم (العاشق الولهان) وشهرزاد (رمز الحلم والرؤيا) وفتحي رضوان (زوجها بعد15 عشر عاما).
كيف تكون شرفه الجسد مقاما للبوح.. وسبيلا للبحث عن هوية الذات.. كيف ينكشف الجسد أمام الذات؟
كيف تتعرى الذوات في مرآة فنجان من القهوة.. السوداء المعتمة الثقيلة.. المحملة بالأسى والهروب والمتعبة بسواد الليالي الحالكات وبأرق القلوب العاشقة..
بين صخب أجساد متعطشة وأرواح متمردة.. ذوات تفتقد لذواتها.. وتبحث عنها من خلال كل رشفة من فنجان قهوة سادة.
.. على شرفة الجسد
يطرح النص السردي اليوم إشكالا محوريا على صعيد القراءة والتأويل حول طبيعة اللغة وعلاقتها بالمتلقي ، ومدى إسهامها في تحويل ادراكاته المعرفية اتجاه آفاق جديدة ومدى احتوائها على أبعاد دلالية ومعرفية وأخلاقية لاسيما بعدما كثر الحديث عن لغة الجسد
منذ الأسطر الأولى، تعلن الرواية وبكثير من الجرأة صرخة الجسد في كل ركن من أركانها، وعبر كل شخصياتها التي تتداخل ضمن لعبة درامية شخصياتها مربكة، متناقضة تعبث بذواتنا وتخدعنا برائحة عطر يتسرب إلينا عبر أحداث الرواية.. رواية تنطلق من تعانق الأجساد لتروم تفجيرها والانسلاخ عنها..
تبدأ رواية قهوة سادة.. حكاية سهر والعشق والقمر، بعلامات النضوج الأنثوي عند سهر واقترانها بحادثة تنحي الزعيم عبد الناصر لتأخذ خيوط الرواية(*) بالتشكل وتتبدى للقارئ –تدريجيا- شخصيات/ أجساد النص..
سهر: "اسم يعرفه الليل والبحر والسحر وأحلام الشباب المراهقين والرجال العجائز على أبواب الدكاكين والمحلات في الجبل في بلاد الشام".([2])
أما كاظم.. فعاشق سهر "معلم اللغة العربية في مدرسة سهر 40 سنة، أشقر وسيم.. العاشق لها في صمت يحب كل الصباحات كي يراها.. يريد أن يتنفس وجودها في الفصل.. في المدرسة، في الحي في القرية.. في الكون.."([3])
وأما شهر زاد.. فالمرأة ذات بصيرة حادة.. قارئة للمستقبل.. وملمة بعديد الكتب والتفاسير.. قارئة للكف ومفسرة للأحلام.. "شهر زاد لم تتزوج، ولكن سميت بشهر زاد لأنها أسعدت أناسا كثيرين بقراءة كفهم.. شهرزاد على ذقنها وشم أخضر، هي بيضاء عيناها زرقاوان.. قالوا من جمالها تزوجها جني جميل ومنع كل الرجال عنها أو الاقتراب منها".([4])
أما فتحي رضوان.. "سيكون حبيب سهر بعد 15 عشر عاما(..) شاب 17 عاما.. مصري الملامح.. عربي الفكر.. عالمي الإحساس بالجمال، كان يذاكر الثانوية العامة أدبي"([5])
شخصيات محورية في رواية قهوة سادة.. تتواطؤ على حب الجسد والغرق في متاهاته.. تتعاتق مع سهر الليالي.. يفضح السارد من خلالها تورط العربي وفشله الذريع في علاقته مع الجسد.. ولهذا يحاول من خلال الخوض من مناطقها المحرمة الكشف عن الذاوت من خلال الأجساد.. فيكون مقام البوح من على شرفة الجسد.
ترسم الرواية ملامح شخصياتها من خلال لغة الجسد الذي يصبح مصدرا للتخيل ولبعث عديد الشفرات الوجودية، فهو يتجاوز الجانب الفيزيقي ليكون حمالا لفلسفة أو فكر، ويعكس بشكل أو بآخر الذات التي تختبئ وراء ذلك الجسد.. دون أن تنفصل عنه.. "فالجسد – والقول ل مين دوبيران–Maine de Biran- ليس جسدا عضويا.. وليس كيانا حيا ولا جسدا إنسانيا، إنه جسد يتعإلى عن هذه الظواهر التي من خلالها يقدم لنا نفسه، وبما أنه جسد يعيش في العالم، فإنه يوحد بين شكلين أو نمطين من أنماط وجوده أي وجوده ومظهره في الجسد الشخصي".([6])
لم تسلم سهر الطفلة البريئة من لعنة الجسد التي تضفيها قهوة سادة على كل من يرتشفها.. "ابنة السابعة عشر ربيعا التي كلما سارت في الأزقة أو الشارع يبعث نهداها في قلوب الرجال إشارات كهرومغناطيسية بفرح.. هي تعرف أن الله جميل.. وأحيانا يمنح أنثى من روحه ومن وجهه ألقا".([7])
سهر مثلما رسمت صورة طفلة جميلة بريئة مثلت نزوة صغيرة في بداية تشكلها، وفتنه كبيرة في قلوب الكثيرين "كل صباح تنظر سهر في المرآة.. تنظر في عينيها.. يرتعش رمشها، تجد فتنة مختزنة لو وزعت على النساء العابرات في مدن الجمال لفتن رجال العالم العابرين على جسور العشق.. "([8])، بل إن السارد يبالغ في فتنه هذه الطفلة المراهقة وجاذبيتها من خلال تلك العلاقة التي ربطتها بعصفور الكناري الذي لطالما تسلل إلى غرفتها وداعب أحلامها وخصلات شعرها، والذي لم يسلم هو الآخر من فتنة جمالها وإغماءة عطرها إلى درجة أنه تمنى أن يتحول إنسيا.. بشرا يتسنى له عشقها.. "أخذت العصفور في حضنها ونامت.. وتدفأ المجرم الصغير.. ونام بين النهدين يحلم ويسأل الله أن يتحول إنسيا.. ولو ليلة.. ساعتين.. نصف ساعة.. دقائق.. لكن لا فائدة تقدم ببطء من شفتيها ونال قبلة.. فتحت عينيها..
أي.. أي
ضحكت ضمته، وضمته مرة أخرى إلى نهديها وشدت اللحاف، لم ينم العصفور وطاف بخياله ألف حلم.. آه لو كان بشرا يطاف بها في الفراش حول الكرة الأرضية واغتصبها ألف مرة.. تزوجها رغما عن أنف كل البشر.."([9])
و يواصل السارد الحديث عن الجسد مع كاظم.. عاشق سهر، وبعيدا عن هيمنة الذكورية التي طبعت النصوص السردية وعبرت عن ملامح الرجل العاشق الدنجواني.. تبرز لنا شخصية كاظم الذي يعيش قصة حبه في صمت قاتل، حب تحت وقع المسكنات، وأقصد أحلام اليقظة وكتب الجنس ومهدئات فرويد وكولن ويلسن.. كاظم الذي "لم يلمس امرأة في حياته، لم يضاجع أنثى.. ولكن أمامه الكتب تشرح ما هو الجنس.. يعرف الجنس بأنه جملة من الخصائص التشكيلية والفيسيولوجية العضوية التي تؤمن التكاثر الذي يتلخص جوهره بالتلقيح في نهاية المطاف".([10])
و هنا تناقش هذه الرؤية علاقة كاظم بالجسد من خلال الاكتفاء بعالم الأحلام والتخيل، الأمر الذي يكشف عن رؤية السارد للرجل العربي والجنس والتي تتسم بالغباوة واللا حرفة "العربي لا يفلح إلا في مضاجعة النساء.. وهذه المقولة ثبت فشلها بعد أن كتبت الأجنبيات الأوروبيات مذكراتهن مع العرب في الفراش، فسمعة العربي في فراش الجنس صدفة وليست حرفة، فمستواه ضعيف ومترد وهمجي مثل الكلاب.. المرة والوحيدة التي نجح في جيش مصر بكرباج محمد علي الذي دربهم على القتال وضعوا في أذن الفلاح المصري اليمنى بصلة واليسرى قطعة قطن حتى يعرف اليمين من اليسار.. فكانوا يقولون باتجاه أذنك التي بها بصلة أو القطنة"([11])، والأمر ذاته كان مع فتحي رضوان زوج سهر بعد 15 عاما والذي عرف بمواقفه السياسية ودفاعه عن الوطن غير أنه تخبط بين ألاعيب النساء وأجسادهن وأكاذيب السياسة ومشاكلها "كان فتحي يسأل نفسه دوما.. لماذا النساء في حياتي ضرورة كالماء والهواء وخطب عبد الناصر والميثاق، ومقالات هيكل يوم الجمعة.. ولم يرتشف الوجود والعدم من سارتر والعبث من ألبير كامي وصامويل بيكيت، لماذا تبحث عن كل كتب كولين ويلسن.. لماذا يبحث عن الجاحظ ويعشق المبني ونهود ناهد حجازي وفيفيان وماجدة، والمظاهرة التي يخرج بها الطلبة من أجل فلسطين والجزائر واليمن.."([12])
فتحي رضوان الذي اهتم بالأحداث والمواقف السياسية وساند المظاهرات والثورات الشعبية,,, لكن لسان حاله لطالما ردد ".. يدها الحانية، أحن من يد الوطن على كتفي".([13])
وفي مقابل هذا الانخذال الذكوري تقتحم الأنثى خصوصية جسد النص من خلال شهرزاد.. فهي عكس كاظم (الفاشل جنسيا) مثقفة جنسيا.. لعوب وذكية وقارئة للمستقبل.. وقد مثلت هي الآخرى مساحة للصخب الجسدي من خلال الخبرة في تعليم النساء والرجال وتلقينهم آداب وفنون العلاقات.. رغم أنها المرأة التي فقد قلبها بوصلته، إلى بر الأمان.. وصار جمالها فتنة ونقمة منعتها من الزواج "هكذا الجميلات يا وردة يسحرن الرجال ويتزوجن القلق والصداع في صمت".([14])
على شرفة الروح
في حضرة الجسد تولد أسئلة الهوية والانتماء وفي حضرة الجسد ينحت السرد وتتفاعل الكلمات وتتناسل الأفكار وتتهاوى..فداخل جغرافية الجسد تكتب الكلمات وتسافر في أبعادها الدلالية باحثة عن كيانها/هويتها/وجودها
هكذا بدت الرواية.. عالما من الأجساد التي لا تحسن غير لغة الجسد والحركات.. أجساد تتآكل من الداخل.. تتهاوى نفوسها وتختنق من شدة الحلم ولا الظفر.. أجساد ترفض الانكشاف لأنها اكتشفت أنها بلا هوية.. بلا انتماء.. أجساد عارية لا وجود لها.
لكنها أجساد تبحث عن الانتماء والهوية.. هذه الأخيرة التي تمثل عند ادموند مارك "ظاهرة معقدة ومتناقضة، أيضا الواقع أنها ظاهرة التميز والاختلاف غير القابل للاختزال عن الآخرين، لكنها تعني أيضا ما هو مماثل أي ما هو مشابه تماما مع بقائه متميزا (..) إنه يوحي بأن الهوية تتحرك بين التشابه والاختلاف، بين ما يجعل منا فرد متميزا ويجعلنا مشابها للآخرين في الوقت نفسه .يبين علم النفس جيدا بأن الهوية تتشكل بحركة تماثل واختلاف مزدوجة مشابهة للآخرين وتميز عنهم"
غير أنها لا تتشكل خارج الجسد.. بل يمثل دعامة أساسية لتشكل هذه الهوية وتحديد ملامحها، ورغم سطوة لغة الجسد على رواية "قهوة سادة" إلا أن هذا الجسد يحدد هوية الرواية بعيدا عن كونها رواية جسد أو رواية جنس.
إنها رواية جسد يبحث عن هويته عن روحه، يبحث عن السكينة بعيدا عن المساومات.
إنها رواية وقوع الذوات تحت وطأة الجسد وتلاشي الهويات تحت رحمة الشهوة، إنها انعكاس لقلق وجودي.. ولحياة عبثية وسجن إنساني داخل بوتقة الجسد.
اللعبة التي أراد السارد أن يتخفى وراءها ليرسم ملامح الذوات العربية الحائرة والأجساد المتمردة.. إنه الجسد العربي الذي استبيح للجميع فاغتصبوه دون رحمة.. إنه جسد الوطن العربي وأي وطن هذا.. وطن عار من اللباس من الأمان من الحقيقة من الحياة والحياء، وطن بلا روح ،وطن من ورق.
إنه الوجع المصري الذي يتملص من المسؤولية، فلا يجد غير وسوسات الشيطان وإغراءات النساء.. " كلما حاصرني حب الوطن بنيرانه وأسهم حقده.. وحاول قتلي هربت منه تحت جلد النساء حق أضمد جراحي.. " وهو تعبير عن حاله الاستسلام الروحي.. أين تغيب الروح وتعلو سلطة الجسد التي تعري عفن النفوس.
إنها حالة من الاغتراب الروحي والاضطراب النفسي تعيشها شخصيات الرواية لتنكشف من خلال المخاوف والأوهام التي يعيشونها.
فها هي سهر تعيش حالة خوف من مستقبلها وجمالها، وتخشى أن يكون جمالها لعنة عليها مثلما كان مع شهر زاد.. وها هو كاظم غارق في أوهامه ينام على حمى سهر ويستيقظ معانقا أحد كتبه.. وأما شهر زاد فقارئة المستقبل التي عجزت عن قراءة مستقبلها وفشلت طقوسها وكتبها وثقافتها عن نزع لعنة جمالها.. وها هو فتحي رضوان أسكرته المظاهرات والشعارات وأتعبته النساء المتعددات الجنسيات وقاتله الشعور بالازدواجية وأللانتماء..
"وجدتني أثناء محاكمتي أبكى لأني سمعت دقات قلب الوطن تلازم دقات قلبي.. وجدتني مواطنا بلا وطن.. وجدتني مشروع كاتب في وطن أمتي.. ومثقف وسط أدعياء.. وطبيبا وسط أشرار.. وجدتني حلما يمسح مؤخرة الوطن الذي يضاجعه الأثرياء من عسكر يوليو الذين سرقوا مجوهرات الملك فاروق وسنوات مصر وأصبحوا باشوات هذا الزمان.. وجدتني بسمة على شفاه أطفال لا تعرف الرياء.. وجدتني أعشق كل الأنبياء وأنه من الغباء ألا نشعر أن الإنسان خليفة الله على أرضه وتحت سمائه".([15])
أليست هذه أجساد حائرة تشعر بالانتماء واللا هوية بعد أن سجنتها أجسادها وأفرغتها من روحانيتها.. أفرغتها من حب الوطن وملأتها بحب الأجساد الفانية، أفرغتها من الأمان وملأتها بالوجع، وأي وجع هو:"أه.. أشرقت في نفسي لحظة اكتشفت فيها أن الوجع ليس له هوية وليس له انتماء.. اكتشفت أن حب الوطن والكتابة عناء ألقيت أشواقي على أحرف اسمك يا وطني فتحولت على الورق إلى ثلاث زهرات ذابلة.. "([16])
إن السارد ومن خلال "قهوة سادة" يحاول رسم ملامح الجسد العربي عموما والمصري بشكل خاص، الجسد الهارب من هويته وانتمائه والمتخفي وراء لعنة أجساد عارية.. غير أن بذور الأمل ما زالت فيه تبعث فيه الأمل لغد أفضل، ووطن أفضل.. "الوطن يذبل ويموت كالزهور ثم يحيا بعد أن نلقي فيه ببذور عشق جديدة".([17])
كانت هذه رشفة من فنجان قهوة سادة.. سوداء كالليالي الحالكة.. ومرة كمرارة الحياة في وطن غريب تاهت روحه واغتصب جسده..
فـ "إذا مر قبلي على بابكم أخبروني فقد ذهب ليبحث عن وطن ليتدفأ به في هذا الشتاء".([18])
"أكتب هذه الرواية بحثا عن روح مصر
المتخاذلة سبعة آلاف عام، وبحثا عن
روح مصر أخرى، للإنسان فيها معنى
وقيمة وحضارة حقيقة فعلا وقوة"
السيد حافظ
قائمة المصادر والمراجع
المصدر:
السيد حافظ: قهوة سادة (رواية)
الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ط1، 2012.
المراجع:
1. فريد الزاهي: النص والجسد والتأويل:
2. عمر محمد منيب أدلبي، سرد الذات فعل الكتابة وسؤال الوجود دراسة في فن السيرة الذاتية، إصدارات دار الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2008.
3. كاترين هالبيرن وآخرون: الهويات الفرد، الجماعة، المجتمع، ترجمة إبراهيم صحراوي، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2015.
السيرة الذاتية
حنان حطاب بنت رمضان زوجة حديدي
الدرجة العلمية: أستاذ محاضر صنف "ب "
تاريخ ومكان الميلاد: 14/02/1985 ولاية سطيف - الجزائر
الكلية: الآداب واللغات
الجامعة: محمد لمين دباغين سطيف2
التخصص: مدارس النقد المعاصر وقضاياه.
عضو في مخبر تحليل الخطاب بجامعة محمد لمين دباغين سطيف 2
الهاتف: 07.99.16.16.28
البريد الإلكتروني: hhattab.hanane@gmail.com
الشهادات المتحصل عليها:
1- شهادة دكتوراه العلوم . تخصص مناهج النقد المعاصر وقضاياه / جامعة محمد لمين دباغين سطيف2 /سنة 2017/ بموضوع موسوم ــبـ: في فهم الخطاب السردي مقاربة تأويلية في روايات واسيني الأعرج.
2- شهادة الماجستير في النقد والمناهج /سنة 2011 /جامعة عباس لغرور خنشلة/ تخصص نقد ومناهج / الموضوع: اشكالية الاختلاف في تفكيكية جاك دريدا.
3- شهادة الليسانس في الأدب العربي سنة2008/جامعة محمد لمين دباغين سطيف2/ تخصص أدب عربي/ الموضوع: مفاهيم الحداثة عند أدونيس.
4- شهادة البكالوريا في الآداب والعلوم الإنسانية سنة 2004.
المشاركات في الملتقيات العلمية:
· المشاركة في الملتقى الدولي:" الأدب الجزائري في عيون الغربيين "المنعقد بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة يومي:06-07أفريل 2015 بمداخلة علمية تحت عنوان:الرواية الجزائرية في مرآة الآخر "جدل الائتلاف والاختلاف".
· المشاركة في الملتقى المغاربي حول التجريب وآلياته الإجرائية في النص الروائي المغاربي المنظم يومي 21/22 أكتوبر 2014م بجامعة العربي بن مهيدي – أم البواقي بمداخلة تحمل عنوان: الرؤية السينمائية في النص السردي، لاروكاد لعيسى شريط أنموذجا.
· المشاركة في الملتقى الوطني حول النقد الجزائري والمرجعيات المستعارة المنظم يومي 14/15 أكتوبر 2014م بجامعة خميس مليانة بمداخلة تحمل عنوان: التفكيك وأثره في النقد الجزائري المعاصر: قراءة في مشروع بختي بن عودة.
(*) قهوة سادة (رواية) للسيد حافظ: رواية من 400 صفحة تضم فصلين: الفصل الأول: حكاية سهر والعشق والقمر. وهو الفصل موضع الدراسة الفصل الثاني: حكاية نفر وإخناتون والنيل .صدرت الرواية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2012.
([1]) عمر محمد منيب إدلبي، سرد الذات فعل الكتابة وسؤال الوجود دراسة في فن السيرة الذاتية، إصدارات الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2008، ص 64.
(*) "بقعة دم على قميص نوم سهر
خافت.. ارتعدت.. بكت.. جاءت الأم مهرولة..وجدت بقعة دم حمراء في ثوبها.. زغردت الأم..ثم ارتعدت..لقد بلغت سهر نضجت اليمامة.. الحمامة..الوردة.. تفتحت مبكرا.. أصبحت طفلتها أنثى.. طفلتها ذات الاثني عشر عاما.. قهوة سادة. ص 15.
([2]) قهوة سادة: السيد حافظ.ص20
([3]) قهوة سادة: السيد حافظ، ص 20.
([4]) قهوة سادة: ص 18.
([5]) قهوة سادة: ص 32.
([6]) فريد الزاهي: النص والجسد والتأويل
([7]) قهوة سادة: ص 16.
([8]) قهوة سادة: ص 19.
([9]) قهوة سادة: ص 16.
([10]) قهوة سادة، ص 23.
([11]) قهوة سادة، ص 45.
([12]) قهوة سادة: ص 84.
([13]) قهوة سادة: ص 73.
([14]) قهوة سادة: ص 241.
([15]) قهوة سادة: حافظ السيد، ص 35.
([16]) قهوة سادة: حافظ السيد، ص 35.
([17]) قهوة سادة، ص 35.
([18]) قهوة سادة، ص 35.
0 التعليقات:
إرسال تعليق